سورية: الدولة المتوحشة

حسين عبد العزيز

لا تكمن أهمية كتاب “سوريا: الدولة المتوحشة” للفرنسي ميشيل سورا ـ الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017 ـ في فضحه سياسة القتل التي اعتمدها نظام حافظ الأسد في زمن لم يكن فيه الإعلام مفتوحا، بل تكمن أهمية الكتاب في أنه وثيقة أنثروبولوجية وتاريخية تفسر الآليات والمبادئ الأولى لتأسيس نظام الأسد وعمله وأساليب حكمه.

النهج الخلدوني
اعتمد سورا على منهج ابن خلدون في تحليل نشأة الدول وانهيارها، ذلك أن الاستيلاء بالقوة على السلطة يتطلب الارتكاز على عصبية قبلية أو دينية ـ طائفية مع حامل أيديولوجي كغطاء لها، وصولا إلى الملك الذي يدوم باستمرار شحن هذه العصبية بشكل دائم.

وهكذا قامت بنية النظام على ثلاثية (العلوية: العصبية، البعث: الأيديولوجيا، الجيش: القوة)، اعتمادا على ثلاثية ابن خلدون (العصبية، الدعوة، المُلك).

يؤكد سورا على أن الجيش ظل المكان المهم لتوظيف العصبية المسيطرة، حيث سعى العلويون في السلطة مبكرا إلى تصفية كثير من ضباط السنة، وبذلك تمت السيطرة للأسد على ولاء القيادات العليا في الجيش، الأمر الذي يتيح لنا فهم عدم إمكانية الانقلاب عليه.

أما الحزب، فقد أصبح رهينة ضعيفة بيد أيديولوجيا الطائفة العلوية وإن كان يغلب عليها أسماء سنية.

لم يعتمد سورا على المنهج الخلدوني فحسب في دراسته للواقع السياسي السوري، بل اعتمد على مناهج البحث العلمي الغربي مثل التكافل الآلي عند دوركهايم، وبعض المفاهيم الغربية كأداة تساعد في عملية التفسير السوسيوسياسي للنظام السوري وآليات عمله.

الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات كتبت في أوقات متفرقة، ثم جمعت ونشرت في كتاب صدر باللغة الفرنسية عام 2012.

يُعتبر سورا ـ اختطف من قبل منظمة الجهاد الإسلامي في بيروت عام 1985 وقتل في العام التالي ـ باحثا جادا، ملتزما بقضايا الديمقراطية والليبرالية ودولة القانون، ومناهضا للأنظمة الاستبدادية.

يغطي الكتاب الوقائع الدموية لإرهاب الدولة ضد الإخوان المسلمين، ويكشف تفاصيل مجازر جسر الشغور وحلب وتدمر، ومجزرة حماة في مطلع أيار/ مايو 1981، والتي وقع ضحيتها بين 200 و500 ضحية رميا بالرصاص أو عبر إعدامات جماعية في الشوارع، ثم مجزرة حماة الكبرى في شباط / فبراير 1982.

يرى سورا أن الإخوان المسلمين جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري، ولذلك رفض سردية حزب البعث بأن انتفاضة الإخوان مرتبطة بأجندة خارجية، في وقت رفض فيه سردية الحزب الشيوعي الذي وجد في انتفاضة الإخوان مجرد صراع طبقي وخلاف حول السياسة الخارجية.

يبدأ الفصل الأول بكشف عورة الرؤية الغربية لما حدث في سوريا بين عامي 1979 ـ 1982، تلك الرؤية التي اتخذت موقفا شبه مؤيد أو حيادي لعمليات القتل التي قام بها النظام في حماة، استنادا إلى خوف الغرب من تكرار ظهور نموذج إسلامي في سوريا يشبه النموذج الإيراني من شأنه أن يهدد “الدولة العلمانية”.

خلال هذه السنوات اكتشف سورا ميكانيزمات السلطة، وسياسة الجذمور التي اتبعها الأسد، ومصطلح الجذمور الذي استخدم لأول مرة على يد الفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز وفليكس غاتاري، يشير إلى غياب المركز في منظومة العلاقات، فالوسط ليس نقطة بين طرفين ولكنه اتجاه عمودي وحركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها، وبذلك فالجذمور لا يبدأ ولا ينتهي، فهو موجود دائما في الوسط، بين الأشياء.

وبهذا، يشير مصطلح الجذمور إلى أن تنظيم العلاقات لا يتبع خطا تراتبيا متواصلا مع القاعدة، بل هو يتيح لكل عنصر أن يؤثر ويتأثر بكل عنصر آخر.

قام النظام بهدف مقاومة الحركة الشعبية، بتعبئة المنظمات من أجل وضع المجتمع في إطار بيروقراطي من النقابات والمنظمات الشعبية والاتحادات، وتعبئة القوى السياسية في جبهة واحدة، وتجميع الطائفة العلوية تحت غطاء جمعية طائفية، ثم اختراق العشائر في البادية.

إرهاب الدولة

إن أصالة الممارسة السياسية السورية تأتي من أنها ليست علامة على وجود دولة، بل هي في أغلب الأحيان علامة نفي للدولة، لأن العلاقة بين الدولة والمجتمع محكومة بالوحشية والعنف الأعمى، وما لجوء نظام الأسد إلى بناء منظومة شمولية إلا محاولة لإضفاء شرعية أيديولوجية على وجوده.

