قراءة في رواية: كاهن دورا

أحمد العربي

عبد العزيز الموسى: روائي سوري مخضرم، من مدينة كفر نبل، له العديد من الروايات، كاهن دورا آخر ما نُشر له. وأول ما قرأنا من انتاجه.

كاهن دورا: رواية متميزة بكل تفاصيلها، منذ الكلمات الاولى للرواية، تكتشف كقارئ أنك امام كتابة مختلفة. لغة الرواية مكثّفة، طريقة الكتابة؛ تارة تستخدم لغة المخاطبة عن الذات، وتارة عن الغير. نحن أمام تدفق نفسي عقلي مشاعري عرفاني، لا يحكم الرواية مسار متعارف عليه، من حيث الشخصيات وتسلسل الأحداث، وتحرك في الزمان والمكان للشخصيات الى هدف محدد. في هذه الرواية نحن منقادين الى ما تنتجه ذات الراوي دون أي ضابط، إلا ما هو قد خطط له في دماغه دون أي سببية، الرواية من خلال تدفقها المشاعري، تعيش حالة من تراكب الازمان واختلاطها، زمن دورا، الحقيقي او المتخيل، زمن خربة عواد القرية المنسية على أنقاض آثار لحياة بشر سابقين، لكنهم ما زالوا يعيشون بين الأحياء من خلال الوهم، واساطير وشياطين وجن، في الأرض اتفاق ومسالك وقنوات ماء غائر، كلها تعبر عن حياة كاملة سالفة حاضرة الآن في وجدان الناس في خربة عواد. في القرية القابعة على تخوم الصحراء، تاريخ عريق يعاد نسجه في ذهن الراوي، الذي يتبدل؛ تارة الاستاذ العائد للتدريس بعد انقطاع لسنوات، لعله يعدل من معاشه التقاعدي، وتارة الكاهن وتارة دورا او باسو حبيبها. الاكثر حضورا و الأهم في الرواية انك لست امام نص يسير وفق خط زمني او مشاعري يتابع حالة او حدثا، لا… الرواية حدثها وحالتها هي هذا التدفق العشوائي، وقد لا يكون عشوائيا؟!!. المعطى من عقل الراوي، خالطا الأزمان والأحداث، منتقلا دون اي مقدمات، بين الحدث المعاش واقعيا، الى المشاعر المعاشة ذاتيا، بين زمن المعاش اليومي الى زمن متخيل أو قديم حيث يعتقد الكاتب انه قد حصل في زمن غابر، وبين مشاعرية موغلة في الحضور داخل ذات الشخصيات وما يخفون وما يعلنون. في الرواية حب كما في كل رواية، وشوق للمرأة وللرجل، للنصف الآخر الذي تكتمل الحياة بحضوره. بين كل هذا التراكم احاول ان اعيد نسج خيوط الرواية، كما وصلت لي، لأخبر كقصاص الاثر ما فهمت، والله اعلم. ؟!!.
الاستاذ الشخصية الاكثر حضورا في الرواية، لنقل انه الراوي، وأنه محور الحدث الروائي بكل تنوعاته وغرائبيته. الاستاذ رجل في سن التقاعد، نصحه البعض أن يعود للتدريس لفترة وجيزة، يستطيع بعدها أن يرفع سقف معاشه التقاعدي، الذي أكلته تغيرات الحياة وزيادة الأسعار. وبالفعل وعبر واسطات متنوعة، كان أهمها من الوكيل ممثل الأمن. يرسل إلى قرية نائية تقبع على آثار قديمة، ليعلم فيها تلاميذ في المرحلة الابتدائية، يذهب الأستاذ ويمتلئ بحكايا المكان، وآثاره التي تتوالد حكايا، دورا وامها دورتي وحبيبها باسو، تعبوا كثيرا الى ان وصلوا لبعضهم وتحقق حلمهم بالزواج، الكاهن رمز الحفاظ على المعتقد والدين، سكن المعبد، ممثل الخالق، موزع قيم الخير والشر، هذا الكاهن بكل ما يحوي حضوره الإنساني، بجانبه الخيّر الالهي وجانبه الشرير الشيطاني، وكيف فكر بدورا وراودها عن نفسها، الكاهن الذي سيراه الاستاذ نموذجا هو وأمثاله، عن عقائد عفى عليها الزمن، وأصبحت بعض من أساطير، وبعض من عقد نفسية،وبعض من قيود حياتية ومجتمعية. كذلك حضور السيد القابع في صومعته في الجبل بحضوره الديني العرفاني التصوفي، المتواصل مع الذات الالهية، المترفع عن حياة البشر، لكنه المتشوق ان يكون مثلهم. أما المالك فهو صاحب الارض والبلدة ورب نعمتها، هو الذي يهب العطايا، وتمر النساء في مخدعه، وهو من اعطى لدورا حق ان تكون زوجة لباسو حبيبها. كل هذا الزمان وتداعيات حكاياته، يظهر أنه معاش في زمان ما سابق يوصله الينا الاستاذ وكأنه يُعاش الآن وهنا، الاستاذ نفسه دخل في لوثة حب دورا، التي سرعان ما أعيد دمجها في شخصية صوغة ابنة ام تامر التي استقبلت الاستاذ واحتضنته، وكانت له النافذة التي اطل منها على عالم خربة العواد. للاستاذ عالما عاشه ويعيشه، لا يستطيع أن يطنش اصوات القصف على أماكن مجاورة، وأن لذلك القصف نتائج من قتل وسجن ودمار، لكنه لا يتحدث عنها، وكأنها غير موجودة، سيتذكر أنه خدم في الجيش يوما، وكان له حظ خوض حرب مع عدو لم يحدده، الشيء الوحيد الذي يذكره، هو أن زميله بالجيش ذلك الشاب الذي احبه، قد أصيب واستشهد. الأستاذ في خربة عواد بصحبة ام تامر وابنها تامر الذي يعتقد أنه قد يكون ابنها من عشرتها الحرام مع المالك، وكيف زوجها المالك من حليل وأصبح أبا لتامر. الاستاذ والمدرسة البسيطة، المدير الشاب الذي جاء اليه الأمن واخبروه ان يتعامل مع الاستاذ على بصفته مدعوم من طرفهم. الأمن ممثلا بالوكيل ابو اكرم، يسيطرون على كل شيء حتى أنفاس الناس. هم الحاكم بأمره. في المدرسة المعلمة فطينة الممتلئة بأفكار دينية متزمتة، إمامها الغزالي، وسلوكها مسكون بيقين طاغي، توزع الحلال والحرام على كل المحيطين، المدير يشتهيها جنسيا، وهي تعيش في عوالمها الروحانية الخاصة، تعيش يقينها برسالية حياتها، لكنها لن تستطيع الاستمرار في عيش هذا الدور، ستلتفت لانوثتها وتغير سلوكها لاحقا. الاستاذ مسكون بنزعة عقلية تحاول نقد كل شيء وفهمه ايضا، لنقل انه مثقف ومطلع وخبير بالنفس والواقع والحياة والمسكوت عنه والمسموح أن يتم الحديث عنه. يعيش حياته داخل نفسه، كمحيط يمور بما في داخله من مراجعات في الفكر والحياة والتاريخ والعوالم الأخرى واهل الماضي السحيق، ولا يظهر منه إلا سطح مائه الساكن. عشق دورا في الحكاية المبثوثة في القرية، وعشق صوغ ابنة ام تامر التي تطابقت صورتها مع دورا، أو بالعكس.
تنتهي الرواية وقد تحددت خواتيم حياة اغلب شخوصها، يموت حليل زوج ام تامر، وكذلك المالك فواز او يغيب عند اخواله. موت السيد الذي يعتقد ان ام تامر قتلته، لانه اراد اغواء ابنتها صوغ كما اغواها قبل اعوام كثيرة . كما ان القصف والقتل والتدمير عاد للظهور في الجوار.

