البوطي الذي لا يزال لغزاً

حسام جزماتي

كظم الشيخ غضبه واتصل مجدداً بأبي سليم دعبول، مدير مكتب رئيس الجمهورية، موقناً بمرارة أن الأيام تغيرت. فحتى هذا الرجل المعروف بلطفه، الذي ورثه بشار الأسد عن أبيه في ما ورث، صار يماطله ويهمل إجابته. لكن الأمر لا يتعلق بطلب شخصي بل عام، ولذلك لا بأس من تكرار المحاولة. كان الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي قد أودع لدى أبي سليم رسالة لتسليمها للرئيس، تعترض على قرار وزير التربية بنقل ألف ومئتي منقبة من سلك التعليم إلى وظائف أخرى. وكان أبو سليم يسوّفه أسبوعاً وراء آخر حتى مضى شهر كامل. رد مدير المكتب على المكالمة مبدياً انزعاجه من الإلحاح، وهو أمر نادراً ما يُظهره، ووعد بالإجابة في اليوم التالي. وبالفعل اتصل دعبول قائلاً: «إن السيد الرئيس يسلّم عليك ويقول إن قرار الإقالة للمدرّسات قرار دولة، وليس قرار وزير».

لم تكن أموره هكذا زمن حافظ الأسد. صحيح أن طلباته لم تكن جميعها ملبّاة، لكن كان يحظى بالتقدير والاحترام على الأقل. أما في زمن الورثة فقد راحت مكانته تتقلص عبر السنوات. حتى إن اعتراضه على مسلسل «ما ملكت أيمانكم»، المسيء للدين وأهله في رأيه، قوبل بفتح باب الإعلام الرسمي لنقده بالذات، وبأن استدعاه آصف شوكت، صهر العائلة المالكة، مبدياً الانزعاج منه لأنه دعا على مخرج العمل، نجدت إسماعيل أنزور، على المنبر، ومحرجاً إياه حتى اعتذر من أنزور في مكتب العماد.

لكن السنة اللاحقة، 2011، التي حملت، في رأيه، صدق نبوءته بالكوارث التي ستحل على البلاد نتيجة المسلسل وسواه من مظاهر اللادينية، أعادت له مكانته. فقد حدث ما لم يكن يتوقعه أحد عندما اندلعت الثورة، وكذلك ما لم ينتظره الكثيرون من موقف البوطي المؤيد للنظام. حتى إن بعض أفراد عائلته عارضوه في الأمر فلم يلقوا منه إلا نزقه المعتاد وتصلبه وقسوته في الدفاع عن رأيه. وكانت هذه أيضاً رواية من ناقشوه في رأيه من المشايخ. فقد أجمع الكل على أن تصريحاته المتصاعدة تعبّر عن قناعاته!

شكّل هذا أزمة في أوساط العلماء، وفي الجو الديني الدمشقي على وجه الخصوص والسوري عموماً. فقد جاهر بعض المشايخ بتأييدهم للاحتجاجات، وتحفظ آخرون، غير أن أحداً لم يصل إلى مستوى التماهي مع خطاب السلطة والتعبير عنه دينياً كما فعل البوطي. إذا استثنينا مريده السابق وخصمه الحالي، مفتي الجمهورية، أحمد حسون. ولتفسير هذا الموقف الغريب مالت أكثرية عارفي الشيخ، والذين يريدون المحافظة على أعلى درجة من حسن الظن به، إلى وصفه بالسذاجة السياسية التي أوقعته أصلاً بين حبائل ثعلبين محترفين هما حافظ الأسد ورجل أمنه المفضل محمد ناصيف، اللذين استطاعا إقناعه بأنهما متدينان ويمثلان تياراً «إسلامياً» داخل السلطة! ومهما يبدو هذا الكلام غريباً فإن العشرات على استعداد للتصريح بأنهم سمعوه من البوطي شخصياً، بكامل «قواه العقلية». كما سمعوا منه قصصاً أغرب، كاتصال باسل الأسد به ليلاً ليسأله إن كان يجب عليه إعادة صلاة الوتر بما أنه صلى بعدها قيام الليل!

لا نعرف بالضبط كيف حيكت هذه المسرحية، التي تتضمن كذلك ضابطاً يقوم عن سجادة الصلاة في القصر الجمهوري وآخر يفتح القرآن ليقرأ ما تيسّر من سورة «المنافقون»؛ لكن المؤكد هو أن البوطي كان يستشهد بها عند محاججة خصومه. مستدلاً، بظاهر الحال، على إسلام أولي الأمر وتحريم الخروج عليهم. غير أن نظرة أعمق وأكثر عقلانية تتصدى لتفسير حالة البوطي من منطلق يتجاوز وصف «الغفلة» الذي ألِفه المشايخ عند قراءة سيَر بعض العلماء، وحتى كبارهم، في كتب التراجم. تقول هذه النظرة إن تعلق قلب الشيخ بأولي الأمر نابع من تكوينه التقليدي وانتمائه إلى سلالة المشيخة السنّية المهادِنة سياسياً على الدوام. وإنه، على المستوى الشخصي، بدأ حياته بالإشادة بجمال عبد الناصر، وينهيها بتأييد حكم آل الأسد.

تدعم هذا التحليل، غير الكافي ولكن المبشّر، مواقف حادة سابقة للبوطي من التيار العلماني، الذي بدا أنه أطلق الثورة وتصدّر مشهدها في الأشهر القليلة الأولى، ولجماعة الإخوان المسلمين التي كانت أبرز قواها السياسية المنظمة في الخارج وتصدّت لتمثيلها في البنى المختلفة، وللتيار السلفي الذي بدأ يزيح الجميع ويهيمن ويتوسع ويفرض نموذجه على القوى العسكرية الفاعلة.

في آذار 2013، بعد سنتين على اشتعال «الفتنة» التي فرّغ البوطي وقته وجهده وعلمه لمحاربتها، وقارن الجيش الذي يقمعها بصحابة الرسول؛ ضاقت أبرز الحركات الجهادية على الساحة السورية وقتها «جبهة النصرة» ذرعاً بتصريحاته المستفحلة. كان تيار العراقيين، الموفدين من «دولة العراق الإسلامية» والذين سيستمرون معها حين ستختلف مع أبو محمد الجولاني بعد شهر، يسيطرون على فرع التنظيم في دمشق. وكانوا قد اعتادوا المفخخات و«الاستشهاديين». وبدعم من أردنيين، سيستمرون مع الجولاني عند الشقاق ثم سيغادرون مركبه باتجاه «حراس الدين» ومجموعات مشابهة؛ اقترح الجميع على أميرهم قتل البوطي.

وافق الجولاني على الاغتيال وترك خطة تنفيذه للقادة الميدانيين. ولما وجد هؤلاء مصاعب في استهداف الشيخ وهو خارج من الجامع الأموي بعد إلقائه خطبة الجمعة، كما كان مقرراً، نقلوا العملية إلى جامع الإيمان، حيث كان يعطي درساً بين صلاتي المغرب والعشاء كل يوم خميس، لسهولة التنفيذ. وهنا جرى نقاش حرمة التفجير داخل الجامع من الناحية الشرعية، وكذلك المصلين والمريدين الحاضرين الذين لا بد أن يتأذى بعضهم. أفتى أبو خديجة الأردني، الشرعي العام للجبهة حينها، بجواز ذلك. واشترط أن تتم العملية بعد انصراف المؤدين العابرين لصلاة المغرب، وبعد أن يبدأ الدرس فلا يبقى في الجامع سوى طلاب البوطي ممن يوافقونه على آرائه. وإن قضى بريء فسيبعثه الله على نيته، كما تقول فتوى التترس الشهيرة التي انتشرت وتوسعت في ظل الجهادية الزرقاوية في العراق والتفجيرات الطائفية المتبادلة هناك.

نفذ «الاستشهادي» العملية بسهولة وأصاب هدفه في مقتل شبه فوري. غير أن صور الجثث، التي بادر التلفزيون الحكومي إلى بثها، كانت مروعة. وكذلك الدماء على سجاد الجامع وأوراق مصاحفه. صُدم السوريون، بمن فيهم شخص يُفترض أنه المسؤول رسمياً عن ذلك كله، الجولاني الذي لم يعلم بطريقة التنفيذ إلا بعد حدوثها. ونتيجة ذلك أحجمت الجبهة عن تبني العملية كما كان منتظَراً. وكفّ أميرها يد رجاله، المتعطشين للدم في دمشق، عن القيام بعمليات كبرى في المستقبل.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى