في 18 من حزيران/ يونيو الماضي، تحدث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في حوار على قناة سي إن إن تورك المحلية، عن نقاط المراقبة التركية الموجودة في مناطق بات النظام يسيطر عليها داخل حدود منطقة سوتشي، بعد أن سيطرت على الطريق الدولية حلب دمشق المعروفة بـ”إم5″، حيث تحدث الوزير عن احتمالات سحب النقاط وإلغاء دورها وعملها، مبينا أن استراتيجية تركيا تتلخص باستمرار وديمومة وقف إطلاق النار، وتواصل العملية السياسية عبر بوابة الدستور، كرؤية عامة للوضع في سوريا.
وعن إدلب أكد أن “الجهود التركية تنصب في إطار تحويل إدلب إلى منقطة آمنة في المنطقة الموجودة حاليا، وعند تحويلها مع المشاورات المستمرة ستفكر القوات المسلحة بشكل استراتيجي بأماكن التمركز والمراقبة الجديدة، والتعزيزات التركية مستمرة، حيث هناك صعوبات ميدانية ودوريات مشتركة، ومستقبلا مع تحول المنطقة لمنطقة آمنة، عندها تقرر القوات المسلحة والمخابرات أماكن التمركز الجديدة، حسب المعطيات الجديدة التي لا مفر منها، وحسب الحاجة سيتم تحويل تمركزات النقاط الموجودة، ولكن حاليا النقاط مستمرة بمهامها”.
تصريح الوزير التركي أشار بوضوح كبير إلى أن نقاط المراقبة التركية الموجودة في مناطق بات النظام يسيطر عليها حاليا هي في حالة تمركز مؤقتة، في ظل سعي وتواصل مع الجانب الروسي لتحويل إدلب إلى منطقة آمنة، وهي ما تتطلب مشاورات ولقاءات وتفاهمات من الناحية السياسية والعسكرية، إضافة إلى تفاهمات دولية، وفصل مسار إدلب عن بقية الملفات الدولية التي تؤثر بشكل أو بآخر على التطورات فيها، تماما كما حاولت روسيا إطلاق اليد التركية في سيرت الليبية مقابل سحب تركيا سلاحها العسكري الثقيل من إدلب، وسحب نقاط المراقبة، والانسحاب من جنوب الطريق الدولية بين حلب واللاذقية، وهو ما رفضته تركيا، على اعتبار أن ملف إدلب مستقل، ويخضع تفاهماته إلى حسابات أخرى داخل البلاد، منها حدود المنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا، ومنها ملف شرق الفرات، ومستقبل العملية السياسية، وتركيا وضعت ضمن إطار مطالبها شمال الطريق الدولية إم4 في مختلف المناطق، وبهذا الإطار طرح ملفا منبج وتل رفعت، وطرحت حدود المنطقة الآمنة في شرق الفرات ونبع السلام، في وقت تمسكت فيه تركيا بجنوب الطريق في إدلب، وشكلت درعا عسكريا فيه، وحتى النقطة التي انسحبت من مورك، استقرت في منطقة جبل الزاوية الواقعة جنوب الطريق، في تعزيز للوضع القائم هناك.
وإذا ما تم تفسير كلام الوزير على أن نقاط المراقبة التركية المذكورة خاضعة للتوافقات، يفهم منه أيضا أن هناك خطوات معينة متطلبة للتوصل إلى فرض المنطقة الآمنة، وإطالة عمر وقف إطلاق النار وصولا للوقف الدائم، ولحق خطوة سحب نقطة المراقبة في مورك، زيارة لنائب وزير الخارجية المعني بشؤون الشرق الأوسط وملف سوريا سادات أونال إلى موسكو، وإجرائه مشاورات مع نظرائه الروس، لتبدو الخطوة التركية وكأنها مبادرة من أجل استكمال الخطوات اللاحقة في ترتيبات المنطقة وحدودها الشمالية والجنوبية.
وتفيد مصادر تركية بأن ظهور التوافقات الجارية بين أنقرة وموسكو قد تأخذ وقتا، وقد تكون محاولات التصعيد والتهديد الميدانية موجودة خلال هذه الفترةـ من أجل تحقيق مكاسب أكبر في المشاورات الجارية والتفاوض من سقف عال، وبالتالي التوافقات التي يمكن أن تجري يتم التشاور عليها وإعدادها وربما تظهر نتائجها على المدى القريب، خاصة فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة وتل رفعت، كما تفيد المصادر التركية أن الجهود التركية تأتي في إطار تعزيز الخطة التركية في المنطقة الآمنة، وهو ما سيصبح واقعا على الأرض قريبا، ومن المحتمل أن يكون هناك انسحاب قريب من نقطتي الصرمان وشير مغار، ويتم التباحث عليهما ضمن نفس سياق المفاوضات الجارية مع الجانب الروسي.
من الواضح أنه بات أمام تركيا وروسيا في إدلب خياران مرتبطان بالانسحاب التركي من نقاط المراقبة، الأول إما التوافق من أجل تحقيق الاتفاقية النهائية الشاملة وفرض وقف إطلاق نار شامل يتضمن تعيين الحدود، ومنها مصير بلدة تل رفعت وقراها التسعة، وإما عدم التوافق والتصعيد الميداني، والخيار الثاني إن تم فإن تركيا ستكون قادرة على التصرف بحرية أكبر في ظل إخلاء النقاط التي باتت بعيدة عنها ومرهقة لها، ولكن ما اعتدنا عليه في إدلب، ترجيح كل من أنقرة وموسكو
للتوافق بدلا من المواجهة ميدانيا، وبالتالي من المرجح وجود تفاهمات تركية روسية، وبنفس الإطار بات وجود النقاط الموجودة لدى المناطق التي يسيطر عليها النظام أمرا غير مجديا لتركيا، فاختارت أنقرة بحسب بعض المصادر، الحصول على أكثر من نتيجة بهذا الانسحاب أو كما يقال بالمثل الشعبي، ضرب أكثر من عصفور بحجرة واحدة، عبر الانسحاب من نقاط لم تعد تجدي نفعا لها، وعقد تفاهمات مع الطرف الآخر عبر تبادل الأوراق، وما هو واضح حاليا أن المنطقة الآمنة وتل رفعت هي الأقرب في حدود الصفقة الحالية، في حين مطالب تركيا بمنطقة منبج هي بعيدة المدى حاليا لتعقيدات الوضع فيها، وبالتالي انسحاب بقية النقاط التركية المحاصرة في مناطق النظام واردة، ولكنها خاضعة للتوقيت والجدول الزمني، مع تطورات التفاهمات الجارية على الطاولة، بمعنى تنتظر تركيا سحب هذه النقاط حتى تنضج التفاهمات الأخرى الجارية في المنطقة، للوصول بالهدف النهائي للمنطقة الآمنة، وتبقى منبج التي تطالب بها تركيا أيضا خاضعة لموافقة دولية ومنها أميركا، ووضعها معقد أكثر بفعل وجود أميركا وروسيا وقوات قسد والنظام بالمنطقة، لذلك سيتم تأجيل الحديث عنها حاليا.
وفي النهاية تهدف تركيا من خلال الوصول إلى المنطقة الآمنة، إلى تنفيذ بقية البنود التي تعهدت بها وتطالب بها روسيا، وهي فتح الطريق الدولية إم4، عبر آليات ترضي روسيا، ربما من خلال نقاط مراقبة روسية تنتشر في المنطقة العازلة، الموجودة على جانبي الطريق، ولاحقا طرد العناصر الراديكالية من المنطقة، تمهيدا للاستقرار فيها عبر توحيد الفصائل العسكرية، وأن تكون هناك جهة تنفيذية واحدة، أسوة بالمناطق الأخرى في درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، ومع تأكيد تركيا على التمسك بهذه المنطقة، ومع تحول العمل العسكري من قبل النظام وروسيا في المنطقة إلى مغامرة عسكرية غير معروفة العواقب، فليس أمام روسيا في إدلب إلا التفاهم مع تركيا من أجل الوصول إلى صيغة معينة توفر عبرها تركيا الحماية للمدنيين، وتمنع أي عمليات نزوح في حال حصول تصعيد عسكري، حيث إنه ليس لتركيا أي قدرة حاليا على استيعاب النازحين نظرا للموقف الشعبي، فضلا عن خشية تسرب عناصر إرهابية إلى المناطق الحدودية، وتحاول تلك التنظيمات الإرهابية أن تقحمها للداخل التركي، ومع إصرار تركيا على فصل ملف إدلب عن بقية الملفات، وتقاربها مع أوروبا في حل الملفات العالقة في شرق المتوسط، والهدوء الأميركي في فترة الانتخابات، يبدو أن موقف أنقرة بات أقوى في إدلب على الصعيد الدولي، بعد فترة من التوترات مع الجوار الأوروبي في ملف شرق المتوسط وليبيا، وبالتالي تمكنت تركيا من تحصين نفسها ميدانيا ودبلوماسيا، وأظهرت نواياها بوضوح لروسيا، التي بدورها متذبذبة دائما ولا يمكن الاعتماد عليها إلا في ظل اتفاقيات شاملة معززة دوليا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا