مع تزايد الانتشار واسع النطاق لأجهزة “آيفون”، وشبكة الإنترنت، وتكييف الهواء المركزي، وأجهزة التلفاز ذات الشاشات المسطحة، وتحسُّن السباكة الداخلية (إمدادات المياه والصرف الصحي)، فإن عددًا قليلاً من الناس في العالم المتقدم يرغبون العودة بالحياة 100 أو 30 أو حتى 10 سنوات إلى الوراء. وفي واقع الأمر، جلب القرنان الماضيان في جميع أنحاء العالم تحسينات هائلة في مستويات المعيشة المادية؛ وتم انتشال مليارات الأشخاص من ربقة الفقر، وارتفع متوسط العمر المتوقع عبر مختلف مستويات الدخل على نطاق واسع. وجاء معظم هذا التقدم من الاقتصادات الرأسمالية.
لكن تلك الاقتصادات لا تخلو من مشاكلها الخاصة. في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أصبحت الفجوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة بشكل لا يطاق، بينما أصبح أصحاب الأعمال والعاملون ذوو التعليم العالي في المناطق الحضرية أكثر ثراءً في حين ظلت أجور العمال في المناطق الريفية راكدة. وفي معظم البلدان الغنية، جلبت المزيد من التجارة مجموعة أكبر وأفضل من السلع، لكنه أدى أيضاً إلى نزوح العديد من الوظائف.
مع عدم الاستقرار الاجتماعي الذي يعبر عن نفسه في شكل الاحتجاجات الجماهيرية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود الشعوبية، والاستقطاب العميق الذي يطرق أبواب الاقتصادات الرأسمالية، أصبح الكثير من التقدم الذي تم إحرازه خلال العقود القليلة الماضية في خطر. والحل، بالنسبة لبعض النقاد وواضعي السياسات، واضح: الاشتراكية، التي يجري الاستشهاد بها كوسيلة لمعالجة كل شيء، من عدم المساواة والظلم إلى تغير المناخ.
ومع ذلك، سوف تعالَج العلل نفسها التي يحددها الاشتراكيون أفضل ما يكون من خلال الابتكار، ومكاسب الإنتاجية، والترشيد الأفضل للمخاطر. وما تزال الرأسمالية، وبمسافة بعيدة، أفضل طريقة، إن لم تكن الوحيدة، لتوليد تلك النتائج.
* *
من الصعب تعريف اشتراكية اليوم. تقليديا، كان المصطلح يعني ملكية الدولة الكاملة لرأس المال، كما في الاتحاد السوفياتي، وكوريا الشمالية، أو الصين الماوية. وفي الوقت الحاضر، لا يتبنى معظم الناس مثل هذه النظرة المتطرفة. في أوروبا، تعني الديمقراطية الاجتماعية تأميم العديد من الصناعات، ودول رفاهية سخية. ويعيد الاشتراكيون الصاعدون اليوم تعريف المفهوم ليعني نظامًا اقتصاديًا يوفر أفضل أجزاء الرأسمالية (النمو ومستويات المعيشة المرتفعة)، ومن دون أجزائها السيئة (عدم المساواة، والدورات الاقتصادية).
ولكن، ليس هناك نظام اقتصادي مثالي؛ ثمة دائما مقايضات -في أقصى الأشكال تطرفاً بين ملكية الدولة الكاملة لرأس المال والأسواق غير المقيدة التي بلا أي تنظيم أو دولة الرفاه. واليوم، سوف يختار قليلون أياً من القطبين؛ إن ما يختلف عليه الاشتراكيون والرأسماليون الحديثون حقاً هو المستوى الصحيح من التدخل الحكومي.