بعبارة أخرى، تتميز الأنظمة الشمولية مثل النازية والشيوعية بوجود أيديولوجيا تخترق نسيج الدولة والمجتمع معا وتحولهما إلى وحدة عضوية تنشد تحقيق الغاية العميقة للأيديولوجيا المطروحة.

هذا النظام الشمولي بنظر سورا لا يستقيم في الحالة السورية، لأن أساس الانضباط المجتمعي هو العنف وليس الأيديولوجيا، ولذلك يستعين سورا بابن خلدون للتمييز بين السلطة السياسية القائمة على العقل (المُلك السياسي) وبين السلطة الطبيعية القائمة على العنف.

إن الجماعة الحاكمة أو العصابة الحاكمة أو المماليك الجدد، كانت توظف الناس من المستويات كافة: الطائفية، المدينة / الريف، المدني / العسكري، والمستويان الأوليان (الطائفة، الريف / المدينة) يفسران حالة العنف الممنهجة ضد حماة في ثمانينيات القرن الماضي، الطائفة السنية المهيمنة مقابل الطائفة العلوية المستبعدة، المدينة الحاكمة مقابل الريف المهمش.

تؤدي الطائفة العلوية دور خط الدفاع والحماية الأول بين الطبقة المسيطرة والمجتمع، فمنذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة، وهو يخصص كل سياسته لربط مصير الطائفة بمستقبله الشخصي.

السكان والدولة والمجتمع
عمل نظام حافظ الأسد على تخريب بنية المجتمع السوري، من خلال ترسيخ التباينات العامودية بين بنى المجتمع سواء على صعيد الطوائف أو على صعيد العلاقة بين الريف والمدينة، الأمر الذي أوقف صيرورة المجتمع نحو المواطنة واستعاض عنها بنكوص مجتمعي نحو الهويات الفرعية، فالبنى الريفية والبدوية ظلت قائمة، وما حصل هو ترييف المدن وليس انتقال الريف إلى التمدن، وأن البداوة انتهت كوظيفة على الأرض لكنها مستمرة كشبكة علاقات وولاء.

ويرى سورا أن استيلاء البعث على السلطة، وبالأحرى على الجيش، واقتلاع الفلاحين منه، كان بمثابة ثأر الأرياف التي استولت على المدن لتنزع منها امتيازاتها وإنهاء التقليد الخاص بمشكلات الاستغلال، وكان من نتيجة ذلك، أن ترييف المدن أصبح من السمات الأساسية لسوريا.

ثم جاء تطبيق الاشتراكية ليقضي تماما على ما تبقى من اقتصاد المدينة، لأن إلغاء الاشتراكية يعني تحويل كل الامتيازات السياسية والمالية والصناعية والتجارية إلى المدن، وتحديدا إلى المجتمع السني، وباختصار، تتيح الاشتراكية للنظام العلوي إفقار المدن بإعادة مستوى معيشتهم إلى القرويين.

يتابع سورا في الفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان “الطبقة السياسية التقليدية أو المجتمع المفقود”، سلوك البعث في تدمير النظام السياسي التقليدي وانعكاساته على الصعيد الاجتماعي.

لم تكن سوريا سوى تعبير جغرافي، لم تشكل كيانا قوميا في ذاته، فتنوع المجتمع وتذرره يتجاوز عناصر التماسك التي يتطلبها الكيان القومي.

بعد الاستقلال، كانت إحدى مهام الدولة الفتية هي الحد من نظام التمثيل الطائفي، لكن التخلي عن النظام الطائفي استبدل بهيمنة طائفة الأغلبية، وليس كعلمنة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية.

ولم تتمكن النخب السنية الحاكمة من تصور برنامج سياسي قومي يتجاوز آفاق الإقطاعية، وفي حين كان الإقطاع السياسي يستمد موارده من الأرض، كان القادمون الجدد (ضباط في الجيش الفرنسي) وأساتذة جامعات ومحامون يملؤون المجتمع المدني.

وبعد وصول هؤلاء الضباط إلى الحكم، عمدوا إلى إعادة تشكيل المجتمع بحيث يصبح من المستحيل العودة إلى الواقع القديم، لكن نظام البعث فشل بعد خمس عشرة سنة من وصوله إلى السلطة في إنشاء سوريا جديدة، ذلك أن قضم المجتمع المدني لم يحصل على مستوى الانتماءات التقليدية، بل على مستوى التعبير السياسي والعقائدي لهذا المجتمع.

يعود التناقض الأساس للنظام إلى أن الدولة ليست محايدة اقتصاديا، من حيث الإنتاج وضبط الفائض وتوزيعه، وهذا النظام لا يمثل الامتداد البسيط للبنية الفوقية لطبقة مسيطرة على مستوى علاقات الإنتاج، بل يؤدي على العكس، دورا حاسما في عملية خلق الطبقات المسيطرة اقتصاديا انطلاقا من النخبة السياسية الحاكمة الجديدة، وهو تناقض، لأنه يوجد بذلك خطرا دائما يتمثل في انزلاق النظام نحو استفحال التناقضات الطبقية، وتطور ملازم للوجدان المعارض.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى