خمسون عاماً على رحيل عبد الناصر

محمود الوهب

مرت منذ يومين الذكرى الخمسون لوفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهو الذي دشن مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، وقضاياها السياسية، والاجتماعية تماهت مع التغيرات الدولية لغاية مصالح بلده مصر والبلاد العربية كافة.. وقد شكَّل حالة قلق للغرب (الاستعماري) بلغة تلك الأيام.. يمتاز جمال عبد الناصر بصفاء صوته ووضوحه وتعبيره عن سريرته، وارتفاعه على كل من حوله من الحكام العرب، ولعل السمة الأخيرة جاءت من صدقه في دعواه الوطنية والقومية ومن نزاهته، ونظافة يده، ما أكسبه حب أهل مصر، وامتداد شعبيته على مساحة البلاد العربية كلها.

بينما كان الحكام العرب وبخاصة ملوكهم، يكيدون له، ويدسون عليه، ويتآمرون في الخفاء، وإذا كان الموقف من الرجل لا يزال إشكالياً، فإن المرحلة كلها تحتاج إلى وقفة متأنية وموضوعية.. ولكن ما سمات تلك المرحلة التي جاءت بعد حربين ضروسين؟ شملتا العالم أجمع وخسرت فيها البشرية نحو مئة مليون شهيد، وبرز خلالهما ثلاثة نماذج للديكتاتورية، اثنان منهما قتلا إعداماً أو انتحاراً بعد خسارتهما في الحرب، في حين انتصر الثالث، ليساهم مع المنتصرين الآخرين، في نهاية الحرب الثانية، باقتسام مناطق النفوذ في العالم.. وقد كان على رأس حزب جديد يعد فقراء الناس وشعوب العالم الثالث بحياة أفضل.. أما المعنيون الثلاثة فهم الألماني “أدولف هتلر” والإيطالي “بنيتو موسوليني” والروسي “جوزف ستالين”، وإذا كان الأول والثاني قد انتهيا في ذلك الصراع الضاري، فإن الثالث قد تابع تبشيره بعالم جديد وفق إيديولوجيا محددة وسَمَت القرن العشرين بميسَمِها.

فقد وجد الحزب الشيوعي السوفييتي في الفلسفة الماركسية مجالاً رحباً لا لتطبيق الاشتراكية فحسب، بل لتغيير العالم استناداً إلى فكرة كارل ماركس التالية: “اهتم الفلاسفة بتفسير العالم وقد حان وقت تغييره” ورأى قادة الاتحاد السوفييتي ومفكروه السياسيون: “أن سمة العالم في القرن العشرين هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية”، والتفتوا إلى بلدان العالم الثالث الذي هو مجال أنشطة الرأسمالية، ونهبها لثرواته، فأيدوا نضالهم الوطني، مضيفين على نداء كارل ماركس وشعاره: “يا عمال العالم اتحدوا” عبارة و”يا أيتها الشعوب المقهورة” وأقروا مبدأ الشرعية الثورية بالوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية لبناء العالم الجديد.. وهكذا اشتعلت بلدان العالم الثالث ثورات أخذت أشكالاً مختلفة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.. وبرز قادة سياسيون كبار تركوا بصمة في حياة شعوبهم، وأسئلة كبرى، منهم فيدل كاسترو، ورفيقه أرنستو تشي جيفارا الذي غدا رمزاً للثورة والنقاء الثوري على نطاق العالم أجمع.. كما برز هوشي مينه، ونيلسون مانديلا، وباتريس لومومبا وآخرون.. وكانت حظوظ هؤلاء من النجاح مختلفة لعبت فيها دوراً رئيساً ظروف حياتهم وبلدانهم المتباينة في تخلفها أيضاً..

وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد دشنت عهد سقوط آخر الإمبراطوريات الإقطاعية فإن الحرب الثانية جاءت بعصر جديد مختلف، هو عصر الدولة الوطنية المستقلة، وانبعاث ما سمي بحركات التحرر الوطني في العالم الثالث وهي المرحلة التي وُجد فيها عبد الناصر.. إنها مرحلة تصفية بقايا الاستعمار القديم، وبداية نهوض الشعوب المستعْمَرة.. في ذلك الإطار يجب تقييم تجربة عبد الناصر، مع الأخذ بعين الاعتبار التركة المصرية الثقيلة من فقر وتخلُّف وفساد سياسي وإداري إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني على حدود بلاده، وفي قلب البلاد العربية مجاله السياسي الرحب.. وكان لمعاناته تجربة شخصية مريرة لدى محاصرته وزملائه في الفلوجة وتأثير إيجابي في موقفه من القضية الفلسطينية، ومن القضايا العربية عموماً في ضوء الوجود الإسرائيلي المرفوض من أساسه..! أما أنْ يوصفَ بأنه دشن مرحلة الانقلابات العسكرية وسنَّ الديكتاتورية، فهو أحادي الرؤية، والأغلب أنه استفاد في تلك الأجواء، وهو يُعِدُّ، مع تنظيم الضباط الأحرار لتغيير نظام الحكم البالي، من تجربة الضابط السوري حسني الزعيم الذي قام بانقلابه خلال ساعات دون إراقة قطرة دم واحدة..

ودون الدخول في تفاصيل تلك المرحلة على المستويين المصري والعربي، وخصوصاً السوري فهي كأية مرحلة صاعدة لها إنجازاتها ولها أيضاً سلبياتها..

 لقد كان ثمة تصور عن نهوض مصر لتصبح الدولة الأولى في الشرق الأوسط لكنها لم تنهض، وفقدت المكانة التي كانت عليها.. وكذلك كانت التقديرات عن الاقتصاد السوري النامي في خمسينيات القرن الماضي.

ويورِد سمير سعيفان في مقدمة دراسة له عن نمو الصين أن نابليون قال: “مصر أهم بلدان العالم؛ ومن يسيطر عليها يحكم العالم”. لكن مصر لم تثبت ذلك، ولا سوريا ذات الاقتصاد الواعد في مرحلة الخمسينيات قد وفت بوعدها..! وإذا كانت مصر قد تراجعت بعد وفاة عبد الناصر ومجيء السادات وتوقيعه اتفاقات كامب ديفيد وإطلاقه اليد للبرجوازية الطفيلية لتلتف على ما أنجز في تلك المرحلة فلا بد اليوم من الاستفادة مما جرى.. وإذا كانت خلفَ التجربة أسبابٌ كثيرةٌ تتعلق بالاقتصاد وتخلفه وبالمجتمع وتعليمه وثقافته فلا شك في أنه من بين الأسباب كلها يبرز سبب عميق هو الفردية القاتلة التي امتلكت الدولة والشعب عبر دولتها العميقة الفاعلة بجيشها وأجهزة أمنها وحيازتها المال والاقتصاد والإعلام والثقافة ونوعاً من التعليم السطحي غير الديمقراطي الذي لا يرقى إلى الفاعلية ولا يواكب الإنجازات العلمية الحديثة كما حدث في بعض البلدان المشابهة التي نمت وارتقت وحققت برامج تنموية مهمة ما أكسب قادتها القدوة والمثل الجيد.

إلا أن البلدان العربية التي نهجت النهج نفسه نراها اليوم غارقة بالدم والديون والخراب الشامل ويعاني أهلها ذلَّ الهزائم ومرارتها، ويضع سياسيو اليوم اللوم على قادتها الذين غرقوا بفرديتهم القاتلة وصانوها بأجهزة قمع ظالمة وفاسدة بآن ما دعا إلى كل ذلك الدم الكثيف النازف بغزارة في كل من سوريا وليبيا واليمن والعراق وربما، على نحو أقل في مصر، وكل ذلك بسبب تمسك أولئك الحكام ومن خلَفَهم ووقوفهم في وجه الجيل الجديد الساعي إلى تجاوز تلك المرحلة المسؤولة بهذا القدر أو ذاك لا عن الهزائم التي منيت بها جيوشنا واقتصادنا وثقافة مجتمعاتنا.. بل بسبب مرحلة حكم العسكر من جهة والملوك (الصنائع) من جهة ثانية.. وقد آن الأوان لترسيخ أسس الديمقراطية التي تسمح بتحقق المواطنة الفعلية وتفسح في المجال أمام الشعوب لتقول كلمتها، وتفعل فعلها! فلم تعد سياسة السيد والعبد قادرة مع ثورتي الاتصالات والمعلوماتية الاستمرار.. ناهيكم بالعمل على تطوير بلدانها وشعوبها، فقد ساهمت حكومات العسكر وحزب الرئيس الواحد بجعل البلدان التي حكمتها أكثر تخلفاً وأكثر بعداً عن أن تطول مفاهيم الحضارة المعاصرة، ولعل هذا الدم المستمر نزيفه، وهذا الخراب الشامل، وهذه الدول المهدَّدَة بالزوال إنما يجري تحت ذلك المفهوم المستعلي حضارياً..!

المصدر: تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى