عشت معركة التأميم
ـ 1 ـ
قدمت ثورة يوليو1952منذ يومها الأول نموذجا للتحدى لم تقدر القوى الاستعمارية التى كانت مسيطرة على النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية على قبوله ، وكل ما سبق قيام الثورة من محاولات مماثلة إما أمكن إحباطها بالتدخل المباشر مثلما حدث مع حركة مصدق فى إيران،أو أمكن احتواؤها وتطويعها مثلما حدث مع عديد من الحركات الوطنية فى الدول العربية.
ولقد انعكس هذا التحدى بداية فى القبول لمنهج التحليل الإستراتيجى الذى تتبعه القوى الاستعمارية لشكل العلاقات المتبادلة مع مناطق العالم المختلفة والذى كان ينطلق من نقطة واحدة فقط هى مقاومة المد الشيوعى حيث استبدلت ثورة يوليو 1952 هذه النقطة بمدخل بديل آخر هو التحرر الوطنى والقومى من كل من أشكال النفوذ والهيمنة الخارجية .
ولا شك أن تبنى هذا المدخل قد استلزم خطوات مصاحبة يأتى فى مقدمتها بناء القوة الذاتية على الصعيد الإقتصادى والعسكرى فى إطار من الاستقلالية قدر الإمكان وحشد كل الإمكانيات المتاحة لصالح هذا الهدف و الاستفادة من كل المعارك السياسية أو العسكرية التى خاضتها شعوب المنطقة سواء قبل الثورة أو بعدها فى تقوية البناء الذاتى للدولة وللأمة .
ومعركة العدوان الثلاثى على مصر لم تأت من فراغ ، ولم تنتهى إلى فراغ ، لقد تم تدبيرها فى إطار رؤية للمصالح السياسية للدول التى شاركت فى العدوان ، وتأسست هذه الرؤية على أساس قراءة متعمقة لكل التطورات والأحداث التى أعقبت تاريخ 23يوليو1952 ، وما يمكن أن تقود إليه من نتائج مؤثرة على هذه المصالح فى المستقبل .
والموقف المصرى والعربى فى مواجهة العدوان لم يكن مجرد موقفا انفعاليا يعبر عن رفض الاحتلال أو التصدى للعدوان المسلح ، وإنما جاء تتويجا لسلسلة من المواقف كانت تؤكد طبيعة الاختيار الإستراتيجى الذى تتبناه ثورة 23يوليو والقوى القومية والتحررية التى تضامنت معها ، ومن ثم قبلت أن تتحمل ثمن هذا الاختيار إلى النهاية .
وفى كل القرارات والخطوات التى اتخذت قبل وقوع هذا العدوان لم يكن أى منها منفصلا عن الآخر ، بل جاءت كلها متداخلة ومتناغمة لتؤكد الارتباط فيما بينها ، وكان يكفى الامتناع أو التراجع عن قرار واحد من هذه القرارات حتى تأمن تداعيات كل القرارات الأخرى وتحتفظ لنفسها بالاستمرارية الهادئة ، ولكن كنظام أمكن تطويعه بنفس النسق والأسلوب الذى طبع نظم حكم أخرى سبقتها فى مصر أو عاصرتها فى الدول العربية .
من هنا كان التعرض لأحداث العدوان الثلاثى لابد أن يفتح أمامنا آفاقا لطرق العديد من القضايا ذات العلاقة المباشرة ، والتى تفجرت خلال السنوات الأربع التى سبقت وقوع العدوان، بل وقبل وقوع العدوان فى مرحلة تبلور الفكرة الثورية لدى قادة يوليو وبالتحديد منذ قيام الدولة العبرية ونشوب حرب فلسطين فى عام 1948 .
ـ 2
حرب فلسطين
تحديد مصدر التهديد الرئيسى
لقد ساهمت حرب 1948 فى فلسطين فى إلقاء الضوء مركزا على الواقع القائم فى الدول العربية ومدى سيطرة القوى الاستعمارية على قرارها السياسى من ناحية ، وعلى جوانب القصور فى الجبهات الداخلية وما يعترى القيادات العربية من مظاهر فساد وتردد من ناحية أخرى ، فبرغم تزايد نشاط العصابات الصهيونية فى أرض فلسطين فى حقبة الأربعينات ، وإعلان بريطانيا رسميا اعتزامها الانسحاب منها فى مايو1948 ، ووضوح الهدف النهائى الذى تعمل له العصابات الصهيونية منذ بداية القرن لم تستطع القوى الفلسطينية ، أو القوى العربية أن تنظم صفوفها وترسى خطة محكمة للمحافظة على عروبة فلسطين . ففى داخل فلسطين ورغم بروز اسم الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين كرمز للمقاومة ورئيسا للهيئة العربية العليا إلا أن المقاومة الفلسطينية كانت تعتمد إلى حد كبير على الارتجال ومحاولات الدفاع المحلى عن القرى والمناطق أكثر منها حركة مخططة و شاملة . وعلى الصعيد العربى جرت بعض المبادرات التى قادها متطوعين عرب ، ففى السادس من مايو1947 دخل البكباشى أحمد عبد العزيز فلسطين على رأس قوة من المتطوعين، كانت تضم إلى جانب المصريين الذين كان على رأسهم الصاغ كمال الدين حسين وآخرين ، وكذلك أفراد من كل من ليبيا وتونس فى حدود ألف مقاتل تقريبا لكن كان ينقصهم التدريب والسلاح الكافيين فضلا عن غياب التنسيق بينهم وبين متطوعين آخرين قدموا من دول أخرى ، بل لا أبالغ إذا قلت أن ثمة تنافس وقع بين هذه المجموعات وبعضها وانتهى الأمر باستشهاد واحد من أكثر العناصر كفاءة وإخلاصا للقضية هو البكباشى أحمد عبد العزيز .
أما على مستوى الحكومات ، فقد اجتمع فى الثانى عشر من ديسمبر1947 رؤساء الحكومات العربية الأعضاء فى الجامعة العربية للنظر فى أساليب نجدة الشعب الفلسطينى وذلك فى أعقاب صدور قرار الأمم المتحدة رقم181 فى نوفمبر1947 والخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين ، إحداهما يهودية والأخرى عربية ، وقد ظهر فى هذا الاجتماع اتجاهان :تمثل الاتجاه الأول : والذى تبنته كل من مصر والسعودية وأيده العراق فى الدعوة إلى عدم استخدام القوة المسلحة العربية النظامية فى المعارك الدائرة فى فلسطين ، والاكتفاء بإمداد الفلسطينيين باحتياجاتهم من الأسلحة والذخيرة وتزويدهم بالمتطوعين . أما الاتجاه الثانى : فقد تبنته الأردن وأيدتها كل من سوريا ولبنان وكان يصر على إشراك القوات النظامية فى الصراع ضمن حدود معينة . وقد لقى الاتجاه الأول تأييد الحاج أمين الحسينى الذى كان يرى أن الفلسطينيين قادرين على مواجهة الموقف بأنفسهم إذا ما تم تزويدهم بالسلاح والمتطوعين علاوة على توفير التدريب اللازم لهم .
لكن المؤتمر انتهى إلى التدخل بالقوات النظامية العربية فى 15مايو1948 ، والملفت للنظر هنا أن الملك فاروق قد أصدر أوامره بدخول القوات المصرية المعركة يوم13مايو1948 أى قبل التاريخ المحدد بيومين كنوع من المزايدة على باقى الدول العربية إلا أن اللواء أحمد المواوى قائد هذه القوات لم يتسلم أوامر القتال إلا فى اليوم التالى أى يوم 14مايو1948 أى أن التحرك قد بدأ دون صدور أوامر القتال . كانت هذه القوات المصرية عبارة عن مجموعة لواء يتراوح عددها بين ألف وألف وخمسمائة جندى ، ولحقت بها بعض المجموعات الرمزية من كل من السعودية والسودان لا يتجاوز عدة مئات ، وكانت قوات ينقصها السلاح والتدريب مثلها مثل باقى القوات العربية التى بلغ مجموع عددها فى فلسطين فى 15مايو1948 حوالى 14ألف جندى بينما كانت القوات الصهيونية فى حدود سبعة آلاف جندى يخضعون لقيادة موحدة وعلى درجة عالية من التدريب وخدم أغلبهم فى صفوف جيوش أجنبية مما دعم كفاءتهم القتالية ، والأهم أنهم يعملون وفقا لهدف سياسى واضح ويؤمنون به إلى حد التعصب . وكانت النتيجة الطبيعية هو فشل التدخل العسكرى العربى فى تحقيق أى من أهدافه اللهم إلا الاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة كمناطق عربية وارتكاز الصراع على المواجهة بين إسرائيل والعرب ككل ، وما ينطوى على ذلك من تشابك عميق مع أوضاع منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة .
على أن النتيجة الأهم فى سياق هذه المذكرات هو دور هذه الحرب فى تفتيح أذهان الضباط الذين أسسوا تنظيم الضباط الأحرار فى مصر وشاركوا فى هذه الحرب فلم تضع أيديهم على مصدر الخطر الحقيقى فقط كما عبر عنه جمال عبد الناصر عندما كان محاصرا فى الفالوجة: ” بأن المشكلة ليست هنا فى فلسطين وإنما فى القاهرة . . ” ، بل وبدرجة أكبر فى بلورة الفكرة القومية فى إدراك قادة يوليو واقتناعهم الكامل بأن أمن مصر جزء لا يتجزأ من أمن الأمة العربية ولا يمكن الفصل بينهما بأى حال . فالمشكلة الكامنة فى القاهرة التى عبر عنها جمال عبد الناصر كانت تبدأ بالتغيير وتنتهى إلى عدة أهداف جوهرية كالتالى : تحرير القرار المصرى من السيطرة الأجنبية ، ومن ثم فإن قضية الجلاء يجب أن تتصدر كل الأولويات بعد التخلص من النظام الملكى مع بناء جبهة داخلية متماسكة تكون خير سند للقرار . بناء القوات المسلحة المصرية إلى الدرجة التى تجعلها قادرة على الدفاع عن أهداف الثورة وحماية مكتسباتها . وضع برنامج للتنمية الداخلية فى المجالين الإقتصادى والاجتماعى يتيح المجال للاستفادة بأقصى درجة ممكنة من الموارد الذاتية لمصر وقبول الاستعانة بأية موارد خارجية بعيدا عن التبعية والخضوع للهيمنة الأجنبية . بناء جبهة عربية داعمة لأهداف الثورة المصرية وأهداف الأمن القومى العربى بوجه عام مع إتباع سياسة التحرر من الاستعمار ليس فقط على مستوى الوطن العربى ، وإنما فى كل دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية .
– 3 –
محاولة تعزيز القوة الذاتية تمهد لكشف المواقف
انطلقت جهود الثورة خلال السنوات الأربع التى أعقبت 23يوليو1952 فى اقتحام هذه المجالات الأربعة بقوة ، وكانت أولى الخطوات إنشاء مجلس أعلى للإنتاج ، وآخر للخدمات لإدارة عملية التغيير الاجتماعى والاقتصادى فى الداخل ، وبدأ التفكير مبكرا فى توفير المصادر الممكنة لتسليح القوات المسلحة . بدأت المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على السلاح فى ديسمبر1952 ، وكان البكباشى جمال عبد الناصر هو الذى اقترح ذلك كوسيلة لاختبار مدى جدية التعاون مع أمريكا ، والمدى الذى يمكنه أن يصل إليه ، وتم إيفاد قائد الجناح على صبرى مع لجنة من الجيش والبحرية إلى واشنطن للتفاوض على صفقة سلاح ، واعتبر جمال عبد الناصر أن نجاح هذه المهمة يمكن أن يفتح المجال للتعاون فى مجالات أخرى سياسية أو اقتصادية ، وانضم إلى هذه اللجنة فى واشنطن اللواء عبد الحميد غالب الملحق العسكرى فى ذلك الوقت وسفير مصر فى لبنان فيما بعد .
وفى الولايات المتحدة الأمريكية طالت المفاوضات دون مبرر ، وكانت تقارير على صبرى تعبر عن التشاؤم حتى أبلغه الجنرال عمر برادلى رئيس الأركان المشتركة صراحة ، أنهم لا يستطيعون تدعيم مصر بالسلاح طالما أن هناك قضايا لم يتم حلها . وكان يقصد بهذه القضايا التى لم تحل ، مشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط وقضية الجلاء البريطانى عن مصر والعمليات الفدائية ضد الإنجليز فى قناة السويس . وأشار الجنرال برادلى إلى أن بلاده مستعدة فقط لتزويد مصر بقنابل مسيلة للدموع وأسلحة خفيفة لقوات البوليس كانت هذه الاتصالات الرامية إلى الحصول على السلاح من الولايات المتحدة الأمريكية تهدف فى المقام الأول اختبار نوايا واشنطن تجاه ثورة يوليو ، وقد بدأت فى شكل تجديد للطلب الذى سبق أن تقدم به النحاس باشا فى عام1951 لنفس الغرض عقب قيامه بإلغاء معاهدة 1936 بقرار من جانب واحد . وفى الوقت الذى كانت فيه الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية تجرى على المستوى الرسمى بمعرفة على صبرى واللجنة المعاونة له ، كانت هناك قناة خلفية تشهد اتصالات موازية غير رسمية وتعمل على تبادل الرؤى وجس النبض من جانب كل طرف لدى الطرف الآخر ، وكانت هذه القناة يديرها من الجانب المصرى البكباشى زكريا محى الدين ومحمد حسنين هيكل وحسن التهامى وحسن بلبل ،
ثم تولى إدارتها بعد ذلك على صبرى وسامى شرف ثم صلاح نصر فأمين هويدى فحافظ إسماعيل ثم أحمد كامل ، أى أنها كانت تجرى تحت إشراف مؤسسة الرئاسة والمخابرات المصرية ، بينما يديرها من الجانب الأمريكى كيرميت روزفلت أحد العناصر الرئيسية التى استخدمتها واشنطن فى إحباط انقلاب مصدق فى إيران 1951 ، وكانت تعمل تحت إشراف المخابرات المركزية الأمريكية ، ويطلق على المجموعة المشاركة فيها اسم ” مجموعة ألفا ” وقد نشطت هذه القناة بشكل واضح خلال عامى 1953، 1954 ، ومن العناصر المشاركة فيها أيكل بيرجر ، ومن بعده مايلز كوبلاند أحد عملاء المخابرات المركزية الأمريكية ومن بعده ” لاتراش ” ، ثم تلاهم تشارلز كريمينز الذى كان يعمل أستاذا زائرا بالجامعة الأمريكية فى القاهرة وساعده فى تشغيل المجموعة شخص آخر يدعى فرانك كيرنز كان يعمل مراسلا لإذاعة NBC وآخر يدعى هارى كيرن ، كان يتخذ ساترا له كمندوب لإحدى شركات البترول الأمريكية فى مصر ولكن عمله الحقيقي كان إدارة شبكة مخابرات للحصول على المعلومات . فى أكتوبر1953 قام كيرميت روزفلت بزيارة للقاهرة وتجدد الحديث عن التسليح الأمريكى لمصر ،
ورغم التعاطف الذى أبداه مع المطالب المصرية إلا أن الحوار لم يسفر عن شىء يذكر على الصعيد العملى ، وإن كان قد واصل ممارسة دوره كقناة خلفية بين الإدارة الأمريكية والمخابرات المركزية من جانب ، وبين مؤسسة الرئاسة والمخابرات المصرية من جانب آخر ، من خلال ضباط اتصال مختصين بهذه المهمة . حدث فى عامى 1955/1956 أن كان ضابط الاتصال المكلف بالمهمة يدعى ” لا تراش ” ـ و كان من أصل عربى ” الأطرش ” ـ وتم إبعاده نتيجة واقعة محددة حدثت منه فى مكتبى أثناء أزمة ” تمبلر ” و ” جلوب ” فى الأردن ، حيث طلب موعدا لمقابلتى لإبلاغنا رسالة كان محتواها ” أن ترفع مصر يدها عن الأردن” ، وهنا قمت واقفا و ضغطت على زر الجرس أمامى فدخل سكرتيرى محمد السعيد الذى قلت له : ” فلتدلّ الضيف إلى الطريق إلى المصعد . . ! منهيا بذلك المقابلة فى الحال ، رافضا تصرفه هذا شكلا وموضوعا ، هذا التصرف حتى ولو كان خارج القناة الدبلوماسية أو الرسمية . ولما أبلغت الرئيس عبد الناصر بالواقعة عقب انصرافه من مكتبى ، أيدنى وقال لى “إنت إتصرفت التصرف الصحيح ” .
وقد تم إبلاغ واشنطن بهذا التصرف الغير مقبول من جانب مندوبهم فقاموا باستدعائه وعاد إلى بلاده بالفعل . وقد تبين للقيادة المصرية أنه لم يكن يوجد لدى واشنطن أية نية لبيع الأسلحة لمصر واكتشفت فيما بعد أن إلغاء الصفقة يرجع إلى مجموعة الأسباب التالية : احتجاج بريطانيا لدى الجانب الأمريكى حيث اعتبرت أن إتمام الصفقة سوف يؤثر على قدرات القوات المسلحة المصرية بما يضر بمركز وإمكانيات القوات البريطانية فى منطقة قناة السويس، وكان سببا فى التهرب الذى لجأ إليه الطرف الأمريكى سواء بدعوى مفاوضات الجلاء وطلب الانتهاء منها أولا ، أو المطالبة بعقد اتفاق للدفاع المشترك مع مصر ، الأمر الذى رفضه جمال عبد الناصر من حيث المبدأ ، وإن كانت هذه النقطة قد استخدمت من جانب مصر كورقة ضغط على مفاوضات الجلاء ، مما ساعد على اختصار الكثير من الوقت والجهد فى هذه المفاوضات . تزامن الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية مع تصاعد الدعوة التى أطلقها عبد الناصر لإقامة نظام للأمن العربى يرتكز على اعتبار الصهيونية هى مصدر الخطر الأساسى الموجه للأمة العربية وليس الخطر الشيوعى وكان ذلك يتعارض مع المحاولات الأمريكية الرامية لفرض وجهة نظر محددة تتماشى مع التوجهات الأمريكية تجاه موسكو والمعسكر الشيوعى .
إذن كان الاختبار الثانى للموقف الأمريكى من ثورة يوليو متمثلا فى قضية الأحلاف ، حيث كانت واشنطن مصممة ـ وفقا لرؤيتها فى ذلك الوقت ـ على محاصرة الاتحاد السوفيتى بالأحلاف والقواعد العسكرية فى كل مناطق العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط وأدركت واشنطن أن قيام حلف فى الشرق الأوسط بدون مصر سيكون حلفا عديم القيمة من الناحية الإستراتيجية ، ومن ثم جرى تكثيف العمل على ضم مصر لحلف بغداد . ولم تكتف مصر الثورة برفض الانضمام للحلف فقط ، بل خاضت معركة واسعة لمنع انضمام دول عربية أخرى إليه ، حيث رأت فيه إعادة للهيمنة الاستعمارية وللتبعية الأجنبية . ففى يوليو1954 استقبلت القاهرة زيارتين لكل من الأمير عبد الإله ولى عهد العراق ، والثانية قام بها عبد الله اليافى رئيس وزراء لبنان، واجتمعا والرئيس جمال عبد الناصر كل على حدة ـ وبحكم عملى فى القسم الخاص بالمخابرات العامة وقتها فقد كلفت بتسجيل محاضر الاجتماعات مع المسئولين العرب ، وفى هذه الاجتماعات طرح عبد الناصر بوضوح موقفه وأكد على رفض مقولة الانضمام إلى مقاومة الشيوعية مؤكدا على الأبعاد التالية :وفى أغسطس من نفس العام 1954 قام جمال عبد الناصر بأداء فريضة الحج ، والتقى بعدها بالملك سعود ، ودار النقاش مجددا حول قضية الأحلاف وسعى النفوذ الغربى لإحكام سيطرته على المنطقة العربية ، كما شملت المباحثات أيضا وضع إسرائيل فى المنطقة ، وطالب عبد الناصر ببلورة توجه عربى موحد لمقاومة التيارات الزاحفة على المنطقة ومحاولات الاحتواء الخارجى ، وأبدى الملك سعود وقتها تجاوبا كبيرا مع كل ما طرحه عبد الناصر .
وفى نفس الوقت كلف صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الإرشاد القومى ، بالتوجه إلى كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن فى مهمة لشرح وجهة النظر المصرية فى سياسة الأحلاف والدعوة إلى مزيد من التضامن العربى ، وكان الوفد المصاحب له يضم كلا من محمود رياض وعبد القادر حاتم وفتحى الديب وسامى شرف ، وتشعبت الاتصالات وتضاعفت الجهود السياسية والدبلوماسية فى نفس الإطار حيث قام نورى السعيد رئيس وزراء العراق بزيارة القاهرة فى 14سبتمبر1954 ، وفى نفس الشهر نجحت الولايات المتحدة الأمريكية فى توقيع اتفاق مع الملك إدريس السنوسى ملك ليبيا لإقامة قاعدة عسكرية كبرى فى طرابلس أطلق عليها اسم ” قاعدة هويلس ” ، وكانت بريطانيا قد وقعت اتفاقا لإقامة قاعدة أخرى فى طبرق باسم ” قاعدة العضم ” ، وكان ذلك يعنى فى بعده الإستراتيجى تهديدا مباشرا للأمن القومى المصرى ، أى أن المقصود هو إحاطة مصر من حدودها الغربية . وفى 24فبراير1955 أعلن رسميا قيام حلف بغداد ولم تنضم له سوى العراق مما أعتبر من وجهة نظر الغرب فشلا لسياسة الأحلاف فى المنطقة ، ومن وجهة النظر العربية أعتبر قيام حلف بغداد تهديدا للأمن القومى العربى وقام إيدن فى أعقاب إعلان حلف بغداد
مباشرة بزيارة للقاهرة لمواصلة الضغط على الحكومة المصرية لإقناعها بالانضمام للحلف والعمل على استكمال مفاوضات الجلاء البريطانى . 1
أن الاتحاد السوفيتى الزعيم الأول للشيوعيين يقع على بعد آلاف الأميال من الوطن العربى ، ولا يوجد معه اتصال جغرافى .
2 – أن الدين الإسلامى يوفر لنا الحماية الضرورية من الشيوعية .
3- أن معركتنا الحقيقية ليست مع الشيوعية ، وإنما مع الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية فى فلسطين ، وعندما ننتهى من هذه القضية يمكن النظر فى قضايا أخرى ، فالأولوية يجب أن توجه إلى فلسطين وإلى حماية أمتنا العربية وأمننا الوطنى و القومى . وتؤكد الوثائق الأمريكية عن هذه الفترة فاعلية التنسيق بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية فى جميع القضايا التى أثيرت مع حكومة الثورة فى ذلك الوقت ، والمحاولات المكثفة لاحتوائها ،
وانتهت هذه المرحلة بحدث كان بمثابة نقطة تحول فى التفكير الإستراتيجى المصرى ، ففى 28فبراير1955 ـ أى بعد قيام حلف بغداد بأربعة أيام ـ قامت إسرائيل بشن غارة مفاجئة على قطاع غزة بدون أى مقدمات وأسفرت عن إحداث خسائر كبيرة فى الأفراد والمعدات ، حيث بلغت الخسائر البشرية حوالى 38 ما بين ضابط وجندى ، وأحدثت هذه الغارة تحولا فى تفكير عبد الناصر وقادة الثورة تجاه إسرائيل . فقد كان عبد الناصر ينظر إلى إسرائيل باعتبارها عضوا دخيلا فى جسم الأمة العربية ، وأن هذا العضو مصيره إلى زوال ، والزمن كفيل بحل هذه المشكلة ويرى أن التوازن السكانى فى فلسطين يسير فى صالح العنصر العربى حيث أن معدل الزيادة السكانية فى العنصر اليهودى بطبيعة تكوينه وثقافته تتجه إلى التناقص فى وقت تتزايد فيه معدلات النمو السكانى فى العنصر العربى ، وبالتالى فسوف يعود اليهود إلى أقلية حتى داخل فلسطين
كذلك تبلور اتجاه داخل القيادة الثورية فى مصر يقوم على أن إسرائيل لن تبادر بالعدوان تجنبا لإثارة العالم العربى وتفجير أزمة مشابهة لأزمة1948 ، خاصة فى ظل تصاعد الوعى العربى والمد القومى الذى يرفض الخضوع للقوى الاستعمارية وأن هذا العدوان لن يجد مبررا لدى الغرب الداعم لإسرائيل . وقد خلص هذا التقويم إلى عدم المبادرة بالصدام العسكرى مع إسرائيل والتركيز بالدرجة الأولى على ضرورة تقوية مصر فى كل المجالات لتشكيل قوة ردع لإسرائيل ومنعها من التفكير فى شن أعمال عدوانية ضد مصر ، أى أن الهدف فى هذه المرحلة كان تحييد إسرائيل قدر الإمكان ، والتركيز على وضع مصر على عتبات التنمية الشاملة وبناء قوتها الذاتية . وكان دافيد بن جوريون قد سطر فى كتابه ” إسرائيل تاريخ شخصى ” ما يلى بالنص :” إنه يندر أن نجد أكاديمى أو سياسى إسرائيلى لم يتثقف على أيدى الموساد ، ومن خلال منظمات الإرهاب الإسرائيلى فى الأربعينات ” . كما كان دافيد بن جوريون أيضا له تفكير مختلف ، فعندما التقى وزير خارجية فرنسا “كريستيان بينو” فى عام 1954 ثم مع ” ناحوم جولدمان ” رئيس المنظمة الصهيونية العالمية سألهما عن رأيهما فى جمال عبد الناصر فكانت إجابتهما متقاربة وخلاصتها : ” إنه رجل يميل للتعاون مع الغرب من أجل إصلاح الشأن فى بلده وينادى بالتنمية بدليل أنه شكل مجلس أعلى للإنتاج وآخر للخدمات ، ويأخذ مجلس قيادة الثورة بتوصيات المجلسين فى تنفيذ مشروعات التنمية مثل التوسع فى إقامة المدارس والمستشفيات وإنشاء مجمع للحديد والصلب وتطوير صناعات للغزل والنسيج الخ” . وكان تعقيب بن جوريون ” إن هذا هو أخطر ما فى سياسة جمال عبد الناصر ، فالتنمية معناها القضاء على إسرائيل ” .
وجاءت الغارة على غزة كوسيلة قوية للتنبيه ، وسببا فى إعادة النظر فى كل التقويمات التى توصلت إليها الثورة بالنسبة لنوايا المستقبلية ، وكان تقدير عبد الناصر بعد الغارة أنها ليست عملية عادية ، وإذا كانت تمثل مجرد وسيلة لاختبار القدرات العسكرية المصرية فماذا يمكن أن يكون عليه الموقف إذا ما قامت عمليات عسكرية أوسع أى أن عبد الناصر اعتبر أن غارة غزة هى وسيلة لاختبار قدراتنا العسكرية فى المستقبل ، وإذا ما تكررت بحجم أكبر فسوف تؤدى إلى هزيمة الثورة ، وقد خلص من هذا البحث والتقدير إلى ضرورة العمل المكثف لأولوية تنفيذ أحد المبادئ الستة لثورة23يوليو1952 الذى كان ينص على بناء جيش وطنى قوى وتحديثه بأحدث الأسلحة كهدف رئيسى لهذه المرحلة ، مع انتهاج كل السبل الممكنة لتوفير هذا السلاح من أى مصدر فى نفس الوقت الذى يواصل فيه جهوده لبناء إطار عربى جماعى للأمن القومى ، أى إجراء إعادة ترتيب شامل لكل الأوراق . ففى نفس الأسبوع الذى وقعت فيه الغارة الإسرائيلية على غزة ، تم توقيع اتفاقية للدفاع المشترك مع سوريا ، يتم بموجبها إنشاء قيادة مشتركة للقوات المساحة فى البلدين ،
وقد انضمت كل من السعودية واليمن لهذه الاتفاقية بعد ذلك ، وكان معنى ذلك أن كلا من مصر وسوريا والسعودية واليمن لن تنضم إلى حلف بغداد، وقد أعلنت السعودية بوضوح عن تضامنها مع مصر فى مقاومة الأحلاف . وبدأ عبد الناصر يطرق أبواب الغرب من جديد للحصول على السلاح ، ففى العاشر من مارس 1955 التقى مع السفير الأمريكى فى القاهرة هنرى بايرود ، وإستعرض معه الموقف مجددا طلب الحصول على السلاح ومؤكدا أنه فى الوقت الذى تحرم فيه مصر من الأسلحة تواصل إسرائيل أنشطتها العدوانية وغاراتها المسلحة تحصل مع ذلك إلى جانب العراق ـ على المزيد من الأسلحة . ومرة أخرى جاءت الإجابة سلبية وأصبح على يقين أنه لن يحصل على السلاح من الغرب طالما أنه لم ينفذ شروطه فيما يتعلق بنظام الدفاع عن الشرق الأوسط ومن ثم كان الاتحاد السوفيتى هو البديل الأنسب للغرب فى توريد الأسلحة ، ولم يعد أمام الرئيس عبد الناصر إلا التفكير فيه بعد أن نفذ صبره وأوصدت كل الأبواب أمامه
ـ 4 ـ
الاتجاه إلى مصادر بديلة
جاءت الفرصة أثناء انعقاد مؤتمر باندونج فى الثامن من إبريل 1955 ، وجرى أول اتصال بين الرئيس جمال عبد الناصر وشوإين لاى رئيس وزراء الصين ، ودار الحديث عن الأوضاع فى الشرق الأوسط ، وما تتعرض له مصر من تهديدات إسرائيلية وموقف الغرب من قضية التسلح ، ثم سأله عن إمكانية مساهمة الاتحاد السوفيتى فى تزويد مصر بالأسلحة ، ووعد شو إن لاى بمفاتحة المسئولين السوفيت فى ذلك ، وبعد عودة الرئيس من باندونج ، رأى أن يلمح لكل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بأن تسويفهما فى الاستجابة لطلبات مصر من الأسلحة قد يدفعه للبحث عن مصدر آخر وسوف يضطر لقبول العرض السوفيتى إذا لم تستجب الدولتان .
واعتقدت لندن وواشنطن أن عبد الناصر يمارس ضغوطا عليهما ، ورغم نصيحة سفرائهما لحكومتيهما بأن عبد الناصر يعنى ما يقول ، إلا أن رد البلدين جاء سلبيا .
وعلى الجانب الآخر بحثت موسكو الطلب المصرى بكثير من الجدية ، ففى أعقاب عودة جمال عبد الناصر من باندونج بفترة قصيرة طلب السفير السوفيتى فى القاهرة دانيال سولود مقابلته لتسليمه رسالة من القادة السوفيت ، وكانت هذه الرسالة تتضمن موافقة القيادة السوفيتية على طلب مصر بشأن الحصول على الأسلحة .
وبدأ التنفيذ على الفور ، وتشكل فريق عمل للجانب المصرى برئاسة عبد الناصر وكان يضم اللواء عبد الحكيم عامر وكل من على صبرى وسامى شرف ومحمد حافظ إسماعيل ونور الدين قرة ( الأخيران كانا مديرا مكتب عبد الحكيم عامر ) وكلف سامى شرف بعملية التنسيق والإشراف على أساليب الاتصال فى الداخل والخارج .
تشكل وفد مصرى عسكرى برئاسة محمد حافظ إسماعيل ومعه عباس رضوان للسفر إلى براع ، حيث فضل الجانب السوفيتى أن تقوم تشيكوسلوفاكيا بإتمام الصفقة تجنبا لإثارة الغرب إذا ما وقعت مع موسكو مباشرة .
وقد قمت بوصفى سكرتيرا للرئيس للمعلومات بالتحضير والمشاركة فى ترتيب الصفقة، و تم وضع خطة لتأمين التنفيذ فى سرية كاملة على مستويين ، الأول تأمين الاتصال بين البعثة ومكتبى بالقاهرة ـ سواء لاسلكيا عن طريق سفارتنا فى براع أو عن طريق الرسائل والتقارير والحقيبة الدبلوماسية لإبلاغنا بنتيجة التفاوض والمباحثات وتقارير بنجاح المهمة وتم تخصيص ماكينات للشفرة من نوع خاص جديد استوردناها من سويسرا لهذه المهمة ، وأعددنا جداول شفرة خاصة جديدة بأسلوب حديث ومعقد وغير مبنى على المعادلات الحسابية المعروفة والتى تقوم بها ماكينات الشفرة العادية ، وإنما استحدثنا أسلوب تشفير للشفرة وذلك بالتعاون مع فنيين ودبلوماسيين من وزارة الخارجية المصرية ( إدارة الأبحاث ) ، وكان هناك مندوب حامل حقيبة دبلوماسية جاهز للتحرك على مدار الأربع والعشرين ساعة فى القاهرة سواء من سكرتارية المعلومات أو من وزارة الخارجية المصرية ويقابله مندوب آخر فى براغ وموسكو جاهزين للتحرك إلى القاهرة حاملين الرسائل والتقارير فى أى لحظة .
وهكذا انحصرت الاتصالات التى كفلت سريتها وتم تأمينها تماما ، فالرسائل والبرقيات الشفرية كانت تصلنى شخصيا وأقوم بنفسى بحل الشفرة وتكتب بخط يدى لتعرض على الرئيس عبد الناصر ويطلع عليها عبد الحكيم عامر وعلى صبرى ، وكذلك كانت التقارير، ثم تعود للحفظ فى خزانة خاصة فى مكتبى ، وكل هذه الأوراق والوثائق محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ، وكذلك دفاتر الشفرة هى والماكينات التى كنت أحتفظ بها فى مكتبى للتذكار .
وأعد مشروع الاتفاقية بين القاهرة وموسكو ، وكانت تنص على أن تشترى مصر أسلحة سوفيتية من بينها مقاتلات من طراز ” ميج ” وقاذفات للقنابل من طراز ” إليوشين ” و” “توبوليف ” ، ودبابات من طراز “ستالين ” و”ت 54 و55 ” وغواصات ومدافع ميدان ومضادة للطائرات من جميع العيارات الثقيلة والخفيفة ، وزوارق طوربيد وعربات مدرعة ونظام رادارى كامل ، على أن يسدد ثمن هذه الصفقة بالقطن المصرى والأرز وسلع تقليدية مصرية أخرى بفترة سماح لأربعة سنوات ثم يقسط الثمن على عشرين سنة بفائدة2% سنويا .
وحاولت واشنطن إثناء عبد الناصر عن إتمام الصفقة بعد أن وصلتها أخبار نتيجة تسريب غير مقصود من أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة فى حديث له مع مصطفى أمين ، ولكنها فشلت ، فقد أرسلت بمساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط جورج آلن كمبعوث خاص ، وأذاعت وكالات الأنباء أنه جاء يحمل إنذارا لمصر ، وعندها بادر الرئيس عبد الناصر بالبحث عن أى مناسبة عامة يتحدث خلالها مع الجماهير فلم يجد سوى معرض أقامته القوات المسلحة فاختار أن يشارك فى افتتاحه ، وقام خلال حديثه بالإعلان رسميا عن صفقة الأسلحة التشيكية فى 27سبتمبر1955 .
وبالطبع أثار الإعلان عن الصفقة ردود فعل عنيفة لدى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والغرب بصفة عامة .
فقد طلب السفير البريطانى قى القاهرة لقاء عاجلا مع الرئيس عبد الناصر وزعم خلال حديثه أن الصفقة تتعارض مع اتفاقية الجلاء التى تشير فى ديباجتها إلى الصداقة والرغبة فى التعاون ، وان الصفقة تهدد أمن القاعدة البريطانية فى القناة لأن الأسلحة قادمة من بلد شيوعى وسوف تستلزم وجود فنيين وخبراء أجانب ، وقد رد عليه الرئيس عبد الناصر بأنه لا يوجد نص فى اتفاقية الجلاء يمنع مصر من شراء الأسلحة من أى مصدر وأن عدد الفنيين سيكون محدودا وسوف أختار أماكن التدريب فى مناطق بعيدة عن القاعدة ، ثم سأله السفير عن إمكانية إلغاء الصفقة ؟ فأفاده عبد الناصر بأن ذلك قد يؤدى إلى ثورة فى الجيش المصرى .
وفى نيويورك كان وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا يعقدون اجتماعا لم يدرج فى جدول أعماله موضوع صفقة السلاح التشيكية لمصر ، لكنهم أصدروا بيانا مشتركا يقول : ” أن سياسة الدول الثلاثة تهدف إلى تمكين دول الشرق الأوسط من المحافظة على أمنها الداخلى ، والدفاع عن سلامتها ، وتجنب قيام تسابق بينها على التسلح لأن ذلك سيولد مزيدا من التوتر فى المنطقة .
وأعلنت الحكومة البريطانية أن شراء مصر للأسلحة السوفيتية يقلب الأوضاع التى كانت سائدة ، ويجعل التصريح الثلاثى الصادر فى عام 1950 غير ذى موضوع ، وسيدفع إسرائيل للمطالبة بمزيد من الأسلحة .
ووصفت الصحف البريطانية الصفقة بأنها خطوة مشئومة وأن الاتحاد السوفيتى سيحصل على موطئ قدم فى البحر المتوسط .
ووجهت واشنطن احتجاجا إلى الاتحاد السوفيتى ، واتهمته بأنه يتصيد فى الماء العكر .
وعاد جمال عبد الناصر ليؤكد أن الصفقة لن تحول دون تنفيذ مصر لالتزاماتها ، وليست هى السبب فى سباق التسلح ، لكنها ستمنع إسرائيل من مواصلة اعتداءاتها ، ولا تعنى تسربا للنفوذ السوفيتى فى مصر ، وأنها قبل ذلك وبعده تعنى تحرير الإرادة المصرية ، وامتلاك مصر لحقها فى شراء الأسلحة من أى جهة ، وأنها اضطرت لعقد هذه الصفقة بعد تسويف الغرب ، وقيام إسرائيل بغارتها على غزة .
ومن هنا مثلت هذه الصفقة محطة الاختبار الثالثة فى علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بثورة يوليو ، فلم تكن المسألة مجرد صفقة سلاح بين مصر والاتحاد السوفيتى ، بل كانت بمثابة تعديل كلى لمفاهيم السياسة الدولية فلأول مرة يقوم الاتحاد السوفيتى بتسليح دولة غير شيوعية ، ويخرج إلى منطقة حساسة جدا بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية ، هى منطقة الشرق الأوسط مما كان يعنى ضربة شديدة للسياسة الأمريكية الخاطئة تجاه الثورة مما ترتب عليه آثار بعيدة المدى سوف نلحظها فيما بعد فى العلاقات المصرية الأمريكية .
والأهم من ذلك أن رد الفعل العربى على الصفقة كان حماسيا بدرجة كبيرة حتى أن مجلسا النواب فى سوريا قررا تهنئة الرئيس جمال عبد الناصر باعتبار أن الصفقة تمثل كسرا للحصار المفروض على تسليح العرب ، وأخذت الصحف العربية تشيد بهذه الخطوة بل إن نورى السعيد رئيس وزراء العراق بعث مهنئا جمال عبد الناصر فى محاولة للخروج من العزلة العربية التى ضربت حوله بسبب انضمامه لحلف بغداد .
لقد كانت معركة عبد الناصر لإفشال سياسة الأحلاف ، ودعوته لبناء إطار أمنى عربى جماعى بديل لما يطرحه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص ، وترجمت هذه الدعوة فى شكل تحركات عملية لدعم النضال العربى ضد المستعمر فى كل الدول العربية ، وهو ما كانت تخشاه دول الغرب ومعها إسرائيل وتخطط لإيقافه بكل السبل وفى مراحل مبكرة من عمر الثورة .
ففى عام 1953 ، وأثناء عملى بالمخابرات تلقيت تعليمات من البكباشى زكريا محى الدين مدير المخابرات فى ذلك الوقت ، باختراق مبنى الكنيسة الإنجليزية فى القاهرة وكان موقعها مكان فندق هيلتون النيل الآن ، وذلك بعد أن وصلتنا معلومات تؤكد بأن ثمة نشاط يمارس من داخلها لا علاقة له بوظيفة الكنيسة ورسالتها الدينية ، وأن البكباشى جمال عبد الناصر قد طلب تأكيد هذه المعلومات .
وقد كلفت مع النقيب محمد شكرى حافظ من المباحث العامة،* لتنفيذ هذه المهمة وتمكنا بالفعل من الوصول إلى مستندات ووثائق فى خزانة الكنيسة مدونة باللغة الإنجليزية تتضمن رسائل متبادلة مع جهاز المخابرات البريطانى ” M I 6 ” تتناول احتياجات للحصول على معلومات والردود عليها ، كما كان من بين هذه المستندات محاضر اجتماعات عقدها المستر إيفانز المستشار الشرقى بالسفارة البريطانية بالقاهرة وبين بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين والتى كانت تعقد فى منزل أحمد سالم بالمعادى وأوضحت طلب الجانب البريطانى إقناع اللواء محمد نجيب باستخدام الجيش فى تهيئة الرأى العام تمهيدا لإحكام سيطرته على السلطة ، وتحريض الإخوان المسلمين للعمل ضد الثورة ، وكان يشارك فى هذه الاجتماعات كل من المرشد العام حسن الهضيبى وصالح أبو رقيق والدكتور أحمد سالم ** .
غير أن أخطر ما تم العثور عليه فى عملية اختراق الكنيسة البريطانية كانت وثيقة معنونة باسم “روديو” وكانت عبارة عن وثيقة سرية للغاية تشمل خطة عسكرية بريطانية مفصلة لإعادة احتلال مصر وخاصة منطقة الإسكندرية والدلتا إذا ما دعت الضرورة ذلك ، أى أنه فى نفس الوقت الذى كانت تجرى مفاوضات الجلاء بهدف إخلاء منطقة قناة السويس من القوات البريطانية ، وإخلاء مصر كلها من أى مظاهر للنفوذ الأجنبى ، كانت هذه الخطة تعنى ـ من وجهة نظر الإستراتيجية البريطانية ـ استحالة التسليم بالواقع الجديد ، وأن مصر يجب أن تظل دائما هدفا لا يجب إسقاطه من أى تخطيط بريطانى .
وبقدر ما كانت احتمالات الجلاء البريطانى عن مصر مصدر قلق وانزعاج للمخططين والسياسيين فى دول الغرب وخاصة فى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، فقد تسببت فى تولد الشعور بالخطر لدى المسئولين فى إسرائيل باعتبار أن انتهاء الوجود العسكرى البريطانى ـ والذى لعب الدور الأهم والأقوى فى التمهيد لقيام الدولة العبرية ـ سوف يشكل خطرا كبيرا على الوجود الإسرائيلى نفسه قبل أن يسبق الجلاء توفير أرضية ملائمة للتسوية السياسية بين مصر وإسرائيل ، كما كانت الأخيرة تتابع بقلق وترقب الاتصالات المصرية الأمريكية وتعمل على إفسادها ، وكانت أبرز محاولاتها فى هذا الشأن ما عرف بقضية ” لافون ” والتى تتلخص فى دفع بعض عملاء الموساد لتنفيذ سلسلة من عمليات التخريب والتفجيرات ضد عدد من مراكز التواجد الأمريكى فى القاهرة والإسكندرية وتصويرها على أنها عمليات عدائية مدبرة من الحكومة المصرية ضد الولايات المتحدة ، وقد أدى كشف هذا التدبير إلى تحويلها إلى فضيحة سارع عدد من المسئولين وفى مقدمتهم دافيد بن جوريون للتخلص منها ونفى علمهم بها .
ففى صيف 1954 وفى شهر يونيو على وجه التحديد أصدرت المخابرات العسكرية الإسرائيلية أوامرها لشبكة من جواسيسها فى مصر للقيام بأعمال تخريبية ضد أهداف مدنية مصرية وأمريكية وبريطانية . وبدأ فعلا تنفيذ هذه التعليمات اعتبارا من الثانى من يوليو 1954 وكانت أول عملية هى تنفيذ انفجار قنبلة حارقة فى أحد مكاتب البريد بالإسكندرية وفى الرابع عشر من يوليو 1954 شب حريقان فى مكتبين للاستعلامات الأمريكية فى كل من القاهرة والإسكندرية بقنابل فسفورية تركهما مجهولين . وبعد حوالى عشرة أيام جرت محاولة لحرق مكتب البريد الرئيسى فى ميدان العتبة بالقاهرة ، وفى نفس اليوم كان من المقرر إجراء تفجير لسينما “ريو ” بالإسكندرية لكن العملية فشلت وانكشف المخطط الإسرائيلى . وكانت تفاصيل الحدث أنه فى الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم احترقت نتيجة لشدة حرارة الجو قنبلة فسفورية صغيرة وضعها أحد الشباب اليهود اسمه ” فيليب ناتاسون ” فى جيبه داخل شنطة صغيرة من الجلد كان يستخدمها لحماية نظارته الشمسية ، ولم يتمالك نفسه فصرخ واستغاث بالمارة فى الشارع الذين نقلوا للمستشفى بمعرفة البوليس وهناك اتضحت الأمور والحقائق وكانت المفاجأة التى لم تكن تخطر على بال أحد وبتفتيش منزل ناتاسون عثر على قنابل فسفورية حارقة من نفس النوع وقبل أن يعترف ناتاسون بكل ما عنده اشتعلت النيران فى محطة سكك حديد مصر بالقاهرة وفى دارين للسينما وكان ذلك فى يوم 23يوليو . وباعتراف ناتاسون تم القبض على اثنين من المشاركين معه وهما روبير داسا وفيكتور ليفى، وبعد ذلك بأيام تم اعتقال باقى أفراد الشبكة بالكامل ومنهم موسى مرزوق وكان طبيبا من أصل تونسى يعمل فى المستشفى اليهودى بالإسكندرية ، وصمويل عازار الذى كان يعمل أستاذا بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية ، وماكس بينيت من أصل مجرى ، ومارسيل نينو وكانت تعمل فى إحدى الشركات البريطانية فى مصر ، ونجح كل من أبراهام دار ، رئيس الشبكة ، فى الهرب إلى خارج البلاد ومعه يورهام سيد نبرج، الذى كان معروفا فى مصر باسم ” بول فرانك “، والمعروف فى إسرائيل الآن باسم ” آفرى إيلعاد ” ، وذلك قبل القبض على الشبكة .
ومن خلال التحقيقات اتضح أن أفراد الشبكة سبق أن دربوا فى إسرائيل ثم تجمعوا فى باريس ليدخلوا منها إلى مصر بجوازات سفر مزورة وبأسماء مستعارة .
وتمت محاكمة أفراد الشبكة فى ديسمبر 1954 بعد الإعلان عنها خلال شهر أكتوبر من نفس السنة وفى 5 أكتوبر على وجه التحديد . تمت المحاكمة أمام محكمة عسكرية كانت جلساتها علنية وحضرها الدبلوماسيون والمراسلون الأجانب فى مصر وأفراد الجالية اليهودية كما حضرها مندوبون عن منظمة حقوق الإنسان ومنظمات الحريات المدنية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .
وفى أثناء المحاكمة نجح ماكس بينيت فى الانتحار، وفى أوائل سنة1955 صدرت الأحكام بإعدام موسى ليتو مرزوق وصمويل عازار ، اللذين تم فعلا تنفيذ الحكم فيهما ، كما حكم كذلك بالإعدام على الهاربين وحكم على الآخرين بأحكام بالسجن لمدد متفاوتة .
على أن ذلك لم يؤثر على استمرار المخاوف الإسرائيلية ، فقد حرص مسئولوها على تنويع مصادر دعمهم من دول الغرب والبحث باستمرار عن احتياطى إستراتيجى يمكن الاستعانة به وقت اللزوم ، وكان الطرف الجاهز لتوفير هذا الاحتياطى الإستراتيجى هو فرنسا التى وجدوا فيها ضالتهم والتقت جهودهم مع موقف فرنسى يتزايد عداءه لثورة يوليو تدريجيا .
فقد كانت مصر تحتضن الزعيم التونسى الحبيب بورقيبة لاجئا سياسيا، ومناضلا ضد الاستعمار الفرنسى لبلاده ، كما عارضت بقوة التغيير الذى دبرته فرنسا فى المغرب وأطاح بالملك محمد الخامس ، وعينت بدلا منه أحد عملائها ويدعى محمد بن عرفة ، وكانت الخطوة الأكبر عندما وصل إلى مصر فى عام 1953 رجل جزائرى أسمى نفسه ” مزيادى مسعود ” ولم يكن هذا الاسم إلا اسما حركيا للزعيم الجزائرى أحمد بن بلة ، الذى التقى فتحى الديب فى البداية وقدمه للبكباشى زكريا محى الدين الذى اصطحبه بدوره مع فتحى الديب لمقابلة البكباشى جمال عبد الناصر فى منشية البكرى ، ومنذ اللحظة الأولى التقت آراء وأفكار الزعيمين أحمد بن بلة وجمال عبد الناصر وارتكزت عند نقطة واحدة هى إيمان ثورة يوليو بمبدأ أساسى هو تحرير الوطن العربى من كل أشكال الاستعمار ، وفى مقدمتها حركة النضال التى يقودها الشعب الجزائرى ضد المستعمر الفرنسى الذى يعمل على شن حرب إبادة وإلغاء للهوية العربية فى الجزائر ويعتبرها جزءا لا يتجزأ من الأراضى الفرنسية ، وقد صدر البيان الأول للثورة الجزائرية فى أول نوفمبر 1954 من إذاعة صوت العرب من القاهرة ، وإحقاقا للحق فقد لعب أحمد سعيد مدير صوت العرب دورا هاما فى هذا الصدد سواء على الصعيد الشخصى أو الصعيد الموضوعى .
لقد التقت المخاوف الإسرائيلية مع الاستياء الفرنسى تجاه ثورة يوليو ، وبينما اتجهت فرنسا لإشراك الولايات المتحدة فى مسئولية المواجهة بصفتها زعيمة التحالف الغربى بعد أن أصبحت واشنطن تملك 16% من أسهم شركة قناة السويس بعد الحرب العالمية الثانية ، واعتبر الفرنسيون أن قناة السويس تمثل المدخل الملائم لجذب اهتمام الأمريكان وإقناعهم بأن الطريق إلى فيتنام يمر بقناة السويس ، وإذا ما نجحت فى لفت أنظار واشنطن لقناة السويس والبحر الأحمر وصولا إلى المستعمرات الفرنسية فى آسيا فسوف يكون من السهل تحييدها من الصراع المتصاعد فى شمال إفريقيا والمغرب العربى .
أقول فى الوقت الذى كانت تتواصل فيه هذه التحركات الفرنسية مع واشنطن ، كانت الإستراتيجية الإسرائيلية تعمل على جر فرنسا للدخول فى الصراع فى منطقة الشرق العربى ، وإدخالها كأحد الأطراف الرئيسية الداعمة لإسرائيل انطلاقا من وحدة الهدف 0 وبالفعل بدأت حوارات شارك فيها أبا إيبان سفير إسرائيل فى واشنطن فى ذلك الوقت ، وانتهت إلى قرار إسرائيلى بجس نبض فرنسا من خلال مهمة يقوم بها شيمون (شمعون ) بيريز سكرتير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية 0 وفى الوقت الذى سافر فيه بيريز إلى باريس كانت فرنسا قد أوفدت وزير خارجيتها كريستيان بينو لزيارة مصر للتباحث مع عبد الناصر حول مستقبل شركة قناة السويس عند حلول عام1968 ، موعد انتهاء الامتياز الممنوح للشركة .
التقى شيمون بيريز مع الجنرال كاترو الذى كان حاكما عسكريا فى سوريا قبل أن تنال استقلالها ، كما التقى بزعماء الحزب الاشتراكى الفرنسى وعدد من القيادات السياسية والعسكرية فى فرنسا ، وأسفرت مهمته عن توقيع صفقة سرية لتوريد أسلحة فرنسية لإسرائيل شملت عشرين دبابة من طراز “AMX” وستين دبابة من طراز شيرمان وأربع وعشرين طائرة من طراز ميستير4 ، وكمية من المدافع والمعدات الحربية الأخرى .
خلال هذه الفترة كانت السفارة المصرية فى باريس تضم مجموعة عناصر نشطة وعلى وعى كامل بالتطورات السياسية فى المنطقة ، وتؤمن إيمانا عميقا بأهداف ثورة يوليو ، وكان من بينهم عبد المنعم النجار وثروت عكاشة وعيسى سراج الدين ( وهم من الضباط الأحرار) ، وقد نجح الثلاثة بالتعاون مع باقى طاقم السفارة من أعضاء السلك الدبلوماسى بعد مجهود ضخم وتنسيق دقيق من اختراق الأجهزة الفرنسية من خلال الصداقات الشخصية خاصة مع عناصر وزارة الخارجية الفرنسية ( الكى دورسيه ) وقصر الإليزيه ووزارة الدفاع ، وأمكن بواسطة ذلك الحصول على معلومات تفصيلية عن صفقة الأسلحة الفرنسية لإسرائيل وتوقيتات وصولها إلى تل أبيب .
( كل التقارير والوثائق والمعلومات التى حصلوا عليها محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ) .
وبعد أن اطمأنت إسرائيل إلى التأييد الفرنسى راحت تعمل فى أكثر من اتجاه مستخدمة كل مؤسساتها السياسية والاقتصادية وأجهزتها المخابراتية فى سبيل الحصول على اعتراف بوجودها من جانب ، وضمان السيادة الغربية المتحيزة لها من جانب آخر ، وفى هذه الأثناء أظهرت إسرائيل انزعاجا بالغا من توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا ، وقد صرح موشى شاريت رئيس الوزراء الإسرائيلى أمام الكنيسيت فى 30أغسطس 1954 بقوله : ” إن نقل منطقة القناة بما فيها المطارات إلى السلطة العسكرية المصرية يزيد من قوتها وقدرتها على العدوان على إسرائيل . . . ” .
وحاولت إسرائيل عرقلة مفاوضات الجلاء بالقيام بعمليات تخريبية ضد المصالح البريطانية والأمريكية فى مصر كما سبق أن أوضحت ، وبعد توقيع اتفاقية الجلاء فى 19أكتوبر1954 ركزت إسرائيل على إثارة مسألة السماح للسفن الإسرائيلية بالمرور فى قناة السويس ، وضمان حرية الملاحة فى خليج العقبة ، وعمدت إلى إرسال سفينة تحمل العلم الإسرائيلى لمحاولة المرور فى قناة السويس من ناحية بور سعيد وكان ذلك فى 28 ديسمبر1954 ، ولكن مصر التى ما زالت تعتبر نفسها فى حالة حرب مع إسرائيل تصدت للسفينة واعتقلت قبطانها وطاقمها بتهمة قتل اثنين من الصيادين أثناء اقترابهم من بور سعيد ، وقدمت شكوى إلى لجنة الهدنة بينما قدمت إسرائيل شكوى لمجلس الأمن . ورغم فشل المناورة الإسرائيلية إلا أنها وضعت قضية التسوية بين العرب وإسرائيل على رأس جدول أعمال الدول الغربية فى ضوء التغيير فى موازين القوى بعد توقيع اتفاقية الجلاء ، فبدأ تنسيق أمريكى بريطانى مكثف لتحقيق تسوية عربية / إسرائيلية فى إطار مجموعة عمل أطلق عليها اسم ” ألفا ” ” ALPHA ” وتشكل بالفعل فريق عمل أمريكى بريطانى لوضع الإطار العام للتسوية المقترحة ، وكانت نقطةالإتفاق التى بدأ بها البحث هى اعتبار أن مصر تملك وحدها مفتاح التسوية، وهذا يستلزم ضرورة التفاهم مع الرئيس جمال عبد الناصر ، والبدء بجس نبضه قبل إثارة أية مشروعات للتسوية ، وقد كان تقديرهم أن أية دولة عربية لن تشارك فى التسوية إلا إذا قبلتها مصر، ومن ثم فمن الضرورى تقديم الإغراءات الممكنة لعبد الناصر بإظهار الاستعداد لمساندة خطط التنمية الاقتصادية فى مصر وتمويل مشروع السد العالى .
ورؤى أن يقوم أنطونى إيدن وزير خارجية بريطانيا فى ذلك الوقت ، بزيارة القاهرة والالتقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر أثناء عودته من بانجكوك عاصمة تايلاند ، وقد وصل إيدن فى 20فبراير1955 وتناول العديد من المسائل فى لقائه مع عبد الناصر ووسط هذه المناقشات سأل إيدن الرئيس جمال عبد الناصر عما إذا كان يرى أية إمكانية للتقدم نحو تسوية النزاع العربى الإسرائيلى وأنه ـ أى إيدن ـ يرى أن مصر هى الدولة الوحيدة القادرة على المبادرة بالسعى نحو حل النزاع ، وأجابه عبد الناصر بأنه لا يرى أية إمكانية لتحقيق تسوية جزئية . وأبدى إيدن موافقته على ذلك ، وأكد أن بلاده سوف تدعم أية فرصة للتسوية قد تراها مصر ملائمة ، ولم يزد على ذلك كما لم يتطرق إلى المساعدة الاقتصادية لمصر .
كان التوقيت غير ملائم بالمرة فبعد لقاء الرئيس جمال عبد الناصر وإيدن بأربعة
أيام وقع رسميا حلف بغداد ، وبعدها بأربعة أيام أخرى وقعت الغارة الإسرائيلية على قطاع غزة ، وحاولت بريطانيا امتصاص غضب مصر واستئناف جهود التسوية ، فبعثت إلى سفيرها فى القاهرة السير رالف ستيفنسون تطلب إليه التعاون مع السفير الأمريكى هنرى بايرود للتوصل إلى رأى مشترك بشأن إمكانية التقرب إلى عبد الناصر .
التقى السفير البريطانى بالرئيس الذى أبلغه أن النزاع مع إسرائيل هو السبب الرئيسى للوضع المضطرب فى منطقة الشرق الأوسط إلا أنه لا يتوقع إمكانية تحقيق خطوات معينة فى هذا النزاع فى المدى القريب ، وإن كان يرى أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ بعودة اللاجئين الفلسطينيين ، والتنازل عن جنوب صحراء النقب لإيجاد اتصال جغرافى مباشر بين مصر والأردن ، وأضاف فى نهاية المقابلة أنه يشعر بالحيرة تجاه الأهداف الحقيقية لبريطانيا .
لقد ترك جمال عبد الناصر الباب مفتوحا مع إظهار تشككه وعدم ثقته فى نوايا الغرب ، لكنه فى الوقت نفسه كان قد نجح فى استبعاد مشاركة إسرائيل فى مؤتمر باندونج ، ونجح أيضا فى إدراج قضية الصراع العربى الإسرائيلى على جدول أعمال المؤتمر نفسه ، وتواصل نشاط الفدائيين داخل إسرائيل نفسها بعد عدوان 28فبراير1955 على قطاع غزة ، وأدى ذلك بدوره إلى تكرار اعتداءات إسرائيل على القطاع واشتعل التوتر على خطوط الهدنة .
كذلك واصلت مصر موقفها المتشدد تجاه مسألة المرور فى قناة السويس وخليج العقبة ، ففى العاشر من إبريل 1955 منعت السلطات المصرية السفينة البريطانية ” أرجوبيك ” من المرور فى خليج العقبة متوجهة إلى إسرائيل وأدرجت سفينتان بريطانيتان أخريتان على القائمة السوداء بسبب ترددهما على ميناء حيفا ، وفى الثالث من مايو أطلقت بطاريات خفر السواحل المصرية النيران على السفينة البريطانية ” أنشون ” أثناء مرورها فى خليج العقبة لأن قبطانها رفض الاستجابة للأوامر المصرية بضرورة التوقف .
وتوترت العلاقات البريطانية المصرية واغتنمت إسرائيل الفرصة ونددت بالتصرفات المصرية وواصلت اعتدائها على الحدود المصرية ، وفى نهاية أغسطس شنت هجوما كبيرا على قطاع غزة، وفى الشهر التالى احتلت منطقة العوجة المنزوعة السلاح ، والتى تتحكم فى عدة طرق داخل الأراضى المصرية .
وعندما أعلنت مصر عن صفقة الأسلحة التشيكية فى 27سبتمبر1955 صعّدت لندن حملتها وثارت ثائرة إسرائيل، وراحت تلح فى طلب أسلحة من الغرب وشنت هجوما جديدا ضد سيناء ، وأصبح الموقف مهددا بالانفجار فى أية لحظة ، وطلب وزير الدولة البريطانى للشئون الخارجية ” أنتونى ناتينج ” لقاء السفير المصرى فى لندن وطلب منه أن تبذل مصر أقصى ما يمكنها للامتناع عن الاشتباك مع إسرائيل على الحدود .
عاد بن جوريون إلى منصب رئيس الوزراء فى إسرائيل، وأعلن استعداده للاجتماع مع الرئيس جمال عبد الناصر لوضع تسوية مشتركة ، وهدد باستخدام القوة لفتح الممر الملاحى فى خليج العقبة ، وفى نفس الوقت امتدت الاعتداءات الإسرائيلية إلى الحدود السورية ، فأبلغ عبد الناصر السكرتير العام للأمم المتحدة فى منتصف ديسمبر1955 أن مصر وسوريا ستتخذان ما تريانه مناسبا إذا ما أقدمت إسرائيل على تنفيذ أى عدوان ضد أى منهما ، تنفيذا لاتفاقية الدفاع المشترك .
وفى النصف الثانى من يناير1956 ، جاء إلى مصر روبرت اندرسون ( بوب ) مبعوثا من الرئيس الأمريكى أيزنهاور وصديقه الشخصى ( وكان يشغل منصب وزير الخزانة ومن قبلها نائبا لوزير الدفاع ) ، وكان يعمل كقناة اتصال غير رسمية مع مصر لترتيب أوضاع ما بعد إتمام الجلاء البريطانى عن قناة السويس، والتقى مع عبد الناصر الذى كرر موقفه من التسوية وتركيزه على قضية الأرض و اللاجئين ، وأشار إلى أن تحقيق تسوية سريعة أمر يبدو مستحيلا . وأثار المبعوث الأمريكى من جانبه فكرة عقد لقاء سرى ومباشر بين عبد الناصر وبن جوريون ، ولكن عبد الناصر رفض الاقتراح بحسم وبلا مناقشة .
وقد تكررت محاولات ترتيب لقاء مباشر بين جمال عبد الناصر وبن جوريون من جانب كل من وزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس وشقيقه آلان دالاس رئيس المخابرات المركزية الأمريكية “CIA ” ، ولم يتغير موقف الرئيس الرافض للفكرة بإصرار وبلا تردد .
وجاءت زيارة سلوين لويد وزير الخارجية البريطانى فى مارس1955 لمواصلة جهود استمالة عبد الناصر وأثار مجددا قضية النزاع العربى الإسرائيلى لكن عبد الناصر لم يبد اكتراثا وخرج الوزير البريطانى من المقابلة بانطباع متشائم .
وواصل الرئيس نقده للسياسات الإسرائيلية، وفى إبريل 1956 شنت إسرائيل هجوما جديدا على غزة بزعم ضرب قواعد الفدائيين ، واستمر التوتر على الحدود ، وتدفقت الأسلحة البريطانية والفرنسية على إسرائيل ، وفى مايو 1956 قام الرئيس بزيارة قطاع غزة، وألقى خطابا فى رجال القوات المسلحة هناك يحمل فيه الغرب مسئولية الاعتداءات الإسرائيلية بسبب تزويدها بالسلاح، وتعالت الأصوات فى بريطانيا تطالب باتخاذ موقف متشدد من مصر وعبد الناصر .
هكذا كانت الأرضية مهيأة تماما خلال عام 1956 لصدام كبير وعلنى بين مصر من جانب وكل من إسرائيل والقوى الاستعمارية الغربية من جانب آخر .
وقد يكون من المناسب هنا أن أتعرض بشىء من التفصيل لما تعرضت له ثورة 23يوليو1952 من مؤامرات ومحاولات مستميتة لضربها وإجهاض الدور الذى كان يقوده جمال عبد الناصر من أجل التحرر والإستقلال فى هذه المنطقة الحيوية من العالم .
فى العالم السرى للمخابرات البريطانية ، كان هناك فرع يطلق عليه ” إدارة العمليات الخاصة ” مهمتها القيام بالقتل والاغتيال وتتمتع بمهارة خاصة فى تصوير الاغتيال على أنه حادث أو صدفة .
وحين طرد الجنرال جلوب من قيادة الجيش الأردنى فى أول مارس1955 أصيب رئيس الوزراء البريطانى أنطونى إيدن بحالة من الجنون ، وحمّل عبد الناصر مسئولية هذا العمل ، وكان رده عنيفا وأعلن حربا شخصية ضد عبد الناصر وقال : ” إما هو أو نحن ” ، وقد عارض تفكير أنتونى ناتينج فى كيفية حل الصراع العربى الإسرائيلى حيث كان يميل ناتينج إلى حل المشكلة فى إطار الأمم المتحدة وهو ما يفيد بريطانيا أيضا إلا أن إيدن رفض قائلا له ” ألا تفهم ! إنى أريد تدميره ! أريد قتله ! ولا أريد بديلا .. وقد حاول وكيل الخارجية البريطانية ” إيفون كيركباتريك” بعد ذلك بأيام نفس المحاولة إلا أن إيدن قال له : ” لا أريد بديلا ” فرد عليه وكيل الخارجية قائلا : لا أعتقد أن هناك فرعا فى الوزارة لهذا النوع من العمليات ، وإذا كان لدينا مثل هذا الفرع فإنه ليس تحت إدارتى بالتأكيد .” .
يقول جوردو بروك ، وهو أحد ضباط المخابرات البريطانية : ” إن القيام باغتيال ناصر لم يكن أبدا عملية سهلة وإن بعض المسئولين فى المخابرات كانوا لا يؤيدونها لأن المخابرات فى تلك الأيام وبعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تعيش فى عصر ” جيمس بوند ” . ولكن إيدن تجاوز وزارة الخارجية وتجاهل سلوين لويد وزير خارجيته الذى يقال أنه تخلص من ملف خاص بعملية قتل ناصر كان فى مكتبه وذهب مباشرة إلى المخابرات واتصل بأحد كبار المسئولين فيها وهو ” باتريك دين ” الذى كان يتفق مع رأى إيدن فى ضرورة إزاحة ناصر من المسرح السياسى بأية وسيلة ممكنة ـ ويقول الكاتب أنه يبدو أن إيدن وباتريك دين لم يحولا الحصول على موافقة مدير المخابرات البريطانية ” جون سينكلير ” الذى كان ينظر إليه على أنه شخصية ضعيفة واعتمد على ” جورج يونج ” الذى كان يتمتع بشهرة واسعة بعد اشتراكه فى الانقلاب الذى أطاح بحكومة محمد مصدق فى إيران سنة1953 .
فى 15 مارس1956 بعث إيدن برسالة سرية للغاية إلى أيزنهاور يحذره فيها من خطط ناصر للسيطرة على العالم العربى كما أن المخابرات البريطانية ألحقت ذلك بمعلومات أن ناصر قرر محاربة إسرائيل وأنه اختار شهر يونيو لبدء الهجوم . وعلى أساس معلومات المخابرات البريطانية التى لم تكن موثقة ومشكوك فى صحتها قرر مجلس الوزراء البريطانى فى 21مارس1956 الموافقة على اقتراح وزير الخارجية بالعمل لإقامة حكومة صديقة للغرب فى سوريا وبعد ذلك بثلاثة أيام وفى واشنطن درست لجنة خاصة من وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية ممثلة برئيسها آلن دالاس وجيمس إنجلتون وكيرميت روزفلت قدرة ناصر على حشد التأييد العربى لحربه ضد إسرائيل وتأثير ذلك عل إمدادات البترول العربى ، واحتمالات الشيوعية . وفى 28مارس اتفق على تشكيل لحنة أمريكية بريطانية مشتركة تحت اسم ” أوميجا ” كان هدفها الأول تحذير عبد الناصر من نتائج تعاونه مع الاتحاد السوفيتى . ويقول ” كيث كامبل ” ضابط المخابرات أنه بحث أيضا تنفيذ عمليات سرية ضد ناصر وتقرر اتخاذ إجراءات عنيفة وتم الاتفاق على مؤامرة أنجلو أمريكية لزعزعة ناصر تشمل احتمالات قيام بانقلاب عسكرى فى سوريا إذا استمرت دمشق فى تأييد ناصر وأطلق على هذه العملية اسم كودى ” ستراجل ” Struggle ” .
فى 31مارس1956 التقى جورج يونج عددا من رجال المخابرات المركزية الأمريكية من بينهم جيمس آيكل بيرجر ـ مدير مكتبها فى القاهرة ـ وتتابعت الاجتماعات ، وكان رأى المخابرات البريطانية أنه يجب البدء بعمليات شاملة ضد ناصر وأنه يجب اعتبار مصر أداة فى يد الاتحاد السوفيتى ودعوا الأمريكان للتخلى عن الوقوف على السياج وأنهم إذا لم يتحركوا على الفور فذلك يدل على ضحالة المعلومات الأمريكية والتى وصفتها ب ” الزبالة ” وكانت وجهة نظر الإنجليز أن سوريا هى مفتاح المنطقة وأن مصير الأردن ولبنان يتوقف على ما يجرى فى سوريا .
فى أول إبريل بعث مندوبو المخابرات المركزية الأمريكية بتقرير إلى واشنطن يوجزون فيه الموقف البريطانى والذى يلخصه كلام أحد ضباطهم : ” مستعدة لخوض معركتها الأخيرة ، ومهما تكن التكاليف فسوف ننتصر ” ، وفى الوقت نفسه لم تكشف لندن للأمريكان عن عملياتهم السرية المزمع القيام بها ولو أنها أوضحت أن هدفها الرئيسى هو إقامة حكومة سورية صديقة للهاشميين فى العراق واستنتج الأمريكيون أن بريطانيا قد تحدثت مع تركيا والعراق بشأن خططها . ومما جاء فى التقرير المخابرات الأمريكية : ” نعتقد أن الحكومة البريطانية تدرس استخدام الخطط التالية أو بعضها : الصرف من الأموال العراقية لتأييد الأحزاب الصديقة للعراق فى سوريا ، التأييد النشط لشق حزب البعث ، إثارة القلاقل القبلية فى منطقة الجزيرة والاضطرابات الحدودية مع تركيا وإسرائيل مما يستدعى المساعدة العراقية لإعادة الاستقرار إلى سوريا والاستعانة بالأحزاب الصديقة للتسلل من لبنان . ولكن ضابط المخابرات الأمريكية ” ويلبور كرين إيفلاند ” ـ وهو بالمناسبة مؤلف كتاب ” حبال من الرمال ” ” Ropes Of Sand ” ـ ، الذى كتب التقرير سخر من هذه الخطط البريطانية وإستبعد قدرة العراق على تنفيذها . وأضاف إيفلاند فى تقريره أن المخابرات البريطانية تتوقع أن تقوم إسرائيل بعمليات خاصة ضد مصر وتدمير أسلحتها الجديدة التى استوردتها من الاتحاد السوفيتى وأن تشن هجوما ضد غزة ، ولكن الذى لم يعرفه إيفلاند حينذاك أن بن جوريون كان قد اقترح بالفعل على إيدن القيام بعملية مشتركة ضد ناصر مما مهد للتواطوء الذى تم بعد ذلك فى الهجوم على مصر سنة 1956 .
وشهدت هذه الفترة عودة التعاون الوثيق بين المخابرات البريطانية والمخابرات الإسرائيلية وشغلت امرأة رئاسة مكتب المخابرات البريطانية فى تل أبيب . بعد ذلك بدأت الحكومة البريطانية فى إعداد الرأى العام البريطانى والدولى وتهيئته لتنفيذ مؤامرتها ضد مصر وسوريا فقامت المخابرات البريطانية بتسريب أخبار عن تدفق الأسلحة السوفيتية والتشيكية إلى سوريا ، ونقل بعضها مراسل جريدة ” الديلى تلغراف ” فى بيروت الذى كان عميلا سريا للمخابرات البريطانية وقد قامت المخابرات الأمريكية بالتحقق من هذه المعلومات فوجدتها زائفة .
وبعث إيدن فى 15مايو برسالة إلى أيزنهاور تتضمن معلومات المخابرات البريطانية بأن جمال عبد الناصر يخطط لقلب أنظمة الحكم فى العالم العربى خاصة صديقة الغرب . وبدأت المؤامرة ضد سوريا . ففى يونيو بدأ السفير البريطانى فى دمشق ” جون جاردنر ” بدعم الفئات الصديقة للعراق بتقديم الأموال للضباط المناوئين لليسار حتى يتمكنوا من التعاون مع السياسيين ميخائيل إليان وجلال السيد وكذلك مساعدة بعض الفئات القبلية على الحدود السورية العراقية .
كذلك عمل السفير البريطانى على ضمان تأييد الإخوان المسلمين ، وهى الحركة التى قام بتأسيسها قبل الحرب العالمية الثانية الكاتب والرحالة ورجل المخابرات البريطانية ” د. فريا ستارك ” ودعم نشاطها فى مدينة الإسماعيلية من سنة 1928 شركة قناة السويس العالمية عندما بدأ حسن البنا أول نشاط لها فى مصر .
ولكن ميخائيل إليان وبقية المتآمرين اضطروا للفرار من سوريا حين ارتد عليهم رد الفعل الوطنى فى سوريا . بعد ذلك قابل رئيس الأركان العراقى اللواء غازى الداغستانى فى جنيف أديب الشيشكلى ـ الذى سبق أن سقط حكمه سنة1954 ـ كذلك اجتمع الشيشكلى بعدد من ضباط المخابرات البريطانية فى بيروت الذين كانوا يعدون جماعات ضاربة لاغتيال الضباط اليساريين ـ يعنى الوطنيين ـ .
فى منتصف يوليو1956 سحب العرض الغربى بتقديم قرض لبناء سد أسوان ( السد العالى ) ، وكان رد عبد الناصر التفكير بتأميم شركة قناة السويس واحتياطيا بعث بمجموعة من ضباط المخابرات إلى مالطا وقبرص ـ وكانت العلاقات بين عبد الناصر والأسقف مكاريوس وطيدة جدا وكانت مصر تؤيد نشاط منظمة أيوكا باعتبارها إحدى حركات التحرير ، كما كانت العلاقات جيدة مع دوم منتوف رئيس وزراء مالطة ـ وذلك لتقييم احتمالات الرد العسكرى البريطانى ولمعرفة تفاصيل حجم ووضع القوات البريطانية فى المنطقة .
فى 26يوليو 1956 أعلن عبد الناصر فى خطاب جماهيرى ، وصف فى لندن بأنه ” هستيرى ” ، تأميم شركة القناة ومن وجهة النظر القانونية لم يكن ما قام به أكثر من شراء أسهم الشركة . فى تلك الليلة لم يخفى إيدن مرارته من هذا القرار وهو يستقبل زائريه الملك فيصل ملك العراق ورئيس وزرائه نورى السعيد وكانت نصيحته لإيدن : ” لم يبق أمامك سوى طريق واحد هو أن تضرب وأن تضرب بعنف الآن ، وإلا فسيكون كل شىء متأخرا . ” وما أن غادر ضيوفه حتى عقد إيدن مجلسا للحرب ( مجلسا عسكريا ) استمر حتى الساعة الرابعة صباحا ، ومما قاله إيدن فى تلك الليلة : ” لن أسمح لناصر أن يضع يده على ” زورنا ” (قصبة تنفسنا) لابد من تدمير موسولينى المسلم .. أريد إزاحته ولا اكتراث على الإطلاق إذا سادت مصر الفوضى والدمار ” . وشكل إيدن على الفور ما سمى ” بلجنة مصر ” للإشراف على الرد وإدارة الأزمة خاصة إذا تقرر أن تنتهج بريطانيا وحدها سياسة مستقلة دون مشاركة أمريكية أو بقية الحلفاء الغربيين برئاسة سكرتير مجلس الوزراء ” نورمان بروك ” وعضوية بعض الوزراء وكبار الموظفين وكان الهدف الرسمى لهذه اللجنة هو أن يؤدى استخدام الدبلوماسية الحاسمة وعرض القوة العسكرية معا لإسقاط ناصر ، اختير عدد من العسكريين لوضع مشروع خطة أطلق عليها ” موسكتيرز Musketeers ” حصر تداولها بين عدد قليل من كبار المسئولين ـ وللأعين فقط ـ ولم تبلغ واشنطن حليفة بريطانيا الأقرب ، ونسقت مع المخابرات الفرنسية بسرية تامة لتحقيق الخطة . وفى الوقت نفسه شكلت لجنة أخرى ” لجنة دووس ـ باركر ” الاستشارية من الخارجية البريطانية لاستخدام الوسائل غير العسكرية فى الدعاية والإعلام ومواجهة الإعلام المصرى . وتبنت اللجنة خطة ” للدعاية السوداء ” واختراق وسائل الإعلام الإقليمية بهدف تقليل نقد السياسة البريطانية فى المنطقة حتى أنه طلب من هيئة الإذاعة البريطانية المعروفة باستقلالها ولو نظريا على الأقل بتبنى سياسة إعلامية أشد عدوانية ، وأطلقت هذه اللجنة وغيرها من فروع المخابرات البريطانية حملة من الدس والوقيعة وبث المعلومات الخطأ بواسطة الجرائد ووكالة الأنباء العربية ـ وهى وكالة أنباء كانت مدعومة من المخابرات البريطانية ـ ومختلف وسائلها فى كل الشرق الأوسط . بل عمدت هذه الحملة إلى طباعة منشورات مزورة باسم هيئة الاستعلامات المصرية تدعو فيها إلى السيطرة على الأقطار العربية وعلى صناعة النفط بواسطة مصر ، ومن اختراعات الدعاية البريطانية التى استخدمت فى هذه الحملة فضح وجود معسكرات اعتقال مصرية يشرف عليها النازيون السابقون .
وأفتتح فى عدن ما سمى ” صوت مصر الحرة ” بدأت تبث برامجها فى 28يوليو1956 ـ واعتقدت السلطات فى مصر حينذاك أن هذه الإذاعة تعمل فى فرنسا وهو ما سارعت إلى تأييده المخابرات البريطانية للتعمية والتمويه ، إلا أنه أتضح بعد ذلك أن الذين كانوا يديرون هذه المحطة هم آل أبو الفتح . الذين كانوا يتعاونون مع جميع الأجهزة الغربية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والسعودية كذلك على حد سواء .
وتتابعت خطوات المخابرات البريطانية فى حملتها ضد جمال عبد الناصر وهدفها الأول هو التآمر على اغتياله ويتساءل البعض إذا كان أنطونى إيدن قد أصدر أمر مكتوبا للمخابرات باغتيال عبد الناصر أو أنه اكتفى بتعليمات وأوامر شفوية .
ولكن بعض ضباط المخابرات البريطانية كانوا يشكون فى جدوى هذه السياسة وينتقدونها ويعتقدون أنها لن تنتهى بأى نتيجة ، وفى أول يوم حضر فيه إلى ” برودواى ” ( إسم أحد مكاتب المخابرات )” ديك وايت ” مدير المخابرات الجديد حذره ضابط المخابرات ” جاك أسيتون ” مما يجرى فى الشرق الأوسط من عمليات يجب أن تتوقف و “أن أكثرها ليس سليما أو أمنيا ” .
ولكن الذى حدث هو انه استبعد كل الذين لا يؤيدون رئيس الوزراء والمخابرات فى سياستهم العدائية والدموية ضد عبد الناصر ، وحدث ما هو أكثر من ذلك .
فقد تطورت العلاقة البريطانية مع الموساد وإسرائيل إلى درجة التواطؤ ، وأرسل ” نيكولاس إليوت” مندوبا للمخابرات البريطانية إلى تل أبيب لإقامة نظام اتصال مأمون ، وأقيم خط مباشر للإتصال بين إيدن وبن جوريون والمخابرات العسكرية الإسرائيلية وجرى استخدام نظام اتصال سرى للغاية يتجاوز وزارة الخارجية للإتصال مع الفرنسيين أيضا .
عرفت المخابرات المركزية الأمريكية أن بريطانيا تخفى شيئا ، و” تتقوقع داخل صدفة ” ، وأن ضباطها لا يريدون إشراك زملائهم الأمريكيين فى المعلومات .
فى هذه الأيام الخطيرة اجتمع النائب البريطانى المحافظ ” روبرت بوتين ” برئيس الوزراء البريطانى وسمع منه خططه وسياساته نحو مصر وعبد الناصر ، وبعد هذه المقابلة قام النائب المحافظ بزيارة وكيل وزارة الخارجية البريطانية ” إيفون كيركباتريك ” وقال له : ” أعتقد أن رئيس وزرائنا مجنون ! ” فرد عليه كيركباتريك ” كنت أستطيع أن أؤكد ذلك منذ أسابيع ! ” .
ولم تتوقف المحاولات البريطانية عن استعداء أمريكا ضد عبد الناصر ، واعتباره خطرا يجب استئصاله.
قام ” جورج يونج ” بثلاث زيارات لواشنطن لإقناع الأخوين دالاس ـ أحدهما ” جون ” وزير الخارجية ، والثانى ” آلن ” مدير المخابرات ـ بأن عبد الناصر هو الذى يفتح أبواب الشرق الأوسط أمام الاتحاد السوفيتى . وفى أحد الاجتماعات قام ” يونج ” بإبلاغ المخابرات الأمريكية بأن بريطانيا والعراق سوف يقدمان على تدبير انقلاب فى سوريا ، وعندئذ وافقت المخابرات الأمريكية على وجهة نظر المخابرات البريطانية فى هذه النقطة ، وأصرت على عودة عملية ” إستراجل ” StRuggle” ، والتى تهدف إلى تنفيذ الانقلاب . وطلب ميخائيل إليان من ” إيفلاند ” ومن ” آرشى روزفلت “مندوب المخابرات المركزية الأمريكية مبلغ نصف مليون دولار وفسحة ثلاثون يوما لإقامة نظام جديد وتحدد توقيت الانقلاب فى نهاية شهر أغسطس 1956 .
ومضت المخابرات البريطانية فى تشكيل ” حكومة ظل ” مصرية بعد أن منحها إيدن تفويضا فى هذا الاتجاه ، فاتصلت ببعض المحيطين باللواء محمد نجيب الذى كان قد عزل من منصبه كما اتصلت ببعض رجالات حزب الوفد وبعض السياسيين كما سبق أن أوضحت ، لكن السفير البريطانى فى القاهرة والمخابرات العسكرية البريطانية كانوا يعتقدون بأنه لا يوجد فى مصر أى بديل يمكن أن يتصدى لجمال عبد الناصر .
وفى 27 أغسطس1956 قام عدد من المسئولين ورجال المخابرات البريطانيين بلقاء عدد من الشخصيات المصرية فى جنوب فرنسا ، وفى جنيف تم لقاء آخر بين ضباط فى المخابرات البريطانية وأعضاء من حركة الإخوان المسلمين فى مصر .
وقيل فى هذه الاجتماعات إن اللواء محمد نجيب سينطلق من بيته ، المعتقل فيه ، للاستيلاء على الرئاسة وإن بعض الضباط المنشقين يتفاوضون مع بعض المدنيين لاغتيال جمال عبد الناصر وإقامة حكومة جديدة برئاسة محمد صلاح الدين وزير الخارجية الوفدى السابق ، وذكر أيضا اسم على ماهر وأن فى جيبه أعضاء الوزارة الجديدة ، وبرزت أسماء مجموعة من الضباط المتآمرين بقيادة البكباشى حسن صيام قائد إحدى كتائب المشاة .
ولكن الوزير البريطانى ” جوليان إيمرى ” كان يفضل اختيار الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديوى السابق عباس حلمى الذى عزلته بريطانيا من الحكم لميوله الوطنية سنة 1914 ، وأن يعهد لأحمد مرتضى المراغى برئاسة الحكومة ، وكان يقيم فى بيروت ، بعد أن فر من مصر . وقد قام المتآمرون بإبلاغ “إيمرى” أنهم لن يتحركوا إلا بعد أن تزحف القوات البريطانية والفرنسية فى اتجاه القاهرة . وكان أهم شخصية اعتقد الإنجليز أنهم نجحوا فى تجنيدها هو قائد الجناح عصام الدين محمود خليل مدير مخابرات الطيران المصرى الذى اجتمع فى روما مع أحد أبناء العائلة المالكة محمد حسين خيرى و بعد ذلك بأسابيع فى بيروت اجتمع خليل مع مدير المخابرات البريطانية فى لبنان ” جون فارمى ” .
وكان عصام الدين محمود خليل يبلغ كل ما يتعلق بهذه الاتصالات وكلفه عبد الناصر بمتابعة الاتصال بهم لكشف مخططاتهم ونواياهم هم والأمريكان والفرنسيين وكان يتسلم فى كل مقابلة مبلغ من الجنيهات الإسترلينية كان يسلمها لخزينة الرئاسة وبعد أن قرر عبد الناصر فضح هذه المؤامرة قمت بأوامر من الرئيس عبد الناصر بتسليم المبالغ كلها وكانت تقارب من المائة و سبعين ألف جنيه ، وحسبما أذكر 166 ألف جنيه إسترلينى ، للسيد حسن عباس زكى وزير الخزانة فى ذلك الوقت لإيداعه فى خزينة الدولة ، كما تقرر أن يتم صرف هذه المبالغ لتعويض المتضررين من شعب بور سعيد نتيجة العدوان عليهم .والأوراق الرسمية الخاصة بهذه القضية محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وفى مكتب وزير الخزانة بلاظوغلى حيث تسلم منى المبالغ هناك .
وفى 27أغسطس1956 تلقت المخابرات البريطانية أولى هزائمها فى حربها ضد عبد الناصر ، حين أعلنت السلطات المصرية الكشف عن شبكة مخابرات بريطانية والقبض على أعضائها ، منهم ” جيمس سوينبرن ” المدير التجارى لوكالة الأنباء العربية والذى أدلى باعترافات كاملة عن دوره ونشاطاته كجاسوس بريطانى وعدد آخر من البريطانيين الذين كانوا يعملون فى مصر تحت غطاء أعمال تجارية . وبعد هذه الضربة التى تلقتها المخابرات البريطانية فقدت رصيدها كله فى مصر ولم يبق لها أحد من عناصرها الذاتية .
وفى محاولة جديدة لاغتيال جمال عبد الناصر اضطرت إلى الاستعانة بعميل من خارج إطاراتها ، فاتصلت بالصحفى البريطانى ” جيمس موسمان ” مراسل الدايلى تلغراف فى القاهرة والذى كان يعمل من قبل فى هيئة الإذاعة البريطانية ال ” BBC ” وطلبت منه التعاون معها وحين تردد الصحفى قال له ضابط المخابرات البريطانى فى القاهرة ” يجب أن تقوم بهذا العمل فنحن على وشك الدخول فى حرب مع مصر ” ، وحين وافق الصحفى على التعاون طلب منه أن يضع رزمة ملفوفة فى مكان معين على بعد اثنى عشر ميلا من القاهرة ، وكانت الرزمة تحتوى على مبلغ عشرين ألف جنيه إسترلينى رشوة لطبيب عبد الناصر ليقوم باغتياله بالسم . وهذه كانت أخطر المحاولات البريطانية تلك المحاولة التى اعتمدت على قيام أحد الأطباء بدس السم لعبد الناصر ، وكان الميجور فرانك كوين رئيس فرع ” Q ” فى المخابرات قد أعد هذا السم وطلب أن يوضع السم فى الشوكولاته التى يعدها محل جروبى المشهور فى القاهرة ، وتم الحصول على دستة من علب جروبى لوضع السم فى قاعدة محتوياتها من الشوكولاته ، وبعد عدد من التجارب لئلا يفسد السم من تغير درجات الحرارة تمكن ” كوين ” من التوصل إلى الوصفة الملائمة ، وحين أبدى قلقه من أن يتناول الشوكولاتة بعض الأبرياء ممن يحيطون بالهدف قيل له ” ألا يقلق فالخطة محكمة ” . وتم تسليم العلب بالفعل ولكنها لم تصل أبدا إلى هدفها المطلوب حيث كان الطبيب هو أحد ضباط المخابرات العامة المصرية .
و كانت هناك خطة أخرى . فقد وضع فرع ” الخدمات التقنية ” فى المخابرات البريطانية فى لندن خطة جديدة لاغتيال عبد الناصر بالغاز لسهولة استخدامه ، وادعت المخابرات البريطانية بأن لها عميلا فى القاهرة يستطيع الوصول إلى أحد مقرات عبد الناصر ، وكانت الخطة هى وضع أنابيب من غاز الأعصاب داخل نظام التهوية ، ولكن تنفيذ العملية كان يتطلب كميات ضخمة من الغاز ، فاستبعدت على أساس أنها غير عملية . وقد كشف هذه المحاولة مدير المخابرات البريطانية الأسبق ” موريس أولدفيلد ” والذى كشف أيضا أن إيدن قرر العدول عنها لأنه لم يستطع استخدام الغاز ، فمن المعروف أن إيدن اشترك فى الحرب العالمية الأولى التى استخدم فيها الغاز السام ، وأنه كان يعتبرها من جرائم الحرب ، ولكنه فى سنة1956 لم تثقل عليه أى هواجس باستخدام وسائل سخيفة أخرى للاغتيال والقتل .
ثم كانت هناك خطة أخرى أعدتها مؤسسة وزارة الدفاع لأبحاث المفرقعات وتطويرها : علبة سجائر تطلق سهاما سامة وقد جربت هذه الوسيلة على بعض الماشية للتأكد من فاعليتها ، وحين أطلق السهم وأصاب الماشية اصطكت ركبها وغمغمت أعينها وعلا الزبد ثم بدأت تتساقط على الأرض وهى تفارق الحياة .
كما أن الفرنسيين والإسرائيليين أعدوا بدورهم عددا آخر من مؤامرات الاغتيال . فقد وضع مدير المخابرات الفرنسية ” بيير بورسيكوت ” ( الاشتراكى ) ، من رجال المقاومة الفرنسية السابقين ـ خطة تنطلق بموجبها مجموعة من الكوماندوز من مقر السفارة الفرنسية فى القاهرة لتعبر النيل بالقوارب المطاطية وتهاجم مقر مجلس قيادة الثورة على الضفة الأخرى من النيل ، وحدد الأول من سبتمبر 1956 لتنفيذ العملية ولكن أجل الموعد ، ثم عدل عن العملية .
أما المحاولة الإسرائيلية فقد استخدمت جرسونا يونانيا كان يقوم بخدمة الحفلات التى يحضرها عبد الناصر وكلفته بوضع حبة السم فى فنجان بالناصر ولكن حين اقترب الجرسون منه اهتزت يده وتملكته رعشة شديدة فعدل عن فعلته واعترف بما كلف به . وهذه القضية وثائقها محفوظة فى سجلات النيابة العامة والمخابرات العامة والمباحث العامة وأرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى .
بعد هذه المحاولات الفاشلة والتى لم يبق أمام إيدن سوى طريق واحد هو الاعتداء العسكرى على مصر.
فى 22 أكتوبر1956 نظم ” بيير بورسيكوت ” مدير المخابرات الفرنسية اجتماعا فى ” سيفر ” من ضواحى باريس حضره سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وباتريك دين من المخابرات البريطانية ودافيد بن جوريون وموشى ديان وشيمون بيريس عن إسرائيل ورئيس الوزراء الفرنسى كريستيان بينو ووزير خارجيته جى موليه ، استمر الاجتماع من السابعة مساء حتى منتصف الليل وتم فيه التواطوء بين الأطراف الثلاثة على تفاصيل العدوان الثلاثى على مصر بموجب اتفاقية أطلق عليها اسم المكان ” اتفاقية سيفر ” . وفى هذا الاجتماع عقد أيضا تحالف فرنسى ـ إسرائيلى تعهدت فيه فرنسا ببيع الطائرات النفاثة وتقديم المعلومات العلمية والتقنية لبناء مفاعل نووى فى إسرائيل .
عهد إلى ” بول بولسون ” بقيادة طاقم المخابرات البريطانية الذى سينزل على الشاطئ المصرى مع أول موجة من جنود الغزو . وكان الطاقم يتكون من وحدة تقوم بتشكيل حكومة دمى بعد الإطاحة بعبد الناصر ووحدة أخرى للقيام بمهام تخريب ضد المنشآت ، ووحدة للتحقيق مع الأسرى المصريين ، ووحدة لرصد ردود الفعل السوفيتية الدبلوماسية وغيرها . وعقد اجتماع على مستوى عال حضره إيدن ولجنة رؤساء الأركان وبحثت فرضية نجاح التآمر على قتل ناصر ، وحين قال فى الاجتماع أحد الضباط البريطانيين وهو يضحك : ” إن البلطجة ليست على أجندتنا ! ” افترت أسنان إيدن عن ضحكة واسعة . وفى تلك الفترة كانت المخابرات البريطانية قد فقدت كل عملائها فى مصر فتقرر إرسال طاقم من ثلاثة رماة من لندن لاغتيال عبد الناصر ، وبالفعل دخل مصر هؤلاء الثلاثة ولكنهم عجزوا عن عمل أى شىء فغادروا من حيث أتوا . وفى الوقت نفسه وصلت معلومات للمخابرات المصرية بوجود مرتزق ألمانى استأجرته المخابرات البريطانية للقيام بعملية ، لكنه اختفى قبل أن تقبض عليه السلطات المصرية ، ويعتقد انه هرب تحت غطاء دبلوماسى .
كانت هناك خطة بريطانية لاستخدام قوات طيران خاصة بعد بدء الغزو لقتل عبد الناصر أو لأسره ولقد كان للفرنسيين دورا فى كل هذه المخططات الفاشلة من البداية للنهاية .. فقد جرب رجال الضفادع البحرية الفرنسية الوصول إلى عبد الناصر ولكنهم لم يملكوا أية معلومات تمكنهم من الوصول إلى الهدف . وفى نوفمبر 1956 كانت هناك محاولة فرنسية ثانية ولكنها فشلت أيضا بعد أن تمت تصفية عملاء المخابرات الفرنسية فى القاهرة .
وفى داخل مصر كان من المنتظر أن يقوم أعداء عبد الناصر بالتحرك ن فاجتمع الضابط حسن صيام المتآمر العسكرى الرئيسى بالوزير الوفدى عبد الفتاح حسن لبحث ما يمكنهم عمله ، فطلب الواحد من الآخر أن يبدأ هو بالخطوة الأولى ، وفى الوقت نفسه انتقل مرتضى المراغى من بيروت إلى قبرص ـ القاعدة الرئيسية التى انطلقت منها القوات البريطانية . طلب حسن صيام من المتآمرين المدنيين أن يطلبوا مقابلة عبد الناصر ولكنهم رفضوا القيام بأى حركة قبل أن يكون العسكريون قد تخلصوا منه . ويتذكر أحد ضباط المخابرات البريطانيين أن ضباط مصريين معارضين لعبد الناصر زودوا بأسلحة كانت مخبأة فى بقعة مناسبة قريبة من القاهرة ولكنها كانت غير صالحة للاستعمال . ووثائق هذا الموضوع محفوظة فى أرشيف القيادة العامة للقوات المسلحة والمباحث الجنائية العسكرية والمباحث والمخابرات العامة وسكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى .
انتهت حرب السويس والعدوان الثلاثى وكل المؤامرات ضد ناصر بالفشل . وأعلن ” جورج يونج ” ضابط المخابرات البريطانية : ” لقد انهار كل شىء ، وأصبحت رجلا عجوزا فى ليلة واحدة ! ” . وقال ما اعتقد معه أنها نهاية بريطانيا ونفوذها فى المنطقة .
لكن حقد إيدن لم ينته حتى اللحظات الأخيرة ، ففى 23نوفمبر1956 طلب من المخابرات البريطانية استئناف محاولاتها لاغتيال عبد الناصر ، وكان ذلك هو آخر أوامره قبل أن يعتكف فى منزل ” أيان فليمينج ” مخترع روايات جيمس بوند ، وعندها حزم مدير المخابرات البريطانية فى بيروت ” دونالد براتر ” حقائبه وعاد إلى لندن على الفور وهو يقول ” البلطجة على الأجندة ” ، فقد أعطى إيدن موافقته لعملية ـ مجهولة حتى الآن أسماء وخطة ـ لعدد من الضباط المصريين المعادين لعبد الناصر تحت قيادة ضابط مجهول سمى “يارو” ، يمكنهم إستخدام أسلحة كانت مخبأة قريبا من القاهرة .
وفى سنة 1975 قامت لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكى بالتحقيق فى إشاعات عن تجاوزات المخابرات الأمريكية وسوء استخدامها لسلطاتها وأنها استهدفت اغتيال عبد الناصر هى أيضا . فقد نقل عن آلن دالاس قوله مهددا : قل للكولونيل ناصر صديقك .. أنه إذا زوّدها .. فسنمزقه إلى نصفين ! ” ، ولا يمكن الاستهانة بهذا التهديد لأن أعوان المخابرات المركزية الأمريكية فى القاهرة أصبحوا أكثر عددا مما كان لبريطانيا ، ولكن اللجنة لم تستطع الحصول على دليل على هذا الزعم ، وعلى أى حال فإن ” مايلز كوبلاند ” الجاسوس الأمريكى ـ لاحظ أن الإنجليز يقولون عليه الجاسوس حيث أنه فعلا لم يكن ضابط مخابرات ـ ، وأستاذ دس المعلومات الخطأ ، يقول أنه اختير إعطاء جمال عبد الناصر علبة سجائر ” كنت ” التى كان يدخنها بعد أن تم تسميمها على يدى الدكتور ” سيدنى جوتليب ” رئيس دائرة الخدمات التقنية فى المخابرات الأمريكية بمادة “بويتلوليزم” التى تضمن القتل بعد ساعة أو ساعتين .
وفى 23ديسمبر 1957 أعلن جمال عبد الناصر فى احتفال جماهيرى فى بور سعيد عن الكشف عن مؤامرة أنجلو فرنسية لإعادة الملكية ، وتبين أن الضابط عصام الدين محمود خليل مدير مخابرات القوات الجوية المصرية فى ذلك الوقت ـ ، قام بتبليغ عبد الناصر بكل ما طلبته منه المخابرات البريطانية من اليوم الأول ، واستمر فى خداعها بناء على تعليمات من عبد الناصر الذى أعلن أن بريطانيا دفعت لخليل 166 ألف جنيه إسترلينى ، وأنه قرر صرف هذه الأموال تعويضا للمواطنين المصريين الذين تضرروا من أعمال القصف الذى أصاب بور سعيد من القوات البحرية البريطانية .
ـ 5 ـ
السد العالى ـ أزمة التمويل
مشروع السد العالى هو مشروع قديم يرجع الفضل فى طرحه إلى المهندس اليونانى “دانينيوس” ، وقد سبق أن تقدم به لأكثر من حكومة مصرية قبل الثورة ولكنه لم يكن يلقى أدنى استجابة حتى على سبيل الوعد ببحث المشروع وجدواه الاقتصادية ، وفى عام1953 تقدم بمشروعه من جديد إلى مجلس قيادة الثورة ، ولكنه هذه المرة حظى باهتمام كبير من جانب القيادة الثورية وكلف قائد الجناح جمال سالم عضو مجلس قيادة الثورة بتولى مسئولية هذا المشروع إلى جانب الفنيين فى المجالس والهيئات المتخصصة الذين سيتولون البحث والدراسة الخ
لقد سبق أن وضعت القيادة الثورية التى تولت السلطة بعد يوليو1952 قضية التنمية على رأس اهتماماتها وفى مقدمة جدول أعمالها ، وحرصت على إزالة أية عقبات كانت تعترض مساهمة رأس المال الوطنى أو الأجنبى فى التنمية ، كما أصدرت القانون رقم لسنة1952 فى شهر أكتوبر، والذى تم بموجبه إنشاء المجلس الدائم للإنتاج كهيئة مستقلة تتبع لرئاسة مجلس الوزراء ويتولى مهمة بحث ودراسة المشروعات الاقتصادية الكبرى التى يكون من شأنها تنمية الإنتاج على المستوى القومى ، ووضع مخطط وطنى متكامل للتنمية الاقتصادية .
وبدأ هذا المجلس فى وضع الدراسات التفصيلية لعديد من مشروعات التنمية فى قطاعات الرى والتوسع الزراعى وتكرير البترول وخطوط أنابيب البترول وتنمية الثروة المعدنية والمواصلات وغيرها من القطاعات فى إطار رؤية بعيدة المدى للاقتصاد المصرى .
وبالتالى كان من الطبيعى أن يلقى مشروع السد العالى الاهتمام الواجب فى مجلس الإنتاج بعد أن تحمست له قيادة الثورة على المستوى السياسى ، وبالفعل تم تشكيل لجنة فرعية تضم عددا من أعضاء مجلس قيادة الثورة وعدد من أعضاء مجلس الإنتاج من الخبراء والفنيين برئاسة جمال سالم لإجراء مزيد من البحث والدراسة لهذا المشروع ، وعقدت اللجنة عدة اجتماعات فى مقر مجلس قيادة الثورة بالجزيرة ، حضر بعضها المهندس اليونانى دانينيوس ، وإنتهت بعد دراسات مستفيضة إلى الإقرار بجدوى المشروع وضرورة تنفيذه وقدمت أيضا توصيات بهذا المعنى لمجلس قيادة الثورة الذى وافق من حيث المبدأ على تنفيذ المشروع والبدء فى اتخاذ الخطوات العملية فى هذا الشأن .
وكانت الخطوة الأولى هى تنظيم سلسلة من المحاضرات عن السد العالى ، وبدأت بمحاضرات وندوات فى نادى ضباط الجيش بالزمالك تحدث فيها عدد من المهندسين المتخصصين وشرحوا أبعاد المشروع وما ينتظر منه من عائد ، كما عقدت سلسة محاضرات أخرى فى نقابة المهندسين ، وفى جمعية المهندسين المصرية استهدفت كلها تهيئة الرأى العام على المستويات العلمية والسياسية والشعبية لهذا المشروع .
لقد تمثل العائق الأساسى الذى حال دون بحث أو تنفيذ مشروع بهذا الحجم فى عهود ما قبل الثورة فى غياب الاستقرار السياسى ، على سبيل المثال فقد كان هناك مشروع كهربة خزان أسوان، وهو مشروع كان محل مزايدة بين الأحزاب فى برامجها ، وتستخدمه كأداة للدعاية ووسيلة للوصول إلى السلطة ثم سرعان ما يطاح بها ويطوى المشروع فى غياهب النسيان لتأتى حكومة حزبية أخرى تجدد نفس السيناريو ، فلما جاءت الثورة قامت بتنفيذ فورى لمشروع كهربة خزان أسوان ، وعملت فى الوقت نفسه على إشراك مكاتب استشارية أجنبية فى دراسة مشروع السد العالى إلى جانب الخبراء المصريين الذين يمتازون بقدرات وكفاءات كبيرة وعالمية أيضا فى هذا المجال ، وكل الدراسات أكدت سلامة المشروع من حيث الجدوى الاقتصادية لمستقبل مصر ، وكان من بين من تولى دراسة المشروع بصورة رسمية البنك الدولى للإنشاء والتعمير ، وقد أعد بالفعل دراسة قدمها يوجين بلاك ، كان ملخصها أن حالة الاقتصاد المصرى تسمح بإتمام مشروع السد العالى .
كما جاء خبراء من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا للتنسيق مع المجموعة المكلفة ببحث المشروع ، وتولى كل من المهندسين محمد صدقى سليمان و محمود يونس وسمير حلمى وأحمد عبده الشرباصى وإبراهيم زكى قناوى وموسى عرفة وآخرين التنسيق مع هؤلاء الخبراء وتقديم التسهيلات اللازمة لهم لوضع الدراسات المطلوبة حول المشروع .
إن أهم الآثار التى يمكن أن تترتب على السد العالى هو إحداث تطوير هائل فى إنتاج الكهرباء الرخيصة ـ أهم فروع البنية الأساسية فى الإنتاج ـ ، وتنمية الاستخدام الموسع للمصادر المائية وهو ما يساعد على إنشاء أول شبكة كهربائية موحدة للبلاد باستخدام أحدث التكنولوجيا التى توفرت فى ذلك الوقت ، وثمة تنمية أخرى لا تقل أهمية إن لم تزد تتمثل فيما يوفره السد العالى من طاقات ضخمة لتخزين مياه النيل أمام السد ، وهو ما يساعد على حل مشكلة نقص المياه فى سنوات الجفاف وتوفير المياه التى كانت تهدر فى البحر فى مواسم الفيضان ، وحماية مصر من أخطار الفيضانات العالية ، واستصلاح حوالى تسعمائة واثنا عشر فدانا بفضل المياه التى أمكن تخزينها أمام السد وتحويل تسعمائة وثلاثة وسبعين ألف فدان من رى الحياض إلى الرى الدائم إضافة إلى زيادة المساحات المزروعة بالأرز دعما لعائدات التصدير للمنتجات الزراعية ، وفى نفس الوقت فإن اكتمال عملية التخزين التدريجى فى بحيرة ناصر يفتح الطريق لإقامة العديد من المشروعات التكميلية فى مجال استصلاح الأراضى والانتقال من الوادى الضيق علاوة على تنمية الثروة السمكية ، وتجدر الإشارة إلى أن مشروع توشكى الذى يجرى تنفيذه حاليا يعد فى حقيقته أحد ثمار السد العالى .
وقد يكون من المناسب أن أتعرض بشىء من التفصيل لقصة السد العالى : –
بدأ التفكير فى المشروع فى نهاية سنة 1952 ـ المهندس اليونانى المصرى دانينيوس .
بدأ تنفيذ المشروع فى 9يناير1960 .
انتهت المرحلة الأولى فى منتصف مايو1964 بتحويل مياه النهر إلى قناة التحويل .
فى منتصف أكتوبر1967 ارتفع جسم السد إلى منسوب 172 متر ، وانطلقت الشرارة الأولى من محطة كهرباء السد العالى فى 9يناير1969 بتشغيل ثلاثة توربينات .
فى يوليو1970 اكتمل المشروع بتشغيل 12 توربين .
بلغت تكلفة بناء السد العالى حوالى 400مليون جنيه ، ولو أردنا بناءه اليوم سيتكلف18مليار جنيه. (حسب تقدير شيخ المهندسين إبراهيم زكى قناوى ) .
السد بناء من رخام الجرانيت والرمال والطمى تتوسطه طبقة صماء من الطين الأسوانى .
السد يغلق مجرى النهر على مسيرة حوالى سبعة كيلومترات إلى الجنوب من سد أسوان القديم ويحول المياه إلى مجرى جديد عبارة عن قناة مكشوفة تتوسطها ستة أنفاق متصلة فى نهايتها بمحطة كهرباء مزودة باثنى عشرة وحدة .
سعة بحيرة ناصر 164مليار متر مكعب منها 30 مليار متر مكعب لاستيعاب الطمى بعد استمرار رسوبه لعدة قرون ، و37 مليار متر مكعب لمواجهة الفيضانات العالية ، و97 مليار متر مكعب تمثل السعة الحية للخزان التى تضمن تصرف سنوى ثابت مقداره : 84مليار متر مكعب يخص مصر منها 5ر55 مليار ويخص السودان 5ر18 مليار ، والباقى 10 مليار مقدر أنه يفقد من حوض الخزان بالبخر والتسرب .
عرض مجرى النهر عند موقع السد 520 متر .
طول السد عند القمة 3820 متر .
أقصى ارتفاع للسد 111 متر .
عرض قاعدة السد 980 متر .
عرض الطريق فوق السد 40 متر .
البحيرة :
* طول البحيرة 500 كيلومتر .
*متوسط عرض البحيرة 8ر11 كيلومتر .
* مساحة سطح البحيرة 5900 كيلومتر مربع .
* أقصى سعة للتخزين فى البحيرة 164 مليار متر مكع .
مجرى التحويل :
* الطول الكلى لمجرى التحويل 1950 متر .
* طول القناة الأمامية المكشوفة 1150 متر .
* طول الأنفاق شاملا محطة توليد الكهرباء 315 متر .
*طول القناة الخلفية المكشوفة 485 متر .
*طول النفق 282 متر .
*عدد الأنفاق 6 .
*أقصى تصرف يمكن تمريره بمجرى التحويل 11000 مترمكعب/ ثانية .
* القطر الداخلى للنفق 15 متر .
محطة توليد الكهرباء :
* مجموع القوة المركبة 1ر2 مليون كيلووات .
*عدد الوحدات الكهربائية 12 .
*قوة كل وحدة 175000 كيلووات .
*الضاغط التصميمى 5ر57 متر .
القطاع العام والسد العالى :
المقاولون العرب :
حجم الأعمال التى أوكلت لشركة المقاولون العرب فى بناء السد العالى لم تتعدى نسبة 12 % بميزانية لم تتعدى 40 مليون جنيه من جملة التكاليف التى بلغت 330 مليون جنيه .
والمقاولون العرب قامت بأعمال حفر وهدم . ولم يشرف عثمان أحمد عثمان على أى عملية بل كان المشرفون هم أمين عمر وأحمد عوض .
مصر للأسمنت المسلح :
كان حجم أعمالها 60 مليون جنيه بنسبة 18 % وهو يعادل مرة ونصف حجم الأعمال الذى أنجزته المقاولون العرب .
وأهم الأعمال كالتبطين للأنفاق وبناء محطات الكهرباء والستارة الرئيسية للحقن فقد قامت بها شركة مصر للأسمنت المسلح والهيئة العامة للسد العالى .
إن مشروعا بهذا الحجم كان فى حاجة إلى قرار سياسى جرىء ، وكان جمال عبد الناصر يتمتع برؤية إستراتيجية بعيدة المدى، ولم يكن يتخذ القرار المتسرع ولم تكن مواقفه نابعة من رد الفعل ، ومن ثم فقد استوعب كل النتائج التى توصلت إليها الدراسات الفنية المتخصصة لمشروع السد العالى وسعى إلى تحويله إلى “حلم قومى ” يستأهل أن تجند له كل الطاقات والخبرات لوضعه موضع التنفيذ وبدأ يضعه فى جدول أعماله فى مناقشاته واجتماعاته مع كل المسئولين العرب والأجانب كما تداول بشأنه فى حواراته المستمرة مع الرئيسين تيتو ونهرو ، وأخذ يبحث عن مصادر لتمويله ، وبدا بعرضه على البنك الدولى للإنشاء والتعمير الذى أكد فى تقريره نشره فى شهر يونيو1955 سلامة المشروع ، وورد بهذا التقرير أيضا” أن مصر اعتمدت ثمانية ملايين دولار لتنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع وتشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية ، ومساكن للعاملين فى الموقع ” ، وفى أغسطس من نفس العام أصدر البنك تقريرا آخر يؤكد قدرة الاقتصاد المصرى على تنفيذ المشروع ، وفى سبتمبر1955 أعلنت بعض الشركات الألمانية الغربية والفرنسية والبريطانية تقدمها بعروض للمشاركة فى تنفيذ المشروع فى شكل “كونسورتيوم ” .
لقد بدا أن المشروع يحظى باهتمام فى الدوائر السياسية فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقد اعتبروه فرصة للربط بين دعم خطط التنمية التى بدأتها الثورة من جانب ، وإقامة نظام إقليمى يضمن المصالح الغربية ويفتح الطريق للتسوية مع إسرائيل من جانب آخر .
وبدأ الاتحاد السوفيتى يدخل كطرف ثالث فى التنافس ـ خاصة بعد عقد صفقة الأسلحة التشيكية ـ ففى سبتمبر عام1955 ، وفى نفس وقت إعلان أنباء الصفقة صرح السفير السوفيتى فى القاهرة أن بلاده مستعدة للمساهمة فى بناء السد العالى ،وحدد هذه المساهمة بالمعونة الفنية والمعدات وأموال يتم تسديدها بسلع خلال خمسة وعشرين عاما ، وأدى ذلك إلى فزع كبير فى الغرب ، وتحركت بريطانيا لتحذير واشنطن من التهديد السوفيتى القادم .
وقد اختار عبد الناصر أن يختبر نوايا الغرب مرة أخرى بعد أن فشلت محولات الحصول على السلاح منه فبدأ الدكتور عبد المنعم القيسونى وزير الاقتصاد سلسلة من الزيارات للعواصم الغربية وجرت العديد من المفاوضات ، أسفرت عن اتفاق من حيث المبدأ أعلنته الخارجية الأمريكية فى 16ديسمبر1955 ويقضى بأن يتولى كل من البنك الدولى والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تمويل مشروع السد العالى بتكلفة تبلغ 1,3 مليار دولار يتم توزيعه كالتالى :
تقديم 70 مليون دولار للمرحلة الأولى فى المشروع ( تقدم الولايات المتحدة مبلغ 56مليون دولار ، وتقدم بريطانيا مبلغ 14 مليون دولار ) .
تقديم 200 مليون دولار للمرحلة الثانية فى صورة قرض من البنك الدولى بالإضافة إلى 130 مليون دولار أخرى كقرض من الولايات المتحدة الأمريكية ومبلغ 80 مليون دولار قرضا من بريطانيا ، على أن تدفع فى صور أقساط سنوية بفائدة 5% تسدد على مدى أربعين سنة .
باقى المبلغ تتحمله مصر بالعملة المحلية .
يضاف إلى ذلك منحتين الأولى من الولايات المتحدة وقدرها عشرين مليون جنيه والثانية من بريطانيا وقدرها خمسة ونصف مليون جنيه .
وفى الوقت الذى كانت فيه المفاوضات حول تمويل السد العالى تتخذ هذا المسار الإيجابى على السطح كانت العلاقات السياسية بين مصر من جانب وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر تتخذ مسارا مختلفا بسبب معركة الأحلاف وصفقة الأسلحة والاعتداءات الإسرائيلية على غزة وغيرها كما أوضحت ، وقد بدا واضحا حرص الدولتين على امتلاك أوراق ضغط على ثورة يوليو تتعارض والإستراتيجية التى انتهجتها الأخيرة بشأن استقلالية قرارها والإصرار على استكمال التحرر من أية ضغوط أجنبية، وجاءت الشروط التى وضعتها الدولتان لتنفيذ اتفاق تمويل السد العالى مؤكدة لهذا الاتجاه ، فقد اقترن العرض السابق بالشروط التالية:
(1) أن تركز مصر برنامجها التنموى على السد العالى بتحويل ثلث دخلها القومى ولمدة عشر سنوات لهذا المشروع مع فرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى .
وضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومى ، وفرض رقابة على مصروفات الحكومة مصرية وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية . وألا تقبل مصر قروضا أخرى أو تعقد اتفاقيات فى هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولى .
(3) الاحتفاظ بحق إعادة النظر فى سياسة التمويل فى حالات الضرورة .
وأثارت هذه الشروط غضب الرئيس عبد الناصر ، فقد كانت أشبه بالوضع الذى كان سائدا فى عهد الخديوى إسماعيل ، وأنتج ذلك كله حالة فقدان الثقة فى إمكانية معاونة الولايات المتحدة فى تنفيذ المشروع ، وانتهى الرئيس إلى تقدير موقف اقتنع به بهذا المعنى ، لكنه حرص على تفادى المواجهة لآخر لحظة حتى يتكشف الموقف الأمريكى بوضوح وجلاء وصراحة فى ضوء الرسائل المتكررة التى حملتها القنوات الخلفية والزيارات الرسمية للمسئولين الأمريكيين ، والتى أكدت حقيقة واحدة هى إصرار الجانب الأمريكى على التحكم فى سياسات الثورة ودفعها إلى مسار يخدم الإستراتيجية الأمريكية ومصالح الغرب فى الأساس ، وخاصة فيما يتعلق بالتفاهم مع إسرائيل ، وكان ذلك يجرى بتنسيق محكم مع الجانب البريطانى تكشفت أبعاده فى أكثر من مناسبة وكما كشفته الوثائق الأمريكية والبريطانية التى نشرت مؤخرا .
وفى هذا الإطار استقبل الرئيس جمال عبد الناصر يوجين بلاك رئيس البنك الدولى ، وبعد مفاوضات وافق عبد الناصر فقط على أن يكون للبنك الدولى حقوق معقولة فى تفقد الإجراءات التى سوف تتخذها مصر للحد من التضخم ـ عقد اتفاق أعلن فى 8فبراير1956 يقدم البنك بموجبه قرض قيمته مائتان مليون دولار على أن يتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول الشروط التى أعلنوها لتقديم المساعدة .
وفى الأسبوع الأول من يوليو1956 استقبل الرئيس عبد الناصر السفير أحمد حسين سفير مصر فى واشنطن فى استراحة برج العرب غرب الإسكندرية ، ودار الحديث حول الموقف الأمريكى من تمويل مشروع السد العالى ، وكان أحمد حسين معروفا بميوله الأمريكية، ومن أنصار تطوير العلاقات والتعاون مع واشنطن وقد حاول فى هذا الاجتماع أن يبرر موقف جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى الذى أتسم بالمماطلة والتعنت وأخذ يسهب فى تفسير الضغوط التى يتعرض لها من الدوائر الصهيونية وبعض رجال الكونجرس الأمريكى ، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر كان يدرك فى قرارة نفسه أن الأمر لا يخرج عن حدود المناورة ، وأن أمريكا لن تقدم على المساهمة فى تنفيذ المشروع ، وتمسك أحمد حسين بموقفه ومحاولاته للتفسير والتبرير ، وبعد أن استمع له عبد الناصر مطولا بادره قائلا :
” حسنا ( قالها بالإنجليزية All Right ) سأعطيك الفرصة لكى تثبت شيئا من أجل مصر يا أحمد ، ترجع لدالاس وتقول له إنك قبلت بجميع شروطه ، ثم لاحظ ردود فعله ، وحانشوف إيه اللى حا يجرى بعد كدة ؟ “.
وأسقط فى يد أحمد حسين واستفسر من الرئيس عما إذا كان لا يريد أن يعدل من الشروط الأمريكية .
فقال له عبد الناصر : ” لا تعديل فى الشروط ، وآنت مفوض تفويضا كاملا ومعا Carte blanche وتقول لدالاس :
” إننى قبلت بشروطكم وبأن يتجدد الالتزام الأمريكى تجاه السد العالى سنويا ، لكنى أحذرك يا أحمد إياك أن تقول أو تفعل أى شىء يمس كرامة مصر؛* وهذا لسبب واضح تماما هو أننا لن نحصل على السد العالى من الأمريكان . ” .
وتوجه أحمد حسين إلى واشنطن عن طريق لندن ، وعلى خلاف اتفاقه مع الرئيس جمال عبد الناصر أدلى بتصريحات دلت على تخاذل لا مبرر له على الإطلاق فقد قال :
” إن مصر تقبل بجميع المقترحات المقررة بشأن السد العالى ، وأنها ترجو مساعدتها فى بناء السد العالى ، وتعتمد على هذه المساعدة وتطلبها . ” .
كنا فى هذه الأثناء فى صحبة الرئيس جمال عبد الناصر فى زيارة رسمية ليوغوسلافيا عندما أدلى أحمد حسين بهذه التصريحات، وأعرب الرئيس عن ضيقه؛ إذ شعر أن مصر قد أهينت، وما كان لأحمد حسين أن يصرح بكلمة قبل أن يقابل دالاس حسب التعليمات ويفاجئه بموقفه .
ذكّرت الرئيس بما لدينا من معلومات مسبقة بشأن أحمد حسين، وتزايد ارتباطاته فى هذه الفترة 1955 /56 مع بعض الجهات فى أمريكا، وقد رأيت هذا التصريح بمثابة تسريب للموقف المصرى بشكل مفصل ويحمل معنى التخريب فى سياستنا؛ خاصة وأن الرئيس قد حذره من عدم الإقدام على أى قول أو فعل يترتب عليه المساس بكرامة مصر ، فلماذا تطوع أحمد حسين بهذا الموقف ؟ ولماذا فى لندن بالذات ؟ ولماذا قبل اجتماعه بدالاس فى واشنطن ؟ خاصة وأنه سمع تقدير محدد من الرئيس جمال عبد الناصر يعرب فيه عن اعتقاده الجازم بأن أمريكا لن تقدم السد العالى لمصر .
كان رأى أحمد حسين الذى عبر عنه فيما بعد ، أنه قصد المناورة وممارسة الضغط على الجانب الأمريكى؛ خاصة وأنه ألمح فى تصريحاته إلى استعداد الاتحاد السوفيتى لتقديم المساعدة فى بناء السد العالى . والحقيقة أنه لم يجر أى اتصال من جانب مصر مع الاتحاد السوفيتى حول هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد إلا بعد سنة 1957 ، وكل ما حققه التصريح هو إعطاء الفرصة لدالاس لأن يعد نفسه جيدا .
وما أن وصل أحمد حسين إلى واشنطن حتى تتابعت الأحداث على النحو التالى :
*عندما تسلم دالاس تصريح احمد حسين سارع بإبلاغ أيزنهاور* الذى كان متواجدا فى كامب دافيد أثر إصابته بأزمة قلبية ، ولإحساس دالاس أنه سيواجه حرجا شديدا إذا ما أبلغه أحمد حسين رسميا قبول مصر للشروط الأمريكية ، أبلغ أيزنهاور بأن المصريين لا يتجاوبون معه البتة ، وأنه يقترح سحب عرض المساعدة فى بناء السد العالى ، ورد أيزنهاور بأنه يفوضه للتصرف بحرية مطلقة وفق ما يراه .
*تحدد ظهر يوم 19يوليو1956 موعدا لاستقبال دالاس لأحمد حسين فى مبنى وزارة الخارجية الأمريكية ، وبعد دخوله مكتب دالاس بدقائق معدودة أصدر المتحدث الرسمى باسم الخارجية الأمريكية ” لينكولن وايت ” ، بيانا يعلن فيه سحب العرض الأمريكى لتمويل مشروع السد العالى ، وكان ذلك قبل أن يبدأ الحديث بين أحمد حسين وجون فوستر دالاس .
وقد بعث أحمد حسين بتقرير إلى الرئيس عبد الناصر عن اللقاء جاء فيه :
– أن دالاس فاجأه عندما هم بالجلوس بقوله أن الولايات المتحدة الأمريكية يا سيادة السفير ستصدر بيانا الآن ، وأننا نأسف لأننا لن نساعدكم فى بناء السد العالى وأن بلاده قد قررت سحب عرضها؛ لأن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع .
وهنا حاول السفير أحمد حسين أن يحتج لكن دالاس واصل قراءة ما هو مكتوب أمامه والذى أعد مسبقا حيث استطرد قائلا :
” إن الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن من يبنى السد العالى ـ أيا كان ـ سيكسب كراهية الشعب المصرى؛ لأن الأعباء المترتبة عليه ستكون مدمرة وساحقة – وأضاف – أنه ليس فى وسع الشعب المصرى أن يتحمل عبء تنفيذ هذا المشروع الضخم ، فمتطلباته تتجاوز ما تستطيع مصادر مصر احتماله خاصة بعد التزامها بشراء الأسلحة ( يقصد صفقة الأسلحة التشيكية ) ، وإننا فى الولايات المتحدة الأمريكية لا نريد أن نكون مكروهين فى مصر ، وسوف نترك هذه المنفعة للاتحاد السوفيتى إذا كان يعتقد أنه يريد أن يبنى السد العالى” .
– ويضيف دالاس أن بلاده تعتقد أن الاتحاد السوفيتى لا يملك المصادر الكافية لإنجاز المشروع، ولو تعهد بتنفيذه فإن الدول التابعة له ستتمرد عليه حيث أنهم يساعدون مصر بينما يرفضون تقديم المساعدات المماثلة التى تطلبها هذه الدول .
– يؤكد دالاس أن صفقة الأسلحة التشيكية التى عقدتها مصر ستسبب للحكومة الأمريكية حرجا فى شأن استمرار مساعدتها الاقتصادية لمصر؛ لأن كرامة أمريكا أصبحت الآن فى التراب بسبب مزاعم بعض الأصوات فى أمريكا بأن وسيلة مصر للحصول على المساعدات هى التشهير بالسياسة الأمريكية ومعارضتها .
– أنه منزعج شخصيا من صفقة الأسلحة خاصة وأن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد أثبتت فى السنوات الأخيرة صدق نيتها فى مساعدة مصر كما لعبت دورا مهما فى التوصل لاتفاقية الجلاء ، والتزمت موقفا غير منحاز بين العرب وإسرائيل ، بل ومارست الضغط على إسرائيل عندما حاولت تنفيذ مشروعاتها فى بحيرة طبرية برغم قرار مجلس الأمن بإيقاف هذه المشروعات . وقال أيضا أن ممثلى إسرائيل صرحوا له بأن إسرائيل لا يمكن أن تنتظر حتى يكمل العرب استعدادهم للقضاء عليها ، كما ذكر النتائج الخطيرة التى تترتب على تمكين الشيوعية من بترول البلاد العربية وحرمان الدول الغربية منه ، وأنه شخصيا يجد نفسه محرجا ومركزه صعب؛ لأن إسرائيل ستطالب ولا شك بالحصول على الأسلحة وبضمانات أمريكية، وستستخدم فى سبيل تحقيق مطالبها كل وسائل الضغط التى إن نجحت فسوف تسىء لأمريكا عند العرب .
وفى رد عاجل على هذه الآراء أوضح أحمد حسين ما يلى :
أنه نقل إلى وزير الخارجية الأمريكى تأكيد الرئيس جمال عبد الناصر بأن صفقة الأسلحة التشيكية ما هى فى الواقع إلا صفقة تجارية لا تحمل فى طياتها أى طابع آخر .
أن مصر لن تسمح بتسرب أى نفوذ أجنبى إليها، وتحرص كل الحرص على مقاومة الشيوعية، وأنها قبلت بالعرض التشيكى نتيجة الصعوبات التى واجهتها فى الحصول على السلاح من الدول الغربية .
ويضيف أحمد حسين أنه دلل فى هذه المناسبة على سياسة مصر الواقعية، والبناءة مذكرا بالدور الكبير الذى قام به الفنيين المصريون لمساعدة إيريك جونستون فى وضع مشروعه الخاص بنهر الأردن ، وان الرئيس جمال عبد الناصر نفسه قد عبر للوفود العربية الأخرى عن تأييده للمشروع؛ وهو ما ساعد جونستون على إقناع بعضها بجدوى المشروع وسلامته .
كما تطرق إلى المساعدات الاقتصادية الأمريكية فى العام الحالى ، وأوضح أن مصر تريد التقدم بطلب 360 ألف طن من القمح الأمريكى ( وفقا للقانون 480ب )
( P480 )
هكذا لم تكن القضية التى تشغل بال المسئولين الأمريكيين أو الخارجية الأمريكية على وجه الخصوص هى قدرة الاقتصاد المصرى أو الآثار السياسية أو الاقتصادية المترتبة على مشروع السد العالى بل تكمن الأزمة الحقيقية فى عدم قدرة الإدارة الأمريكية على تقبل الأوضاع الجديدة فى المنطقة التى ترتبت على قيام ثورة يوليو 1952 ، وعدم قدرتها على التعامل مع القوة الجديدة بما طرحته من أهداف تحمل فى طياتها ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ تحديا لكل الثوابت التى أرستها القوى الاستعمارية فى الشرق الأوسط على مدى السنوات الطويلة السابقة .
ـ 6 ـ
تأميم شركة قناة السويس
‘لثورة
الثورة الثانية
تمثل قناة السويس صفحة من صفحات النضال المصرى نحو التحرر ، وإنهاء التبعية بقدر ما مثلت أحد الأشكال البارزة للتدخل الأجنبى فى مصر ، ومنذ حفر قناة السويس ، والشركة الفرنسية التى حصلت على امتيازها تتحكم فيها وتتخذ الشركة من باريس مقرا لها وقد أصبحت بريطانيا شريكة لفرنسا فى السيطرة على القناة بعد أن اشترت نصيب مصر فى أسهم القناة ، ولم تكن مصر تحصل من أرباح القناة إلا على نسبة ضئيلة.
فعلى سبيل المثال وصل دخل القناة 35مليون دولار فى عام1955 ، كان نصيب مصر منها مليون جنيه فقط ، وكان موعد انتهاء امتياز الشركة الفرنسية يحين فى عام 1968 لتعود ملكيتها بعد هذا التاريخ إلى مصر ، ولقد استوعبت قيادة الثورة هذه الحقائق منذ البداية ، وبدأت بالفعل فى العمل على تعديلها ابتداء من عام 1953 لترتيب أوضاع ما بعد 1968 ، وكان ذلك من خلال مجموعة من الدراسات طلبت القيادة إجراءها حول النقاط التالية :
موقف القوة البشرية فيما يتعلق بمستوى الإدارة أو العناصر الفنية المطلوبة لانتظام العمل والكفاءات البديلة ونوعياتها .
الجوانب القانونية التى تحكم وضع القناة والشركة التى تديرها من واقع قواعد القانون الدولى البحرى التى تنظم التعاون مع الموقف وعلاقته بالسيادة المصرية .
المشروعات المقترحة لتطوير قناة السويس وتحسينها .
احتمالات التدخل العسكرى البريطانى فى القناة فى حالة فشل مفاوضات الجلاء فى ظل وجود القوة العسكرية البريطانية فى منطقة القناة .
ومن جانب آخر كانت مفاوضات الجلاء واحتمالات إنهاء الوجود العسكرى البريطانى مصدر قلق وانزعاج شديدين لشركة قناة السويس ، ومع بداية 1953 فكرت كل من لندن وواشنطن فى إنشاء هيئة للمنتفعين بالقناة لتكون بديلا للقاعدة البريطانية فى حماية القناة ، ونشط الأعضاء البريطانيون فى مجلس إدارة الشركة فى تجسيد الأخطار المحتملة بعد الجلاء على القناة ، وتكون ما عرف باسم ” جماعة السويس ” من أعضاء مجلس العموم البريطانى للدفاع عن الشركة آخذين فى الاعتبار تجربة تأميم البترول الإيرانى ، وتخوفهم من استيلاء مصر على القناة وما قد يترتب على ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ من أخطار على القناة .
وكان رئيس مجلس إدارة الشركة يردد تعبيرا يدرك تماما معناه لدى الغرب حيث يقول:
” إن القناة هى وريد الدورة الدموية للبترول فى العالم ” ، وقد لقى هذا التعبير صدى كبيرا لدى المسئولين البريطانيين حتى أن إيدن كان يردده أيضا فى خطبه ذلك أن بريطانيا كانت من أكثر الدول انتفاعا بالقناة .
