واشنطن – بعد القلق المُتزايد في الأيام التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، بات من المؤكد اليوم أن جو بايدن سيصبح الرئيس القادم للولايات المتحدة في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2021. وتعتمد سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ على نتائج التصويت الحاسمة في جولة الإعادة في ولاية جورجيا في الخامس من كانون الثاني (يناير) المُقبل. وكلما كان سلوك الرئيس دونالد ترامب أسوأ وأقل انتظاما في الأسابيع المقبلة، كلما زادت فرص الديمقراطيين في قلب هذه المقاعد.
ولكن مهما كانت النتائج التي ستُسفر عنها جولة الإعادة في ولاية جورجيا، فقد تنفست أوروبا ومعظم دول العالم الصعداء بعد فوز بايدن. تمثل السيناريو العالمي السائد في السنوات الأخيرة في التراجع الحتمي للأنظمة المُتعددة الأطراف وصعود أشكال خطيرة من التنافس بين القوى العظمى، حتى مع وجود تحديات ضخمة مثل تغير المناخ، والأوبئة الجديدة المُحتملة، والهجمات الإلكترونية، وإساءة استخدام التقنيات الجديدة التي تتطلب استجابة عالمية مُنسقة. لكن هذا التناقض ليس حتميًا. يخلق انتصار بايدن على الأقل إمكانية تعاون دولي أكبر بكثير لمواجهة هذه التهديدات – وينبغي أن تلعب أوروبا دورا حاسما بهذا الشأن.
حدد المُمثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل في السابق الخطوط العريضة لإستراتيجية الكُتلة العالمية، والتي تتضمن زيادة التماسك الجغرافي الاستراتيجي لأوروبا والاستقلال الاستراتيجي، مع الوصول إلى البلدان الأخرى ودعم المبادئ العالمية، على نحو متعدد إذا لزم الأمر ومُتعدد الأطراف كلما أمكن ذلك. هاتان الدعامتان مُتكاملتان وتُعزز إحداهما الأخرى. من الناحية الإستراتيجية، قد يكون الاتحاد الأوروبي الأكثر تماسكا واستقلالا وفاعلية في البحث عن حلول متعددة الأطراف، في حين أن النظام العالمي الأكثر تعاونا من شأنه أن يساعد في تعزيز نفوذ الكتلة وإثبات سبب وجودها.
السؤال المطروح الآن هو كيف يمكن لأوروبا العمل مع إدارة بايدن لتعزيز مثل هذا التعاون، على سبيل المثال، من خلال المبادرات التي من شأنها أن تتجمع في دعم النظام المُتعدد الأطراف في الولايات المتحدة وبلدان أخرى. هناك العديد من الاحتمالات الواردة.
بداية، ما تزال جائحة كوفيد 19 تجتاح جانبي المحيط الأطلسي وتُهدد الانتعاش الاقتصادي. على الرغم من الأخبار المُشجعة الأخيرة فيما يتعلق بتوفر اللقاحات اللازمة، سيظل دعم الاقتصاد العالمي أولوية قصوى، إلى جانب توفير اللقاحات في جميع أنحاء العالم.
لجمع المزيد من الموارد على نطاق عالمي، يمكن للاتحاد الأوروبي اقتراح إصدار جديد لحقوق السحب الخاصة بقيمة 500 مليار دولار (الأصول الاحتياطية العالمية لصندوق النقد الدولي) شريطة أن تمنح الدول الغنية جزءا من حقوق السحب الجديدة الخاصة بها للبلدان الأقل نموا، كما جادل جوزيف ستيجليتز وآخرون منذ فترة طويلة. وهذا من شأنه أن يُساعد أفقر البلدان مع زيادة قدرة صندوق النقد الدولي الإجمالية للإقراض، ولاسيما بالنسبة لاقتصادات الأسواق الناشئة التي تضررت بشدة جراء اندلاع الأزمة. يُعد منع حدوث أزمة ديون في الأسواق الناشئة أمرًا مهمًا من أجل انتعاش عالمي شامل، بما في ذلك تحقيق نمو أقوى في الولايات المتحدة وأوروبا.
على الرغم من أن الإصدار الجديد لحقوق السحب الخاصة قد يحظى ببعض الدعم الأميركي من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يمكن لإدارة بايدن التصويت لصالحه في صندوق النقد الدولي في أول 100 يوم لها دون موافقة صريحة من مجلس الشيوخ. من شأن مثل هذا الفوز المبكر للتعاون عبر الأطلسي أن يفتح الطريق أمام مبادرات أخرى في المستقبل.
علاوة على ذلك، يمكن أن يكون هذا الاقتراح مصحوبا بتنازل فرنسا وألمانيا عن نقطة مئوية واحدة من حصتهما المُشتركة في صندوق النقد الدولي البالغة 9.84 % واختيار مدير تنفيذي مشترك واحد في مجالس إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، دون انتظار إتمام المفاوضات المُطولة بشأن إصلاح نظام الحصص. وهذا من شأنه أن يثبت التزامهم الصادق بتجديد وإصلاح نظام مُتعدد الأطراف.
فيما يتعلق بالتجارة والضرائب، يمكن للاتحاد الأوروبي تشجيع الولايات المتحدة على دعم وإصلاح منظمة التجارة العالمية والسعي إلى إيجاد أرضية مشتركة بشأن قضايا التجارة الرقمية في إطار منظمة التجارة العالمية. يمكن للكتلة أن تأخذ زمام المبادرة في تسوية خلافها مع أميركا حول المساعدات الحكومية لشركتي بوينج وإيرباص. يمكنها أيضا الامتناع عن فرض ضرائب أحادية الجانب على الخدمات الرقمية، شريطة انضمام الولايات المتحدة إلى المفاوضات العالمية التي تقودها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والسعي على نطاق أوسع إلى إقناع الولايات المتحدة بالتعاون بشأن القواعد العالمية للضرائب على الشركات.
فيما يتعلق بأزمة تغير المناخ شديدة الخطورة، وعد بايدن بالفعل بالانضمام مُجددا إلى اتفاقية باريس للعام 2015 على الفور، وهو يفضل فرض ضرائب على حدود الكربون. قد يُعرب الاتحاد الأوروبي عن رغبته في تنسيق ضريبة تعديل الحدود هذه مع الولايات المتحدة، والتي من شأنها في واقع الأمر إنشاء نوع من الاتحاد الجمركي. من خلال قوتها الاقتصادية وحدها، فإن مثل هذا الترتيب من شأنه أن يجبر البلدان الأخرى على الانضمام إلى “السباق إلى القمة” في مجال البيئة، على الرغم من أن البلدان الأقل تقدما ستحتاج إلى دعم انتقالي.
في مجال الدفاع، يتعين على معظم أعضاء حلف شمال الأطلسي في الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 21 عضوا زيادة مساهماتهم المالية في التحالف ووضع نهج إستراتيجي مشترك يؤكد على الاحتياجات الناشئة المُرتبطة بالأمن الإلكتروني والأمن البيولوجي. إن استثمار الأوروبيين على نحو متزايد في دفاعهم الخاص سيجعل أميركا أكثر ارتياحا لتقاسم الأعباء العسكرية.
لتشجيع الإصلاح الذي تشتد الحاجة إليه في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لن يكون بوسع فرنسا الإعلان عن استعدادها لاستخدام حق النقض إلا إذا كانت تعكس رغبة الأغلبية المزدوجة في الاتحاد الأوروبي، والتي تمثل على الأقل نصف أعضاء الكتلة و 60 % من إجمالي سكانها. على الرغم من أن فرنسا ستحتفظ بمقعدها الدائم في مجلس الأمن، فإن مثل هذه الخطوة الجريئة من شأنها أن تخلق مقعدا فعليا في الاتحاد الأوروبي. وبدلا من كونها مجرد خطوة رمزية، فقد تُساعد في تحفيز التقدم نحو تشكيل مجلس جديد يعكس الحقائق الجيوسياسية والاقتصادية والديموغرافية التي نشهدها اليوم.
ستحتاج كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إيلاء اهتمام مُستمر للقضايا الصعبة للغاية في علاقاتهما مع الصين وروسيا. على وجه الخصوص، يجب أن يُدرك نهجهما في التعامل مع الصين القدرات المتزايدة للبلاد ومنحها الخيار لتكون جزءا من نظام جديد مُتعدد الأطراف، شريطة أن تحترم نظاما قائما على القواعد.
من ناحية أخرى، تُرحب أوروبا بموقف أميركي أقوى وأكثر صدقًا بشأن حقوق الإنسان. في الواقع، يتعين عليها أيضًا المشاركة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بقمة بايدن المقترحة “لتحالف الديمقراطيات”، والحث على توخي الحذر في ضوء صعوبة تحديد البُلدان المدعُوة. من شأن القائمة التي تشمل عدد متزايد من المدعوين أن تشير إلى انعدام المصداقية، في حين أن القائمة المُقيدة بشكل مفرط قد تخاطر بمُعاداة جميع البلدان المُستبعدة.
من شأن المبادرات الأوروبية من النوع المُقترح مساعدة إدارة بايدن. قد تُساهم أيضًا في تعزيز موقف وعزم المبادرات الأميركية التي تعمل على المساعدة في بناء نظام دولي جديد ومنفتح وأكثر إنصافًا ومناسبًا للقرن الحادي والعشرين.
*كمال درويش هو وزير سابق للشؤون الاقتصادية في تركيا ومسؤول عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وزميل أكبر في معهد بروكينغز.
*سيباستيان شتراوس هو محلل أبحاث أول ومنسق الارتباطات الإستراتيجية في معهد بروكينغز.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
المصدر: الغد الأردنية