في تحليل الرواية نقول:
نحن أمام رواية مُتعبة، بمعنى أنك كقارئ يجب ان تكون حاضر الذهن دائما للعيش مع عوالم الراوي، وانتقالها العشوائي، من الذاتي الى المعاش، من المعاش الآن الى المعاش قبل ألاف السنين، من ذات فلان الى ذات آخر، ستحتاج ان تعيد قراءة بعض الجمل او الفقرات اكثر من مرة، ستحتاج ان تقرأ بصوت عال احيانا لتسمع نفسك كراوي مساعدا عقلك على تحليل المقروء والمسموع، بفهم أعمق. أعترف أنه قد يتعب بعض القراء في تتبع خيوطها، ولا يتابعون قراءتها، و اعترف انني امام عمل غريب، لا امدحه ولا اذمه، هنا فرادته بغرابته، كأسلوب لا يضبطه إلا ذاتية الروائي، وما احبّ أن يقول، اعترف ان تداعيات الروائي ليست قولا عبثيا، أو تداعيات مرضية على سرير طبيب نفسي، او اي كلام تمتلئ به أوراق الرواية، للكاتب دراية في الذات الانسانية، وعقلها وعواطفها، له دراية في موضوعات العلم والعصر، له موقف عقلاني من الدين والمعتقدات عموما. اما عن المشاعر الانسانية، فهو ماهر في تقصي حقائق النفس الإنسانية، من حيث تمازج الحب مع الجنس مع الحاجة للآخر المكمل للوجود الإنساني ومعناه داخل الحياة. كما انه يتقصى الاعماق السحيقة للنفس الانسانية والتاريخ، والاعتقادات ما قبل الدينية السماوية، الموغلة في الاساطير والجان والسحر والشعوذة، إنه يومئ الى ماض عريق للمكان سورية عموما، فهي مركز حضارات تبادلت العيش في هذه البلاد، آثار الرومان وأقنيتهم وأعمالهم الحجرية، لقاهم التي يحصل عليها منقبوا الآثار ومهربوها، الناس يلبسون هذا التاريخ -عن جهل وتخلف- لبوس الغريب والعالم الموازي للجن والشياطين وافعالهم السيئة، عوالم الناس ممتلئة بهذه الايمانات التي تحولت ليقين يعيد إنتاج الوهم ثم يتعايشوا مع الجنية فلانه أو الجني فلان، ليؤدي لحب وزواج وتلبّس، ليصنعوا جلسات الزار لإخراج الجن من البدن، ويتقبلون ذلك كحياة حقيقية داخل الحياة. للوهم احيانا حضور يتجاوز الواقع ويفوز عليه، هكذا اغلب الناس في خربة عواد، نموذج للقرية السورية القابعة خارج زمانها ومكانها، بما فيها الحرب التي لم تبق ولم تذر خارج هذه الخربة الصغيرة المنسية.
أما الحاضر الغائب في الرواية فهوالقصف والقتل والدمار المجاور، المسكوت عنه. زمن الرواية ٢٠١٧م يعني هناك سنوات مرت على الثورة السورية التي اندلعت في ٢٠١١م، مليون قتيل ومثلهم جرحى ومعاقين، بلاد دمرت ونصف البلاد صار أهلها لاجئين في كل بقاع الدنيا. هل اراد الكاتب القول، ان هناك حياة اخرى في الرواية تعاش على هامش الحياة الحقيقية التي جعلت سورية في اسوأ حالاتها، كشعب وارض وحكّام مستبدين مجرمين ظلمة، ودول تدعم النظام لمصالح، تستبيح الشعب، وتستثمر الأرض وترويها بدم الشعب الذي انتصر يوما لحقوقه بالكرامة الانسانية و الحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل.
هل اراد الكاتب القول أن هذه الأرض العريقة من الالف السنين التي يعيش فيها البشر منذ فجر التاريخ، وصنعوا مجدهم. يستحقون ان يعيشوا كبشر حاصلين على كل حقوقهم الانسانية.
او هكذا نتمنى ان تكون رسالة الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى