تأخذ الثقة معانٍ تتعدّد بحسب محلّها ومداها وهي تبدأ بالذات لتتوجه إلى ما يتصل ويحيط بها، فمن الثقة بالنفس وقدراتها وما تنطوي عليه من أفكار وقناعات وأحاسيس إلى الثقة بالآخر أفراداً وجماعات وما تتوجه إليه نواياهم وإراداتهم وما يحملونه من قيم. والثقة عمارة متكاملة تتأسس على الوعي والمبادرة والتجربة وكذلك تزول كردّ فعلٍ على الخيبة أو ربما الخيبات المتكرّرة التي لا تكتفي بزعزعة الثقة وإنما بنسف أسسها ومقوّماتها وتصييرها إلى العدم.
لم يكن زمن الخوف من الطاغية قد ولى حين بدأت ثورة الحرية والكرامة وهتفت الحناجر المرتعشة برحيل الدكتاتور وإسقاط النظام، وبدا واضحاً منذ البداية خيار منظومة الإجرام الحاكمة في دمشق باللجوء إلى العنف والوحشية لقمع الحراك الشعبيّ الواسع وتصفية قياداته الشابّة الحالمة، وبالرغم من سياسة الاعتقال والقتل والتدمير التي انتهجتها السلطة العسكريّة والأمنية، وبالرغم من تطبيق شعارها المعروف في إحراق سوريا وإبادة شعبها لأجل بقاء الأسد وزمرته المافيوية إلا أنّ إصرار الثوّار على الاستمرار في مشروع التغيير السلميّ والانتقال الديمقراطيّ كان يتصاعد وتزداد رقعة الاحتجاجات والمظاهرات الشعبيّة مع اشتداد وتصاعد نهج التشبيح والتوحش السلطويّ الرسميّ.
كان الخوف حقيقة تستوطن عقل السوريّ وتعصف بروحه وتزلزل كيانه الإنسانيّ الهشّ، ولعلّ صوته الهادر في الساحات حين يهتف للحرّية إنما كان يتمرّد على معرفته المحتشدة بتعاليم الولاء للطاغية ووصايا الطاعة المطلقة والخنوع، ويمزّق عقال المنطق المجرّد من الإنسانية والمشاعر، ففي تلك اللحظة الفارقة حين يزأر الصوت معلناً عن ميلاد اليقين، وفي هذه البرهة الخارجة من رحم الغضب تتمزق أوصال الخوف وتبدأ بالتساقط مخالب المستبدّ وأنيابه التي حفرت تاريخاً من الذعر على صدر الثائر. لكن هذا السحر السماويّ سرعان ما يتبدّد، وتنجلي غيوم الزمن الخرافيّ أمام مشهد الدمّ والأشلاء الذي شكلته زخات الرصاص أو قذيفة مدفع أطلقتها جحافل الموت الأسديّ الآثمة، لتعود أسراب الخوف وتبدأ الأسئلة الحائرة عن كيفيّة مواجهة الآلة الجهنمية لنظام يحترف القتل ولا يعرف غير لغة القوة والقهر. في هذه الأجواء التي يملؤها التحدّي والعنفوان ويسكنها الاحتقان والقلق والخوف حلت العديد من العناوين والشعارات نبتة غريبة على أرض البشارة، وظهرت وجوه كثيرة هي في معظمها منبتة لا ماضي معروفاً لها، وليس من رصيد لها سوى زعيقها ونواحها وما تذرفه من دموع على وسائل الإعلام التي قدمتها كما لو أنها ناطقة باسم الثورة وممثلة عن قواها، وقد كان للقلق والخوف دورهما في التغاضي عن مجهوليتها وربما في توهّم ثقةٍ معتلّة بها.. وكان ما كان.
يمكننا التأكيد على أنّ من في الساحات لم يمنح ثقته لكيانات المعارضة التي تشكلت وفق محاصصات وتوازنات ارتأتها الدول الراعية أو المانحة، شقيقة كانت أو صديقة، لكنه سكوت المضطرّ، القلِقِ والمذعور، ذاك الذي مارسه السوريون بحق كل من تنطع للادعاء بتمثيله، فالسوريون حتى الآن لم يفوّضوا أشخاصاً أو جماعات بحمل قضيتهم والدفاع عنها وتمثيلهم في الساحات والأروقة الدولية.
لقد تصاعدت نكبة السوريّ وتعاظمت محنته، وباتت أشلاؤه موزّعة بين المهاجر والمنافي وبين أنقاض بلدٍ منهار تتناهبه المشاريع المتضاربة والأرزاء والحرائق، وتمزّق خريطته أسنّة ورايات غريبة تحرسها الألغام والبنادق، وتحوّل خوف السوريّ من نظام مستبدّ قاتل إلى خوف على وطن مستباح تتلاعب بأقداره جهات متعدّدة المصالح والغايات، وينتظره مصيرٍ غامضٍ يرتهن للمستجدّات والظروف وللإرادات الخارجية.
لقد آل الأمر بالسوريّ إلى أن يفقد الثقة في الدول والمجتمعات والقوى السياسية والمنظمات جميعها، بل وحتى بالقانون والمبادئ والقيم الإنسانية الحاملة له، وبقدرتها على حماية الإنسان وحقوقه وتلبية مطالبه المشروعة والمحقّة، لقد علمته السنوات العشر من ثورته ألا أحد في عالم الضواري يستحق أن يمنحه ثقته وأن يصدّق وعوده وتعهداته.
لم يفقد السوريّ الثقة بعظمة ثورته وبقدرته على الانتصار في معركة الحرية والكرامة، لكنّ أخطر ما يواجه قضيّته للخلاص من الطغيان ومن إرثه المظلم هو أزمة الثقة، إن لم نقل انعدامها، في نخبه المختلفة السياسية منها أو الثقافية والاجتماعية والاقتصاديّة فقد أثبتت الوقائع أنّ من يتصدّى، كأمرٍ واقع مفروض، لقيادة مشروع التغيير الديمقراطي وتحقيق مطالبه وأهدافه لم يثبت جدارته ولم يرق إلى مستوى الطموح والأمل في القيام بمسؤولياته الوطنية والإنسانية.
المصدر: اشراق