هل كان مصطفى أديب ساذجاً حين قبل مهمة تأليف حكومة داخل الغابة اللبنانية التي تحتلها ذئاب جائعة لا تشبع؟ وهل كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجرد مقامر، راهن برصيده على طاولة القمار اللبنانية، في مواجهة مقامرين أتقنوا الدجل والتزوير؟
لا أملك أجوبة قاطعة على هذين السؤالين، لكن ما فهمته منذ أن بدأ جدل المداورة، الذي أخرج الأرنب الطائفي من قبعة السيد نبيه بري، هو أن اللعبة انتهت، وأن لبنان دخل في العتمة الشاملة.
إنه ليلنا اللبناني الطويل، ليل بلا أفق، وعتمة بلا قبس، وتوحش شامل
ماذا كان مشروع الرئيس المكلف مصطفى أديب، ومن خلفه المشروع الفرنسي للبنان؟
قال ماكرون للسياسيين اللبنانيين إنه أتى لينقذهم من أنفسهم، وأن مشروعه هو إنقاذ النظام الرأسمالي الذي حولته الأوليغارشية الطائفية الحاكمة إلى نظام مافيوي، تمارس فيه اللصوصية علناً.
قال لهم إن هناك عقلانية في التوحش النيوليبرالي، وأنهم بتحويل لبنان إلى منهبة أوصلوا أنفسهم وبلادهم إلى الاندثار، ودعاهم إلى أن يزيحوا قليلاً، ويستحوا، كي يستطيع إنقاذهم.
هذا لا يعني أن السيد ماكرون كان منزّهاً عن المصالح. بالعكس… ففرنسا، وسط الصراعات المفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران وتركيا وروسيا وإسرائيل، تريد لنفسها موطئ قدم في شرقي المتوسط، وهذا يعني ضرورة إنقاذ مرفأ بيروت، قبل أن يقضي عليه امتداد مرفأ حيفا إلى دبي.
وكان المرشح لرئاسة الحكومة ديبلوماسياً لبنانياً، لم يأت ليقود ثورة، بل جاء متسللاً من بين شقوق الأزمة، كي يحاول إنقاذ النظام، وعندما واجهته الطبقة الحاكمة بمكرها ولا مبالاتها، ضبّ أوراقه ومشى. لم يعلن حكومته التي رفضوها، ولم يثُر في وجوههم، وكان بذلك جزءاً من مشروع إنقاذ سلطة لا تريد أن تنقذ نفسها من الغرق.
لكن ما فات الرئيس الفرنسي هو أنه ليس أمام سياسيين فاشلين فقط، بل أمام «قرطة» من العملاء واللصوص. عملاء شاطرون في التذاكي، لكنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، ولصوص أعمتهم الشهوة إلى السلطة.
وسقطت المبادرة الفرنسية في وحل التأجيل، ومعاناة الاحتضار.
لماذا تتنازل إيران لفرنسا، وفرنسا لا تمون على أمريكا من أجل وقف الضغط الترامبي؟
ولماذا يُخلي الأمريكيون الساحة وهم قادرون على الاستمرار في الابتزاز، وينتصرون عبر تطبيع تتبيعي بدأ مع الإمارات، وقد يتحول إلى ظاهرة عامة، بل هو في طريقه إلى ذلك.
وماذا سيخسر السعوديون والإماراتيون إذا دُمر لبنان؟
القوى الدولية والإقليمية قررت أن الصراع في لبنان هو الأقل كلفة عليهم جميعاً، فليذهب الشعب اللبناني إلى الجحيم الذي بشّرهم به ميشال عون.
أستطيع أن أفهم دوافع أمريكا وإيران وإسرائيل ودول الخليج لجعل لبنان ساحة مهشمة ومدمرة، فهذه دول تدافع عن هيمنتها وتوسعها ومصالحها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية.
وأستطيع فهم دوافع الزعامات الطائفية للاستقواء بالخارج، على أن لا يقود ذلك إلى اندثار لبنان.
لكننا اليوم في هاوية الاندثار وفي عمق العتمة، نكتشف أن من زعموا أنهم زعماء لا يملكون من أمرهم شيئاً. فهم مجرد بيادق تلعب بها القوى الخارجية.
ربما كان في هذا القول إجحاف في حق حزب الله، فحزب الله -كما يبدو لي- شريك في القرار الإيراني، من دون أن يكون صاحب الكلمة الفصل في هذه الشراكة.
والسؤال هو ماذا يريد الثنائي إيران-حزب الله؟
خلال أيام انتفاضة 17 تشرين، لعب حزب الله دور حامي النظام، وكان هذا الدور مفهوماً، رغم أنه فاجأ الكثيرين. «فالمقاومة» التي حوّلت بندقيتها إلى صدور السوريات والسوريين ودعمت أحد أكثر الأنظمة توحشاً في التاريخ، من أجل حماية التوسع الإيراني، لن تتوانى عن لعب دور ميليشيا نظام فاسد ومستبد غطّى الوجود العسكري الإيراني في لبنان.
لكن اللعبة في لبنان لا تقل خطورة ومأساوية عن اللعبة في سوريا. فثمن بقاء النظام السوري كان انهيار البلد وليس إحراقه فقط. فسوريا اليوم بلد محتل من جيوش أجنبية تتقاسمه.
فماذا يفعلون بنا وبأنفسهم؟ هل ينتظرون الانتخابات الأمريكية؟ وهل يعتقدون أن أمريكا بعد حفلات التطبيع المستمرة في البيت الأبيض سوف تتراجع؟ وكيف يقيّمون الوجود الأمني الإسرائيلي على حدود إيران في الخليج؟
وهل يستطيع الشعب اللبناني تحمّل هذا الانتظار البطيء؟
هل يعتقد الثلاثي الحاكم (عون-حزب الله-أمل) أنه يستطيع أن يستمر بحكومة مسخ تقوم بتصريف الأعمال؟
أم أن هذا النظام يشبه جميع أنظمة الاستبداد العربية، فهو سيُسقط البلد قبل أن يسقط، انظروا إلى العراق وسوريا وليبيا واليمن، كي تعرفوا أيها اللبنانيات واللبنانيون ماذا ينتظركم.
ماذا يفعلون بنا؟
هل يجرجروننا بالقوة إلى حرب أهلية؟ أم ماذا؟
لن أقول إن الرئيس الفرنسي كان ساذجاً، فالرجل لعبها كما يُنتظر من دولة لها مصالح وبقايا علاقة عاطفية كولونيالية بلبنان، فاعتقد أنه يستطيع الدخول من ثغرة إفلاس الطبقة الحاكمة كي يقوم بترميم النظام اللبناني.
لكن صاحب الكلمة الأعلى في هذا النظام قال له إن النظام سيستمر كما كان، لأن أي ثغرة في جدار الاستبداد والفساد قد تعني انهيار الجدار برمته.
وفي المقابل، لم يتوقف الأمريكان عن الضغط المتعالي.
وجاء الموقف السعودي وبدلاً من أن يكحّلها عماها.
كنا نعلم أن المشروع الماكروني ليس أكثر من ترميم مؤقت للنظام، والآن بعد فشل هذا الترميم على مذبح تذاكي الأغبياء، وحماسة العملاء، وجشع اللصوص، فلن نقبل بأن نتفرج على موتنا البطيء.
إننا في عين عاصفة الموت، لكننا لن نستسلم.
ندخل في أعمــــاق العتمـــة حاملين مشاعل أرواحنا، ونقاوم.
المصدر: القدس العربي