يثور، بين الفينة والأخرى، جدلٌ حادٌّ بين اتجاهات فكرية وسياسية بشأن موقف الإسلام من حقوق الإنسان، بين قائل بتبنّي الإسلام هذه الحقوق ومنكرٍ ذلك. وكثيرا ما يأخذ الجدال شكل سجال عقيم. .. فهل تبنّى الإسلام حقوقا للإنسان؟
أسس الإسلام نظرته إلى الإنسان على ركيزةٍ جوهريةٍ، هي فرادة الإنسان بين مخلوقات الله عز وجل، لكونه ذاتا عارفة “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا”، وعلى موقعه المتميز في المعادلة الكونية “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، ومكانته الخاصة “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ”. وقد انطوت فلسفته العامة على تبنٍّ كامل لحقوق الإنسان، من خلال منطلقه الرئيسي، وهو احترام النوع الإنساني، وتكريمه الواضح بني الإنسان “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” أولا، ومساواته بين البشر جميعا في أصل النشأة والخلق “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” ثانياً، وربطه قيمة الفرد بالعمل الذي يقوم به، لا بشيء آخر من لون أو عرق أو جنس “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” ثالثا.
وقد تعدّدت أشكال تكريم الإسلام الإنسان من جعل الكون؛ بما فيه من قوى طبيعية ومخلوقات نباتية وحيوانية، تحت تصرّفه، فاستخدم مفردة “سخرة” التي وردت في القرآن الكريم 17 مرة، للدلالة على طبيعة العلاقة بين الطرفين ومادّة لفعله، ومن جعل خلافة الإنسان في الأرض منطلق بناء شخصية إنسانية قوية، وقادرة على تمكين قيم الحق والعدل والمساواة والسلام والخير ومواجهة الباطل وحماية الأرض من الإفساد، ومن اعتبار توفير ظروفٍ معيشيةٍ تناسب كرامته الإنسانية واجبا على أولي الأمر تحقيقه في حدود ما اصطلح على تسميتها “الكفاية”، ويعني أن يتوفر له كل ما يكفيه، حتى لا تشغله مطالب معيشته عن واجبات “الاستخلاف” المحدّدة بإعمار الكون وإحقاق الحق ومحاربة الباطل، ضمانة لحريته، حيث قدّمها على إقامة الدين ذاته. قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”: نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرّغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟ فإذن: إن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة، شرط الدين”. وهذا لا يتحقق من دون حكمٍ صالحٍ وسيادة العدل والمساواة، وما تستدعيه من قيم الحرية والكرامة التي تفتح باب الإبداع والإنتاج.
أما النقطة المركزية في موقف الإسلام من حقوق الإنسان، فتكمن في الإقرار “بفردية” حقوق الإنسان وواجباته ومسؤوليته عن ذاته وأفعاله التي عكستها رؤيته للعمل الإنساني “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ”، و”وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ”، و”وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا”. وحماية خصوصياته، مثل منع التجسس أو الاغتياب، “وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا”، أو الاستهزاء والتنابز، “وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”، أو الافتئات على الآخرين “وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَٰدَةً أَبَدًا وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ”، أو التطفّل على الآخرين “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”، واحترام خصوصيات الآخرين “فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ”، وحماية أموال الفرد بالحضّ على كتابة الدّين، وتسجيل العقود، وتحريم أكل حقوق الآخرين “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”.
الدين من منظور إسلامي وُجد لخدمة الإنسان، وقد تجلى ذلك من نظرة الإسلام إلى الحلال والحرام، حيث اعتبر الأصل في الأشياء الإباحة، فأسقط ما عرف في بعض الحضارات بالخطيئة الأصلية، وربط التحريم بالضرر الذي ينجم عن العمل، وفتح التجربة الإنسانية على الإبداع والخلق، وأعطى الإنسان حرية الاختيار والتصرف. وقد دلّ على ذلك من خلال قرنه الحكمة، التي هي ثمرة الإبداع الإنساني، بالكتاب الذي هو الرسالة الإلهية في عشر آيات قرآنية، أي جمع الوضعية والرسالية في موقف إنساني واحد، مثل قوله “وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ”، و”يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ”، وجعلهما جزءا من عالم الإنسان، من دون أن يفصل بينهما أو يفضل أحدهما على الآخر.
وقد كرّس الإسلام تبنّيه حقوق الإنسان بإقراره بحرية الاعتقاد “لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ”، و”أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”، وبتمكين الإنسان من ممارستها من خلال تحريره من الخوف على “العُمر” و”الرزق”، حتى لا يستسلم للتهديد والابتزاز، بإخراجهما من دائرة القرار الإنساني، “إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ” و”إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ”، وربط الدعوة إليه بالإقناع وبالطرق السلمية، “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” و”لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”، ومن خلال تحريم التنازل عن هذه الحقوق ومعاقبة المظلوم لقبوله بالظلم والاستضعاف “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا”، والعفو عن العاجز موضوعيا “إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ”.
