تتحول الحياة داخل بلده إلى مجرد غابة، يقف فيها النظام السياسي خارج اللعبة تماما، خلا إمساكه بالقبضة الأمنية والسطوة العسكرية، كنظام سلطاني تقليدي
ثمة جهتان، وعلى الرغم من تناقضهما، إلا أنهما تعتقدان سوية بأن مزيدا من الضغوط الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية على النظام السوري، عبر نماذج مثل “قانون قيصر” والعقوبات الأوروبية التفصيلية، إنما ستؤدي إلى تدهور أحوال النظام وحراجة موقفه أمام قواعده الشعبية من طرف، وعدم قدرته على ممارسة أدواره البيروقراطية والسلطوية من طرف آخر، وبالتالي فإن ذلك سيدفع النظام لتقديم تنازلات سياسية واضحة، بالذات في شكل نظامه السياسي، في سبيل تخفيف تلك الضغوط عن نفسه.
لا تملك آلية التفكير والتعامل السياسي هذه أية مؤشرات جادة على صوابيتها، بل على العكس تماما، ثمة أمثلة ودلائل لا تُحصى على تهافتها السياسي؛ لكنها مع ذلك، أي هذه الطريقة في التفكير والتعامل، تبدو راهنا وكأنها آلية التعامل السياسي الوحيدة لمناوشة النظام السوري، داخليا ودوليا.
تقف القوى السياسية والدولتية الغربية كجهة أولى تركن وتقود إلى مثل هذا التعامل مع النظام الأسدي، بالذات منظومة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. فهذه الجهات تعتقد في باطن وعيها بأن النظام السوري في بنيته يماثل أية دولة عصرية طبيعية. فهو حسب هذا الوعي يحمل مجموعة من الالتزامات الاقتصادية والخدمية والسياسية تجاه مجتمعه الداخلي، وأن تدهور قدرته على ممارسة ذلك، كنتيجة للعقوبات، إنما ستؤدي تاليا لتفكك منظوماته الداخلية، وبالتالي أما سينهار داخليا، أو سيضطر لتقديم التنازلات السياسية للجهات التي تعاقبه!
اتخذت هذه الدول الغربية ذلك نموذجا أوليا، ودائما، للتعامل مع المسألة السورية. فمنذ انطلاق الثورة السورية، كانت هذه الدول تعتبر أن معاقبة النظام السوري سياسيا واقتصاديا، إنما ترفع حرج المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن هذه القوى الغربية تجاه الشعب السوري، الذي كان وما يزال يتعرض لواحدة من أبشع حالات المحق المنظمة على يد هذا النظام.
في طريقها للتنفيذ والاستمرار على ذلك، فإن الدول الغربية تتخطى بداهتان واضحتان، تقول الأولى بأن هذه الآلية في التعامل مع الأنظمة الشمولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ما نجحت، ولو لمرة، على تحقيق مرادها، وأسقطت نظاما ما، أو حتى اجترحت تبدلا واضحا في سلوكه وطريقة تعامله مع شعبه.
كذلك فإنها تتجاوز بداهة الطبيعة الأولية لهوية نظام السوري، غير القائمة بتاتا على أية أسس لما تملكه الدولة الحديثة من نُظم داخلية للمؤسسات ومجموعة من الالتزامات تجاه مجتمعاتها الداخلية. فالنظام السوري ينحدر من ذلك المستوى ليكون مجرد غول سلطوي فحسب، يملك ترسانة ضخمة من أجهزة العنف المطلقة القاهرة لأية حياة عامة. بداهتا فشل التجارب التاريخية في ذلك وطبيعة النظام السوري تؤديان منطقيا للقول باستحالة تأثره بمثل هذه العقوبات كطرائق للتعامل.
على الدفة المقابلة للدول الغربية، فإنه ثمة مجموعة من القوى السياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية السورية الداخلية، التي تملك خطابا ورؤية قائمة على مزيج من القراءات الإصلاحية والأخلاقية تجاه النظام السوري. هذه القوى الداخلية التي لا تتوقف عن تقديم أشكال الرجاء والتمنيات من النظام السوري، مفترضة أن هذا النظام سيستجيب لبعض التنازلات من نفسه، في سبيل تخفيف أوجاعه مجتمعه الداخلي، بالذات عن مواليه الأساسيين.
تقف القوى السياسية الرديفة للنظام السوري، ومعها كتلة من “المثقفين” والنُخب الاقتصادية والبيروقراطية العُليا من المجتمع السوري على رأس تلك القوى السوري الداخلية التي تتبنى ذلك. فهذه الطبقات ترى بأن اعترافها وتسليمها بشرعية النظام السوري ومطلق سلطته، إنما تفرض على النظام شكلا من الالتزام السياسي والأخلاقي تجاه هذه الطبقات الداخلية، من حيث منع تدهور الأحوال بطريقة تؤدي لخسارة هذه الطبقات لمكاسبها ومراكزها وميزاتها، وذلك عبر تقديم بعض التنازلات السياسية الداخلية والخارجية، للتخفيف من ضغوط ما عليها من عقوبات.
غير أن رؤية وخطاب هذه القوى الداخلية لا تملك أيضا أية واجهة معرفية، فإنها تفترض عتبة عُليا من حس الالتزام الأخلاقي والسياسي للنظام السوري تجاه شركائه وحلفائه الداخليين، وهي عتبة ما طالها هذه النظام مرة طوال تاريخه. النظام الذي كان قائما على التصفية الدموية لأقرب أعضائه الداخليين لو تطلبت الحاجة لذلك، وفي أية لحظة كانت.
على التضاد من ذلك تماما، فإن النظام السوري، وكردة فعل بديهية ودائمة على طريقة التعامل هذه معه، يملك آليتين بسيطتين للرد عليها، ليس التنازل السياسي واحدة منها على الإطلاق، بل على العكس تماما، ربما يندفع ليكون أكثر تكورا على ذاته في مثل هذه الحالات، مثله مثل أي نظام سياسي شمولي حديث.
فالنظام أولا يصير يطلب من مجتمعه الداخلي تحمل كل آثار ما يفرض عليه من عقوبات، عبر فرض كتلة من شروط الحياة الجديدة على هذه المجتمع، أيا كانت درجة إطاحتها بما كان هذا المجتمع قد حققه من مراكمة وتنمية لشكل الحياة ونموذج العيش. فالنظام السياسي يتخلى وقتئذ عن أي من مسؤولياته المفترضة، عبر منح القوى الداخلية الحق في منازلة داخلية مفتوحة ودون أية شروط، يقوم فيها الأقوياء المجتمعيون بمحق الأقل قوة، بطريقة تتحول الحياة داخل بلده إلى مجرد غابة، يقف فيها النظام السياسي خارج اللعبة تماما، خلا إمساكه بالقبضة الأمنية والسطوة العسكرية، كنظام سلطاني تقليدي.
على الدفة الأخرى، فإن النظام السياسي يمارس ابتزازا تجاه طرفي التعامل معه. من جهة يطلب من قواعده الاجتماعية الداخلية تبني خطاب مسؤولية الغرب تجاه عذابات وتدهور شروط العيش داخل بلده، وبالتالي غسل نفسه من أية مسؤولية عن مثل هذه العذابات. كذلك ابتزاز المنظومات والقوى الدولية، عبر اتخاذ مجتمعاته الداخلية كرهينة في يده، وتاليا احتكار آلية تقديم أية مساعدات أو طرائق للتعامل يمكن أن تقوم بها تلك المنظومات أو الدول الغربية مع الشعب السوري.
تقدم جائحة كورونا نموذجا مثاليا عن ذلك، فنظام الأسد كان يبتز القوى والمنظمات الدولية، يمنعها من تقديم أية مساعدات أو خدمات للمجتمع الداخلي السوري، ما لم تسعِ لتقديم تنازلات سياسية للنظام السوري.
المصدر: الحرة. نت