يلاحظ الترابط الكبير بين الأخلاق والقانون في لحظات انهيار المجتمعات تحت وطأة الحروب والثورات والكوارث الطبيعية، فانهيار القانون، بما يتمتع به من صفة إلزامية مؤيّدة بسلطة الدولة، يفسح المجال سريعاً لفحص جدارة القيم الأخلاقية السائدة واختبار متانة البنية المجتمعية القائمة عليها، فإذا ما طال زمن انهيار مؤسسات الدولة الرادعة المحتكرة للعنف، وإذا ما طال غيابُ القانون وامتدّ، تحوّل الحال إلى كارثة اجتماعية ستتبعها بالضرورة كوارث كثيرة مما يصيب المجتمعات الإنسانية أوقات الأزمات، فالقيم غير المؤيّدة بالروادع لا تستطيع البقاء عاريةً في وجه انعدام الأمن وغياب الاستقرار والفاقة والجوع والتعصب والكراهية.
لم يكن ليخطر على بال الزعيم الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، يوم وصف الفلسطينيين بشعب الجبارين، أن يأتي يومٌ يصبح فيه أشقاؤهم السوريون شعب الشتّامين. والمقارنة لم تأت من فراغ، فكلا الشعبين يعتبر الآخر امتداداً له، بشكل أو بآخر، كما إنّ كلا منهما وقع ضحيّة عمليات تهجير ممنهجة بإدارة وإشراف دوليين. وعلى الرغم من أنّ مأساة الفلسطينيين امتدّت عبر سبعة عقود خلت وما زالت، فإنّ التكثيف الذي جاءت ضمنه المأساة السورية جعل مضاعفاتها مماثلة، إن لم تكن أخطر مما حاق بفلسطين وأهلها.
تمتد ساحة الكراهية من داخل سورية لتتجاوز حدودها، فأينما حلّ السوريون، وجدنا هذا التناقض الرهيب بين ما ثاروا لأجله وما وصلوا إليه. وإن كانت الثورات تنتصر أخلاقياً حتى ولو هزمت عسكرياً أو سياسياً ما دام أهلها محافظين على رؤيتهم ومبادئهم وقيمهم، نجد أنّ ما أصاب الثورة السورية من أهلها لم يصبها من أعدائها، وأنّ ما ألحقه بها جمهورها لم يستطع جمهور أعدائها تحقيقه. بالمقارنة بين أشهر الثورة الأولى، حيث كانت الناس تملأ الشوارع، وكانت الشعارات تطفح قيماً وطنية وإنسانية، وحيثُ كانت السلوكيّات قمّة في الرقيّ والتحضر والإيثار والتضحية، وبين هذه الأيام القاتمة المظلمة وما نعيشه من يأس وإحباط وتخذيل وخذلان، نجد بوناً شاسعاً من التناقض والتضاد.
يفرح عددٌ غفيرُ من المحسوبين اليوم على جمهور الثورة بالحرائق التي التهمت غابات الساحل السوري، ويشمت قسم كبيرٌ منهم بما أصاب أخواتهم وأخوتهم الواقفين على طوابير الخبز والغاز والبنزين. وكما فعل عدد كبير أيضاً من جمهور الموالاة، عندما رقصوا على أنغام صواريخ جيشهم الباسل ومدافعه، وهو يدكّ مدن أخوتهم الثائرين وقراهم، وكما شمت أولئك بضحايا مجازر حي الجورة في دير الزور وجديدة عرطوز والغوطة في ريف دمشق والحولة والتريمسه وحي الوعر وبابا عمر في حمص وحماه .. وآلاف أخرى لا تعدّ ولا تحصى، نجد محسوبين كثيرين على جمهور الثورة الآن يردّ بالطريقة نفسها على بؤس هؤلاء وذلّهم ومهانتهم على يد جلاوزة النظام الذي أيّدوه أو وقفوا على الحياد تجاه تغوّله وإجرامه.
بعضهم لم يتورّع عن رفع سيفه المشهر بوجه ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، والهيئة العليا للتفاوض واللجنة الدستورية والجيش الوطني وفصائل الجيش الحر، بالمجمل ودفعة واحدة كأنه لا تمايز بينهم، والسبب فقط انحيازه المطلق لقوميته الكردية. لم ير هؤلاء مجازر قوات سورية الديمقراطية (قسد) في قرى الجزيرة والفرات، ولم يسمعوا بتجريف قرى بأكملها واغتيال عائلات كاملة وإفنائها وتهجير عائلات أخرى. لم يسمع هؤلاء بمعاناة أهالي الجزيرة المحتجزين في معسكرات مخيم الهول. ولم يتذكّر هؤلاء كيف مثّل عناصر قوات الحماية الكردية بجثث شباب الجيش السوري الحر من أهالي حمص وغيرها من المدن الثائرة، عندما طافوا بهم على ظهر ناقلات الجند في عفرين. هم يشاهدون الآن فقط جريمة مقتل المغدورة هفرين خلف، وجرائم الاستيلاء على أملاك المهجّرين الكرد وجرائم الاعتداء على أرواحهم وحرياتهم. الأنكى أن كثيرين من هؤلاء يعتبرون أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان، وكأنّ الإنسان هو الكردي فقط! لم ير هؤلاء محاولة مؤسسات الثورة تطوير نفسها ومحاولاتها محاسبة المتجاوزين ومرتكبي الانتهاكات، فالألوان عند هؤلاء أبيض وأسود فقط.
لم يتورّع سوريون آخرون عن تبرير كل تجاوز يرتكبه عناصر مسلحون من جيشهم الوطني، أو ما تبقى من فصائل جيشهم الحر، السلب والنهب والاعتداء على الحريات والكرامات، حتى الارتزاق وتأجير البنادق بين ليبيا وأذربيجان وجد من يدافع عنه. لم ير هؤلاء أيضاً من الأكراد إلّا “قسد” و”مسد” (مجلس سورية الديمقراطية) وأتباع عبدالله أوجلان، ولم يجدوا في مطالبات الكرد بحقوقهم الثقافية سوى مؤامرة على العرب ومناطقهم. هؤلاء أيضاً أعمتهم عصبيّتهم القومية العربية، فنسوا أنّ العدّو الأول لهم ولأخوتهم الكرد هو الاستبداد والطغيان.
اجتهد سوريون من أبناء حوران في العمل على إنشاء كيانٍ سياسي، أطلقوا عليه مسمّى “المجلس السوري للتغيير”، لينطلق من منطقتهم، ويصل إلى باقي المحافظات السورية وإلى كل السوريين أينما وجدوا، وليتعامل مع الكيانات والأجسام السياسية الأخرى من منطق التكامل، لا التنافر، فإذا بجبهة واسعة من الافتراءات والمكائد والاتهامات، تُكال له ولأعضائه. من عملاء لاستخبارات إسرائيل وبريطانيا والكونغو، إلى مرتزقةٍ متموّلين من أموال الدولة الفلانية، أو ساعين للتقسيم والانفصال، أو منفذين لأجندات الاحتلال الروسي، أو متعاملين مع فلانٍ أو علّان.
شيء غريب عجيب ما يحدث مع السوريين. لا أحدّ يحبّ الآخر، ويكاد المرء يشكّ بأن لا أحد يحبّ الخير بالمطلق. .. لا ينفي هذا الواقع المرير، بكلّ تأكيد، وجود أناسٍ لم ييأسوا ولم يستكينوا، ولا ينفي بالطبع تضحيات مئات الآلاف والملايين، لكنّ الاستثناء تحوّل هنا إلى قاعدة، وبات الهامش أصلاً ومتناً. لم يعد مقبولاً أن نعلّق أخطاءنا على شمّاعات الآخرين، دولاً وأجندات، وبات لزاماً علينا أن نفتح أوراقنا، وأن نطرح أفكارنا للنقاش العلني. يجب أن نبدأ، نحن السوريون، بتشريح سلوكياتنا بمباضع الجرّاحين المهرة، وما يحتاج إلى بتر أو كيّ لا حاجة لنا به، وإن لم نفعل كل يومٍ من الآن ما علينا فعله منذ عشرة أعوامٍ إلّا قليل، فلننتظر إذن عشرات السنين من الضياع والشرذمة والمهانة، ولتعلق بنا إلى أمد بعد صفة الشتّامين.
المصدر: العربي الجديد