يراقب العالم أجواء الانتخابات الأميركية من زوايا مصالحه المتبادلة، أو المتداخلة مع البيت الأبيض، وسياساته التي يمكن وصف العميقة منها بالثابتة في القضايا الاستراتيجية المتعلقة بالمصالح الأميركية، مع هامشٍ قد لا يعدو، في حقيقته، كما قدّمه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن كونه إفساح المجال لما كان تحت الطاولة ليعلوها، ويصبح الحديث عنه ضمن مجريات الحياة العادية، في إنهاء عقود السرية السياسية، وخصوصا بما يتعلق بمنطقتنا العربية وطبيعة أنظمتها.
لم تكن سياسة “البجاحة” التي اعتمدها ترامب في تنفيذ صفقاته الخارجية في منطقتنا العربية بعيدة عن سياسات الولايات المتحدة في عهود كل الرؤساء السابقين، باستثناء أنها صفقات لم تغلّف هذه المرة بأنها سياسية، ويحكمها موقف الدولة العظمى ومهمتها في مساندة إقامة الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان ورد العدوان، كما كان غطاؤها في الحرب على العراق، بل هي صفقات مالية بتصريحات من ترامب، وأرقام أرصدة رفعها أمام كاميرات الإعلام للإعلان عن صفقات “غسيل الأنظمة”، أو تبييض سمعتها مقابل المال.
في سؤال متداول، يمكن أن يكون محقاً، أو لأمر آخر عن أوضاعنا في المعارضة، ماذا لو جاءت إدارة أميركية تساند فكرة تغيير النظام السوري بكامل رموزه، فمع من عليها أن تتحدّث؟ ومن هو البديل الذي يبحث عنه سوريو سورية المتمزقة داخلياً وخارجياً؟ هل ستذهب أميركا “الإيجابية” مع متطلبات هيئة التفاوض للمعارضة السورية، المنقسمة بين الدول الأربع التي شكلتها خارج إرادة السوريين، كما توضح مئات الصفحات والمقالات التي تنتقد عملها وأشخاصها، أم تذهب إلى سورية برداء القاعدة الذي ترتديه جبهة النصرة وحلفاؤها من المسلحين والسياسيين، أم تسلم الأمر لتركيا وأزلامها ومخاوفها وأحلامها العثمانية، أم تذهب إلى سوريي روسيا والنظام؟
لا يملك الثائرون ضد نظام الأسد القمعي الأمني “تحديداً” (وهنا الحديث عن ثورة الكرامة والحرية في شكلها الحقيقي والأولي) ما يثير شهية الولايات المتحدة لمساندتها لتحقيق أهدافها، على الرغم من تصريحاتها التي بقيت مجرد “جعجعة من دون طحين”، في وقتٍ لم تتأخر فيه الولايات المتحدة عن تأكيد دعمها الحركات المسلحة، مباشر على الرغم من هزالته أو بتوجيه دول للقيام بهذه المهمة، تلك التشكيلات التي مارست دوراً أولياً في تهديد النظام، وتحجيم مساحته على أرض سورية. ثم عمدت الإدارة الأميركية إلى إبقاء حالة الحرب المتوازنة بين طرفين لا غالب بينهما ولا مغلوب، وعادت إلى موقعها في مساندتها الثورة عبر التصريحات الإعلامية. ولاحقا، حولت تلك التصريحات إلى مادة يمكن التفاوض عليها مع أطراف دولية غرقت في المستنقع السوري، مثل روسيا وتركيا، وعلى جانب آخر هو سلاح ضد إيران التي ترى أن دورها في تفتيت المنطقة وزعزعة أولوياتها قد استنفد، وتم تنفيذه على أفضل ما يمكن، بدءا من العراق ومرورا بلبنان وسورية واليمن، وعليها ترك الساحة لحلول إسرائيل مكانها تحت غطاء حماية المنطقة من التمدّد الإيراني.
إلا أنه وفي أحسن أحوال الظن بوجود إدارة أميركية مساندة للحريات في منطقتنا (ما يخالف واقع تحالفاتها)، فإن مسؤولية السوريين ممن تولى قيادة المعارضات، بشقيها السياسي والمسلح، تجاه قضيتهم وتشتيت أولوياتها: هي العامل الأساس في ضياع خريطة الطريق نحو الحل السياسي، وتمييعه في مسارات التفاوض الجانبية، تارة في أستانة وتارة في سوتشي، وأخرى في خلافاتٍ بينية في منصة سياسية (هيئة التفاوض) من المفترض أنها تمثل جهة واحدة مقابل النظام، فإذ بها تمثل مصالح دول متنافسة ومتحاربة على مصالحها من بوابة الحرب السورية تارة، ومن باب مفاوضات “الاستسلام” تارة .
اتسم الموقف الأميركي من الثورة السورية، على الدوام، بعدم الوضوح، والرغبة في تأجيل الحسم، والتخلي عن الدور الفاعل في سورية للقوى الأخرى، أي روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية كممولين، ليس بسبب اللامبالاة فقط، باعتبار أن سورية، بكل أطرافها، ليست على قائمة أصدقائها أو الحلفاء لها. ولكن لأن دخول هذه الأطراف إلى عقدة الصراع وتوريطها يطيل أمد الصراع، ويزيده تعقيداً، ويمهد لإعادة توزيع المنطقة بعد انتهاء فعالية التقسيم السابق، الأمر الذي يدفع السوريين على جانبي الصراع ثمنه، أولاً عقابا جماعيا، وهو ما حصل. والراجح أن هذه الاستراتيجية خدمت إسرائيل التي استثمرت جرّاء الأوضاع الحاصلة في العراق وفي سورية، وجرّاء صعود النفوذ الإيراني في المنطقة، باعتبارها الدولة الأكثر استقرارا وأمانا في الشرق الأوسط، وأيضا باعتبار أنها ليست هي، وإنما إيران هي مصدر الخطر في المنطقة، أو مصدر عدم الاستقرار في المنطقة.
على أية حال، ما زالت هذه الاستراتيجية التي اعتمدها البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وتمثلت، أيضاً، بالحفاظ على ديمومة الصراع في واقع لا غالب فيه ولا مغلوب، لا من جهة المعارضة ولا من جهة النظام، ما زالت معتمدة في عهد خلفه ترامب، وستستمر، سواء معه إذا بقي رئيسا أو مع منافسه جو بايدن، من دون النظر إلى أن تلك الإستراتيجية استنفدت بعد تحقيق أغراضها، والثابت الوحيد هو استمرار تصعيد اللهجة ضد إيران، واعتبارها مصدر القلاقل في سورية ولبنان، وربما كان هذا مبرّر التبجّح العربي في إعلان التطبيع مع إسرائيل أو إخراجه من السرية إلى العلن.
لا حاجة أن ينتظر السوريون نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، فهي كما كانت قبل ولاية ترامب ستكون فيما بعده، والفرق الوحيد هو ما تنتظره روسيا وإيران مما بعد الانتخابات، ما يعيدنا إلى أننا خلال سنوات الصراع لم نكن سوى العصا التي تضرب بها الأطراف بعضها، وننكسر على بعضنا ضدنا.
المصدر: العربي الجديد