الاشتراكيون المعاصرون يريدون زيادة في ملكية الدولة، وإنما ملكية غير كاملة. إنهم يرغبون في تأميم بعض الصناعات. وفي الولايات المتحدة، يعني ذلك تأميم الرعاية الصحية، وهي خطة يدعمها المرشحان الديمقراطيان للرئاسة، إليزابيث وارين (التي لا تُسمي نفسها اشتراكية)، وبرني ساندرز (الذي يرتدي التسمية بفخر). وفي المملكة المتحدة، وضع زعيم حزب العمل جيريمي كوربين، الذي هُزم في صناديق الاقتراع في منتصف كانون الأول (ديسمبر)، أنظاره على قائمة طويلة من الصناعات، بما في ذلك مزودي المياه والطاقة والإنترنت.
قد تشمل العناصر الأخرى في قائمة الأمنيات الاشتراكية السماح للحكومة بأن تكون المستثمر الرئيسي في الاقتصاد من خلال مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تهدف إلى استبدال الوقود الأحفوري بمصادر الطاقة المتجددة، كما اقترح الاشتراكيون في “الصفقة الخضراء”. كما طرحوا أيضًا خططًا من شأنها أن تجعل الحكومة صاحب العمل لغالبية العاملين الأميركيين، من خلال تقديم وظائف مضمونة بأجر جيد والتي لا تمكن إقالة الناس منها. ثم هناك المزيد من المقترحات المحدودة، بما في ذلك تثبيت المزيد من العمال في مجالس إدارة الشركات الخاصة، ووضع ضوابط وطنية للإيجار وحد أدنى مرتفع للأجور.
من جانبهم، يريد الرأسماليون الحديثون بعضا من تدخل الدولة، وإنما بقدر أقل. وهم متشككون في التأميم وضبط الأسعار؛ وهم يجادلون بأن المشاكل الاقتصادية الراهنة يمكن معالجتها على أفضل وجه من خلال تسخير المشاريع الخاصة. وفي الولايات المتحدة، طالبوا بالمزيد من التنظيم والضرائب التقدمية للمساعدة في تخفيف اللامساواة، والحوافز لتشجيع الشركات الخاصة على استخدام كميات أقل من الكربون، ودولة رفاهية أكثر قوة من خلال الإعفاءات الضريبية. وفي الوقت نفسه، على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، شرع الرأسماليون الأوروبيون في إجراء إصلاحات لتحسين مرونة سوق العمل من خلال تسهيل توظيف الناس وفصلهم من العمل، وكانت هناك محاولات لتقليص حجم المعاشات التقاعدية.
لا يوجد نظام اقتصادي مثالي وكامل، وربما لن يمكن العثور على التوازن الصحيح بين الأسواق والدولة أبداً. لكن هناك أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن الإبقاء على رأس المال في أيدي القطاع الخاص، وتمكين أصحابه لاتخاذ القرارات في السعي إلى تحقيق الربح، هو أفضل ما لدينا.
* *
أحد أسباب الثقة في الأسواق هو أنها أفضل في تحديد الأسعار من الناس. إنك إذا ما حددت أسعاراً مرتفعة للغاية، كما اكتشفت العديد من الحكومات الاشتراكية، فسوف يتم حرمان المواطنين من السلع بلا داعٍ. وضعها منخفضة جدًا، وستكون هناك زيادة في الطلب وما يترتب عليه من نقص في السلع. وهذا صحيح بالنسبة لجميع السلع، بما في ذلك الرعاية الصحية والعمل. ليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الدفعة القادمة من الاشتراكيين في واشنطن أو لندن ستكون أفضل في تحديد الأسعار من سابقاتها. وفي واقع الأمر، تعاني أنظمة الرعاية الصحية التي تديرها الحكومة في كندا والدول الأوروبية من أوقات الانتظار الطويلة. وتشير دراسة لمعهد فريزر في العام 2018 إلى متوسط وقت انتظار يصل إلى 19.8 أسبوعًا لرؤية طبيب متخصص في كندا. وقد يجادل الاشتراكيون بأن هذا ثمن صغير يجب دفعه في مقابل الوصول الشامل، لكن النهج القائم على السوق يمكن أن يقدم تغطية وخدمة سريعة الاستجابة على حد سواء. إن الاستحواذ الكامل للحكومة ليس هو الخيار الوحيد، كما أنه ليس الخيار الأفضل.
بالإضافة إلى ذلك، تبقى الأسواق جيدة أيضاً في تقنين المخاطر. في الأساس، سوف يريد الاشتراكيون تقليل المخاطر —حماية العمال من أي صدمة شخصية أو اقتصادية. وهذا هدف نبيل، وإجراء بعض التخفيضات من خلال شبكات أمان تعمل بشكل أفضل هو مطلب مرغوب. لكن التخلص من كل عدم اليقين –كما قد تعني ملكية الدولة لمعظم الصناعات- هو فكرة سيئة. إن المخاطرة هي ما يغذي النمو. ويميل الأشخاص الذين يأخذون المزيد من المخاطرات إلى جني مكافآت أكبر؛ وهو السبب في أن الأسماء التسعة الأولى في قائمة فوربس 400 لأغنى الأميركيين ليسوا من ورثة السلالات العائلية، وإنما رواد أعمال عصاميون اتخذوا قفزة لبناء منتجات جديدة وخلقوا العديد من الوظائف في هذه العملية.
يجادل بعض الاقتصاديين اليساريين، مثل ماريانا مازوكاتو Mariana Mazzucato بأن الحكومات قد تكون قادرة على التدخل وعلى أن تصبح مختبرات للابتكار أيضاً. لكن ذلك سيكون شذوذًا تاريخيًا؛ كانت الحكومات ذات الميول الاشتراكية –نمطياً- أقل ابتكاراً من غيرها. وبعد كل شيء، ليس لدى البيروقراطيين ومجالس العاملين في الشركات الكثير من الحافز لزعزعة الوضع الراهن أو التنافس على بناء منتج أفضل. وحتى عندما حفزت البرامج الحكومية الابتكار -كما في حالة الإنترنت- فقد تطلب ذلك من القطاع الخاص إدراك القيمة وإنشاء سوق.
يقودنا هذا إلى سبب ثالث للإيمان بالأسواق: الإنتاجية. نظر بعض الاقتصاديين، مثل روبرت جوردون Robert Gordon، إلى المشكلات الاقتصادية الحالية واقترحوا أن نمو الإنتاجية -المحرك الذي غذى الكثير من التقدم خلال العقود القليلة الماضية، قد وصل إلى نهاية. وفي هذا القول، يكون قد تم تحسين الموارد والمنتجات والأنظمة التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي إلى الحد الأمثل، ولم يعد بالوسع تحقيق المزيد من التقدم.
لكن من الصعب توليف هذه الفكرة مع الواقع. إن الابتكار يساعد الاقتصادات على فعل المزيد بموارد أقل –ويزداد أهمية باطراد لمعالجة تغير المناخ، على سبيل المثال- وهو شكل من أشكال نمو الإنتاجية. وبالمثل، فإن العديد من المنتجات والتقنيات التي يعتمد عليها الناس كل يوم لم تكن موجودة قبل بضع سنوات. وهذه السلع تجعل الخدمات التي يتعذر الوصول إليها متاحة بشكل أكبر وتغير طبيعة العمل، وغالبًا للأفضل. ويتم تحقيق هذه المكاسب من خلال الأنظمة الرأسمالية التي تشجع على الابتكار وتنمية الكعكة، وليس عن طريق الأنظمة الاشتراكية التي تهتم أكثر بكيفية تقطيع الكعكة الحالية. وبعبارة أخرى، من المبكر جداً شطب عنصر الإنتاجية.
وهنا، يجدر النظر في الدروس المستفادة من طفرة الإنتاجية السابقة: الثورة الصناعية. وكما أوضح الخبير الاقتصادي جويل موكير Joel Mokyr، فقد تطلب الأمر من الابتكارات الجديدة، مثل محرك البخار، أكثر من 100 عام حتى تظهر في تقديرات الإنتاجية. ويمكن أن يكون الشيء نفسه بصدد الحدوث اليوم مع الهواتف الذكية والإنترنت. وفي الوقت نفسه، على الرغم من أن تلك الثورة حوّلت التجربة الإنسانية، وخلقت حياة أكثر راحة لمعظم الجميع، فقد كانت فوضويّة ومزعجة. وأدى الجزء المبكّر من تلك الدورة الابتكارية -مثل غيرهها من الدورات منذ ذلك الحين- إلى تشريد العمال الموجودين بينما تدفقت المكاسب إلى أصحاب رأس المال أولاً، مما تسبب في عدم الاستقرار الاجتماعي.
هذه المرة، قد تكون الآثار أقل وطأة: فالانقسامات بين مالكي رأس المال والعمال ليست واضحة كما كانت في السابق. ويملك عدد من الأميركيين أكثر من أي وقت مضى الأسهم الخاصة من خلال حسابات تقاعدهم في مكان العمل. كما أن ملكية الأسهم في ارتفاع في العديد من الاقتصادات الرأسمالية غير الأميركية أيضًا. وتقدم العديد من الدول الأخرى، مثل أستراليا والمملكة المتحدة، حسابات تقاعدية، جاعلة مواطنيها مساهمين أيضًا. وعلى العكس مما كان عليه الحال قبل 200 عام مضت، أصبحت مصالح العمال الآن أكثر توافقًا مع مصالح الإدارة.
* *
تشير ملكية الأسهم في حسابات التقاعد إلى أنواع السياسات الصديقة للسوق، والتي يمكن وفقها تقاسم الثروة مع الحفاظ على الابتكار وتحمل المخاطر. وثمة في الولايات المتحدة مجال لجعل الضرائب أكثر تقدمية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالضرائب العقارية، وإغلاق الثغرات الضريبية التي تجعل من السهل على الشركات استغلال النظام. ويمكن توسيع شبكة الأمان الاجتماعي لتشمل إعادة التدرب على الوظائف، وائتمان معزز لضريبة الدخل، وتقديم مِنح للابتكار أو العمل عن بعد في مدن أصغر أو في مناطق ريفية أكثر. وتحتاج صناعة الرعاية الصحية إلى الإصلاح حقاً.
على مستوى أكثر عمومية، يمكن جعل الرأسمالية أكثر شمولاً، ويمكن أن تساعد البرامج الحكومية في التخفيف من حدة حوافها القاسية. لكن أياً من هذه التغييرات لا يتطلب من الحكومات السيطرة على صناعات كاملة. واعتمادًا على السوق، يمكن أن يكون الإصلاح خيارًا حكوميًا أقل تدخلاً، أو تقديم إعانات، أو في بعض الأحيان مجرد تحقيق مساءلة أفضل.
لعل الأكثر أساسية في الأمر كله هو أن اللامساواة يمكن التسامح معها إذا كانت لدى الفقراء فرصة لأن يصبحوا أغنياء هم أيضًا. ولم تكن هذه الفرصة كبيرة مثلما وعَد الحلم الأميركي بشكل خاص، ولكن لا يوجد دليل يذكر على أن إمكانية الانتقال الاقتصادي قد ازدادت سوءًا في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، لتجنب المزيد من عدم الاستقرار -ولضمان أكبر قدر ممكن من القبول للنظام الرأسمالي- يمكن لرجال الأعمال والقادة السياسيين اليوم بذل المزيد من الجهد للتأكد من أن تكون لدى الجميع الفرصة لإلقاء حجر النرد على الأقل. وهنا، سيكون إصلاح التعليم وتطوير المناطق الريفية ضروريان لسد الفجوة.
هذه ليست اشتراكية -إنها بناء الرأسمالية والاستفادة بشكل أفضل من عمال اليوم والغد.
*Allison Schrager: هي خبيرة اقتصادية وصحافية في “كوارتز” ومؤسسة مشاركة لمؤسسة Life Cycle Finance Partners. وهي أيضًا مؤلفة كتاب “خبير اقتصادي يمشي في بيت دعارة: وأماكن أخرى غير متوقعة لفهم المخاطر”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: WHY SOCIALISM WON’T WORK
المصدر: (فورين بوليسي) الغد الأردنية