وقد أخذ بعضهم على الإسلام ما اعتبره تقديم الذكر على الأنثى في الحقوق، ولكن التدقيق في الأمر يوضح عدم دقة هذا الاستنتاج، فالمرأة في نظره مساوية للرجل في آدميته، ومكلّفة مثله بكل العبادات من دون تمييز، ودورها تكاملي مع دوره في ضوء اعتباره الأسرةَ الوحدةَ الأساسية للمجتمع وتوزيعه الأدوار داخلها بما يحقق هذا التكامل. وهذا يفسّر سبب إعطاء الذكر مثل حظ الانثيين في الميراث، ناهيك عن عدم تحديده سقفا أو محرّمات أمام مشاركتها ودورها، وقد كان ذلك واضحا في رواية القرآن الكريم قصة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان، إذ لم يعكس أي تحفظٍ حول موقعها في رأس هرم السلطة، ملكة في بلدها، بل نقل صورة إيجابية عن قيادتها بلدها أنها لا تأخذ قرارا إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة، وأن كل ما يقال عن قيود وحدود لدور المرأة في المجتمع المسلم هو من وضع فقهاء المسلمين في عهود الانحطاط، فهو رأي واجتهاد بشر قابل للطعن والتعديل.
غير أن تبنّي الإسلام حقوق الإنسان لا يعني، بأي حال، قبوله بكل ما ورد في الإعلانات والمواثيق الدولية أو الإقليمية من مواقف أو تصورات، ذلك أن ما صدر من إعلانات أو مواثيق لا يعكس رؤى جماعية/ كونية، وإنما اقترن صدورها إما بلحظة سياسية، وهذا جعلها تعبر عن وجهة نظر واحدة، كما هو حال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدره الطرف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، والذي تجاهل وهمّش ثقافات ورؤى الشعوب غير الغربية في أثناء صياغته، أو في إطار رد فعل على تجاهل حصل، أو خوف على مصالح فئوية أو عرقية أو دينية، مثل “حقوق الإنسان في الدول النامية” الذي وضعه المؤتمر الذي انعقد في كابول ما بين 12 و24 مايو/ أيار 1964، والذي (المؤتمر) أجمع على “أن المفهوم المجرّد لحقوق الإنسان كما تردّدها المواثيق الأوروبية يمثل على المستوى التطبيقي ترفاً لا تستطيع أن تحققه إلا الدول المتقدمة”.
واعتبر أن الدول النامية بحاجةٍ إلى دولة راعية ومسؤولة، توظف مواردها المادية والبشرية لتحقيق التنمية اللازمة، ليكون الإنسان إنسانا (الإنسان لا يكون إنسانا إذا أخضعه الفقر والمرض والجهل لما تخضع له البهائم من قوانين غريزية)، والدولة الراعية المسؤولة لا بد لها من أن تتمتع بالسلطات اللازمة، للوفاء بتلك المسؤولية، حتى لو أدّى ذلك إلى المساس بما تسمّى حقوق الإنسان، وهذا قلّص من عالمية هذه الإعلانات والمواثيق، وجعلها عرضةً للنقد والتجاهل والرفض. لذا لا يمكن إنكار تعارض بعض ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن العلاقات والحقوق مع تصورات الإسلام لها وموقفه منها، نتيجة التباين الثقافي والاجتماعي، مثل قواعد الزواج والأسرة، حيث وضع لذلك قيودا وشروطا تتناسب مع نظرته إلى العلاقات الأسرية والاجتماعية والإنسانية، مثل عدم قبول زواج المسلمة من غير المسلم، ورفضه تغيير الدين، لكن، وعلى عكس ما هو شائع، من دون أن يحدّد عقوبة دنيوية (حدّا) للردة، ما لم يقترن الارتداد عن الدين بمحاربة الدين، والدعوة إلى الخروج عليه “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ”. أما إذا لم تحصل الحرابة فالعقوبة أخروية فقط “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ”.
وهذا يطرح ضرورة إعادة النظر في إعلانات حقوق الإنسان وصياغتها بنظرةٍ عالميةٍ مبنيةٍ على التوافق، وأخذ وجهات نظر وتصورات الثقافات والشعوب لهذه الحقوق، وألا تُفرض قيم حضارة على حضارة أخرى من جهة، وأن يدقق المسلمون في رؤاهم وتصوراتهم لحقوق الإنسان آخذين النص القرآني وروح العصر بعين الاعتبار. فالتجربة الحضارية الإسلامية توقفت عن العطاء، ودخلت في مرحلة انحطاط ممتدة، ما جعل نظرتها إلى ذاتها وإلى العالم خليطا من عقدة نقص وخوف وعدم يقين وتخلف حضاري عميق وغربة عن مفاهيم العدل والمساواة والشورى التي دعاهم دينهم إلى العمل من أجلها، والتي طواها الاستبداد والحكم السلطاني الذي عرفته التجربة الحضارية الإسلامية في ظل ما وصف بـ “الملك العضوض”. هذا فضلا عن فتاوى فقهاء عصور القهر والاستبداد والتخلف الحضاري التي طمست إنسانية الإنسان المسلم تحت ركام فتاوى الدين الاستبدادي الذي يخضع الإنسان للسلطان الجائر ويسخّره لخدمة طقوسٍ وممارساتٍ موضوعة على حساب روح الدين التي جاءت لمساعدته على إقامة حياة إنسانية حرّة وكريمة.
المصدر: العربي الجديد