والملفت للنظر أنه رغم الأهمية الكبرى التى تحظى بها قناة السويس من كل المنتفعين بخدماتها فلم تضع الشركة المسئولة عنها أية خطط للتطوير أو تحسين الخدمة فى برنامجها .
ومن هنا فقد أدركت قيادة الثورة أن قناة السويس لا تمثل مرفقا اقتصاديا فقط بل إنها تمثل أيضا قضية ذات أبعاد سياسية وأمنية واستراتيجية إلى جانب البعد الإقتصادى، وأصدر الرئيس عبد الناصر قرارا فى مرحلة مبكرة، وفى أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء مباشرة بتشكيل مجموعة عمل لوضع الدراسات اللازمة فى قناة السويس وفقا لما سبق تحديده، وكانت هذه المجموعة تضم كلا من على صبرى وسامى شرف وأمين أنور الشريف رئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء ، وكلفت بتجميع البيانات اللازمة والمعلومات الضرورية عن نشاط شركة قناة السويس فى كل الاتجاهات .
وفى 17نوفمبر1954 أشار عبد الناصر فى إحدى خطبه إلى الفترة المتبقية من عمر امتياز شركة قناة السويس ، وضرورة استثمارها كفترة تحضير لتأهيل المصريين لإدارة القناة بعد تسلمها من الشركة .
وفى فبراير1955 انضم للمجموعة السابقة كل من الدكتور مصطفى الحفناوى والدكتور حلمى بهجت بدوى ومحمد على الغتيت، وكان لعلى صبرى الذى رأس هذه المجموعة أحقية الاستعانة بأى من الخبراء الفنيين أو القانونيين وفقا لتقديره وتركز البحث أيضا على وضع القناة بعد سنة1968 .
وكان يجرى عرض ما يتم التوصل إليه من دراسات أو تقديرات بإستمرارعلى عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة وخاصة عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين .
قدمت المجموعة آخر دراستها فى عام 1955 وخلصت فى نهايتها لاقتراح يقضى بالإسراع فى وضع القناة تحت السيادة المصرية بالكامل دون أن تستخدم مصطلح ” التأميم ” ، وقد جرت مناقشة الموضوع مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد أبدى اللواء عبد الحكيم عامر فى جلسة خاصة مع عبد الناصر تحفظه على هذه الفكرة ، وكان يرى الاكتفاء فقط بزيادة الرسوم التى تحصل عليها مصر من عائد المرور فى القناة ، وأن الاستيلاء على الشركة لا يعد فى صالح مصر نظرا لوجود القوات البريطانية فى منطقة القناة وان مثل هذا القرار قد يدفعها للتدخل فى الأوضاع الداخلية المصرية وإحباط القرار المصرى ، وكانت تجربة مصدق بتأميم البترول الإيرانى ما زالت ماثلة فى الأذهان .
وعندما عرضت هذه الدراسة لم يكن مطلوبا وقتها اتخاذ قرار محدد وإنما كان الهدف هو مجرد عرض الموضوع بصفة خاصة على عبد الحكيم عامر باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة لاستطلاع رأيه فقط من ناحية المبدأ ، ووضعت الدراسة كمثيلاتها فى الخزنة .
ومن جانبها قامت شركة قناة السويس فى عام1954 بإيفاد وفد يمثلها برئاسة محام مصرى بارز هو سابا حبشى لإجراء اتصالات مع الحكومة المصرية حول فرص مد امتياز الشركة بعد عام 1968 ، والتقى الوفد بالسيد بزكريا محيى الدين ثم بالرئيس جمال عبد الناصر لكن لم يتلق ردا شافيا من أى منهما .
فى نفس الوقت وضع اهتمام قيادة الثورة بالتعرف على ما يجرى داخل شركة قناة السويس ، وكان مجلس إدارتها يضم ممثل أو أكثر للحكومة المصرية لم يكن له أى دور فعلى ، لكنها فى إطار التوجه الجديد حرصت الحكومة على تعيين ممثل لها داخل مجلس الإدارة وتم تكليفه بالتعرف على كل ممارسات الشركة من الداخل .
وفى مارس 1956 عندما كان وزير الخارجية البريطانى سلوين لويد يزور القاهرة تطرق الحديث إلى قناة السويس ، وأشار إلى أن بلاده تعتبرها جزءا من مجتمع البترول فى الشرق الأوسط؛ فرد عليه الرئيس جمال عبد الناصر أن الدول العربية تتقاضى 50% من أرباح البترول بينما تتقاضى مصر فقط 5% من أرباح القناة وأن المفروض أن تعامل مصر معاملة الدول المنتجة للبترول .
هكذا يتضح أن قناة السويس لم تكن غائبة عن التفكير السياسى لثورة يوليو ، بل كانت قيادتها مهيأة تماما لاتخاذ إجراء محدد سبق دراسته والتداول بشأنه بصورة موسعة، وكانت المشكلة فقط ترتبط باختيار التوقيت المناسب ، كما أن قوى الغرب وشركة قناة السويس كانت تمعن التفكير فى احتمالات هذه الخطوة وسعت بأساليب شتى للحصول على موقف محدد من الرئيس عبد الناصر بشأنها لكنه لم يشأ أن يقدم هذا الرد صراحة ، وجاء القرار الأمريكى بسحب المساهمة فى تمويل السد العالى ليحدد توقيت التحرك المصرى بمنتهى الدقة .
ففى التاسع عشر من يوليو1956 كنا فى طريق عودتنا من يوغوسلافيا ، وخلال رحلة العودة بالطائرة من بلغراد ـ ولم تكن رسالة أحمد حسين قد وصلت بعد، طلب الرئيس منى الاستماع لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة فوجدت أنها أخبار عادية فطلب الاستماع لمحطة إذاعة آل” BBC ” فى لندن فإذا بها تعلن قرار الولايات المتحدة الأمريكية بسحب عرض المساهمة فى تمويل مشروع السد العالى ، وتضيف أن بريطانيا سوف تصدر بيانا مماثلا بعد قليل ، وقد صدر البيان البريطانى بالفعل بعد ذلك بساعتين .
كان مع الرئيس عبد الناصر على نفس الطائرة فى رحلة العودة رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو مصحوبا بوفد كان مقررا أن يقوم بزيارة رسمية للقاهرة لمدة ثلاثة أيام لاستكمال حواراته مع الرئيس بعد انتهاء الاجتماع الثلاثى فى بريونى .
سلمت الرئيس ورقة بالخبر فقرأها ثم ناولها لنهرو ، وكانت مكتوبة بالعربية فاستفسر عن مضمونها فأبلغه عبد الناصر ، ثم انتقل تاركا له فرصة للتفكير ـ وتحدث مع كل من السادة عبد اللطيف البغدادى ومحمود فوزى وعلى صبرى وهيكل ، وكان رأى عبد الناصر: “أن لدينا بدائل للرد عليهم ، ومصر ليست مفلسة كما يقول دالاس ويمكن بجهودها وبمعاونة أصدقائها أن تبنى السد العالى وسوف تبنيه ، ومع ذلك فليس من المصلحة إعلان رد فعل فورى . ” .
بعد أن وصلنا للقاهرة تحدث الرئيسان نهرو وجمال عبد الناصر واتفقا على عقد جلسة المباحثات الأولى فى الصباح لمناقشة الموقف الجديد بعد أن يكون قد أخذ فرصته للتفكير والتشاور مع معاونيه ، ثم التفت إلى وقال: ” بكرة تصحى بدرى وتجيب المجموعة اللى جهزت دراسات قناة السويس ، كل منهم على حدة ولا تستخدم التليفونات أو وسائل الاتصال العادية وتستنى منى تعليمات” .
كانت هذه المجموعة كما ذكرت تضم مصطفى الحفناوى وأمين أنور الشريف ومحمد على الغتيت وحلمى بهجت بدوى . وفى الصباح طلب الرئيس تجميع كل الدراسات التى سبق إعدادها على أن نجتمع مع على صبرى لوضع التوصيات التى يمكن بحثها إذا ما أجبرنا على اتخاذ إجراءات تتعلق بإدارة قناة السويس، ولم يطرح أيضا هذه المرة كلمة ” تأميم ” .
بدأنا مناقشاتنا ، وتحمس اثنان من الحاضرين هما مصطفى الحفناوى ومحمد على الغتيت لاتخاذ قرار لفرض السيطرة المصرية الكاملة على شركة قناة السويس . وتركنا على صبرى ليلحق باجتماع الرئيس جمال عبد الناصر ونهرو فى قاعة الاجتماعات الكبرى بمبنى مجلس الوزراء، ثم انتقل الرئيسان وحدهما إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، وعاد على صبرى بعد ساعة تقريبا ليقول لنا : ” فيه كلام حول تأميم شركة قناة السويس ، الرئيس أثار الموضوع مع نهر، وإن لم يقله بصراحة بل أشار إلى نوع من أنواع فرض السيطرة المصرية على المرفق . وكان رد نهرو ” أن الدول الصغيرة يجب أن تعطى المثل للدول الكبيرة حتى تمنعها من التمادى فى شئونها وتبرز قدرتها على الرد . . لكن هذا القرار يعنى الحرب . . فهل انتم مستعدون ؟ على العموم نحن تحت أمركم، واعتبرونا معكم فى أى معركة ستواجهها مصر ، وأنه يتوقع أن مصر مقدمة على ظروف صعبة وقاسية سوف تشغل القيادة، وأنه يفضل العودة إلى بلاده حتى يترك الوقت للقيادة المصرية لترتيب أمورها واتخاذ القرار الذى يكفل حقها وكرامتها مع تأكيده على استعداد بلاده لتقديم أى عون تطلبه مصر” . وسافر نهرو فعلا فى ذلك اليوم .
بعد توديع نهرو عاد الرئيس جمال عبدالناصر ليعقد اجتماعا فى مبنى مجلس لوزراء حضره السادة عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وجمال سالم وزكريامحى الدين وحسين الشافعى وصلاح سالم وعلى صبرى ، وطرح الرئيس فى هذا الاجتماع لأول مرة فكرة تأميم قناة السويس، ولقى الاقتراح موافقة جماعية من كل الحاضرين، وقد طرح فى هذا الاجتماع أيضا ترشيح الرئيس جمال عبد الناصر للمهندس صدقى سليمان أو المهندس محمود يونس لتولى تنفيذ هذه المهمة .
بعدها طلبنى وقال : ” ها نؤمم القناة ” . . ووافق على ضم المستشار محمد فهمى السيد مستشار الرئيس للشئون القانونية ومساعده المستشار عمر الشريف لفريق العمل، ووقال :” تقعدوا تتكلموا فى الموضوع، وتقول لهم بصراحة اللى حايطلع كلمة برة سيكون لنا معه حساب جامد قوى وعسير ، وتجهز القرار وتحفظه فى خزنتك لغاية لما أعطيك أوامر جديدة ” .
صعدت إلى مكتبى ودعوت محمد فهمى السيد للانضمام لمداولاتنا، وتناقشنا فى صيغة القرار، وقمت بكتابه الصيغة التى انتهينا إليها بنفسى على الآلة الكاتبة، ثم توجهت لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر فقال لى : ” طيب خليها عندك لغاية لما نتكلم فى الموضوع ، وأكد عليهم ما فيش حد يفتح هذا الموضوع مع أى مخلوق كأن لم يسمعوا ولم يروا . ” .
عدت وأبلغتهم بالتعليمات ، ودار نقاش من جديد حول ما يجب اتخاذه من إجراءات بعد قرار التأميم ، وطلب المجتمعون الالتقاء مع الرئيس لمناقشة الموقف؛ فحدد لهم الساعة السابعة من مساء نفس اليوم على أن يحضروا فرادى ومتفرقين فى الفترة ما بين الساعة الخامسة والساعة السابعة حتى لا يلحظهم أحد .
وخلال الاجتماع مع الرئيس طرحوا الأسئلة التالية :
هل يتم الاستيلاء على شركة قناة السويس بصورة سلمية أو فى إطار تحرك عسكرى ؟
موقف المرشدين وغالبيتهم من الأجانب إنجليز وفرنسيين وألمان ويونانيين كما يوجد عدد محدود من المصريين .
ضرورة التأكد من احتمال وجود خطوط ربط بين إدارة الشركة وبين القيادة العسكرية البريطانية وقاعدتها فى القناة وطبيعة وسائل الربط .
فى ضوء احتمال وقوع عمليات تخريب أو انسحاب للمرشدين ، ما هى البدائل الممكنة لتوفير المرشدين مع المحافظة على أمن العملية ؟
وتعددت الأسئلة وتشعبت المناقشات فقمنا بتقسيم الفريق إلى ثلاثة مجموعات يتولى كل منها اقتراح البدائل المناسبة للإجابة على عدد من الأسئلة وواصلنا عملنا طوال فترة الليل ، واقترح اسما كوديا للعملية هو ـ “فرديناند دى ليسيبس ” ـ وركزت المجموعة عملها على وضع الخطط التفصيلية فى المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية وخطة التحرك شاملة التوقيتات وتوزيع المهام والمسئوليات لكل فرد أو جهاز ، وبناء على أوامر من الرئيس انضم للمجموعة عباس رضوان مدير مكتب عبد الحكيم عامر ليكون مسئولا عن المشاركة فى التخطيط والتنفيذ فيما يتعلق بالنواحى التى ستكلف بها القوات المسلحة وتجهيز الحملة ووسائل الاتصال المرتبطة بتنفيذ العملية .
وخلال المداولات المكثفة أثيرت مسألة جديدة حول ضرورة اختراق الشبكة اللاسلكية لشركة قناة السويس ، فقد كانت هذه الشبكة بعيدة المدى وعلى اتصال مباشر بمقر الشركة الرئيسى فى باريس وبعدد من العواصم الأوروبية ، وتتداول بعض رسائلها وفق شفرة خاصة بها ، وقد وجه عبد الناصر فى مرحلة التحضير إلى ضرورة التقاط جميع الرسائل والإشارات الصادرة عن هذه الشبكة وتجميعها ودراستها وتحليلها لمعرفة حقيقة ما ترسله إلى رئاستها أو إلى الأفرع الأخرى وما يصل إليها من احتياجات وتعليمات سواء من رئاستها أو أية جهة أخرى .
وهنا يجب أن نذكر تفاصيل أمورا تجسد قدرات وذكاء الإنسان المصرى ، فقد ساهم فى التقاط هذه الرسائل اللاسلكية المشفرة وغير المشفرة كل من جهاز المخابرات العامة والمباحث العامة، وتم تشكيل طاقم خاص من ضباط الجهازين كانوا يعملون ليل نهار فى مكتب صلاح الدسوقى أركان حرب وزارة الداخلية فى ذلك الوقت منهم عبد الفتاح رياض وآخرون، وكان يصاحبهم دبلوماسى من وزارة الخارجية المصرية متخصص فى شئون الشفرة والرمز ، وظل هذا الفريق يواصل عمله مستخدما ماكينات فك شفرة حديثة جدا بعضها لم يأت بالنتائج المرجوة ، فاستخدموا عقولهم فى محاولات لكسر هذه الشفرة، وتمكنوا من تحقيق نتائج باهرة بفضل من الله وعرق هؤلاء الضباط .
وفى الحقيقة فقد أفاد النجاح فى هذه العملية فى توفير كمية ضخمة من المعلومات المهمة أمكن الاستفادة بها فى الدراسات التى أعدت بعد إعلان التأميم ، وكان لها دورها فى تحقيق ثلاثة أرباع النجاح لعملية التأميم نفسها . فقد كانت البرقيات المتبادلة تتناول الأوضاع فى مصر بما فيها الموقف العسكرى ، وكان من بينها برقية مختصرة لا تتعدى السطرين أرسلت من رئاسة الشركة فى باريس إلى مركزها فى الإسماعيلية، وذلك عقب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرار التأميم بساعات ، وكان مضمونها هو” أن يتم سحب جميع المرشدين الأجانب من العمل فى قناة السويس فى تاريخ معين”، وكان الهدف بالطبع هو تعطيل المرفق وإظهار الإدارة المصرية بأنها عاجزة عن تأمين انتظام المرور مما يستدعى تدخلا دوليا للمحافظة على انتظام المرفق .
وكانت تعليمات الرئيس جمال عبد الناصر فى ضوء ذلك ( كان ذلك بعد التأميم ) ، تقضى بأن يتم الاتصال الفورى بالدول الصديقة، وطلب مساعدتها بإيفاد مرشدين للعمل فى القناة ، وقد سارعت هذه الدول بالفعل ـ وكان فى مقدمتها اليونان وقبرص ـ بإيفاد الأعداد المطلوبة فى أقل من الأربع والعشرين ساعة من طلبهم ، بل إن بعض المرشدين الإنجليز والأمريكان رفضوا الانسحاب، وطلبوا التطوع لمواصلة عملهم بعد التأميم إلى جانب المرشدين اليونانيين الذين كانوا يعملون فى القناة فى السابق ، ولم تتعرض الملاحة لأى تعطيل( ، وكان هناك بالطبع عدد من المرشدين المصريين أيضا *.
نعود إلى سياق الأحداث ففى يوم 24يوليو1956 استدعى الرئيس جمال عبد الناصر القائمقام مهندس محمود يونس من سلاح المهندسين إلى مكتبه بمبنى رئاسة مجلس الوزراء وأبلغه ـ للمرة الأولى ـ بالنية لإعلان قرار تأميم شركة قناة السويس فى خطابه الذى سيلقيه بالإسكندرية بمناسبة عيد الثورة يوم 26يوليو1956 . وقام عبد الناصر بشرح القضية تفصيلا، وأبلغه بملخص الدراسات التى تمت والإحصائيات والتقديرات والمواقف السياسية والقانونية والدولية التى تعطينا الحق فى تأميم هذه الشركة والتوقعات المبدئية للآثار المنتظرة نتيجة تنفيذ هذا القرار ، وكلفه بمهمة تولى مسئولية تنفيذ ترتيبات الاستيلاء على مكاتب ومنشآت الشركة فى كل من مدن القاهرة والإسماعيلية وبور سعيد والسويس ، والعمل على إدارتها عند إعلان قرار التأميم ، كما طلب منه أن يقوم بوضع تصور لما يراه لتنفيذ المهمة فى سرية تامة حتى لمن سيتقدم بأسمائهم كمعاونين له فى تنفيذ المهمة .
وفى صباح يوم 25يوليو1956 عاد محمود يونس لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر وعرض عليه الخطوط العريضة لخطته ، وأبلغه الرئيس أن كلمة السر هى ” دى ليسيبس ” ، وأن عليه عند سماعه هذه الكلمة أثناء إلقائه لخطابه بالإسكندرية أن يتحرك فورا لتنفيذ مهمته على جميع المحاور ، وطلب منه أن يخرج من مكتبه ليتوجه إلى مكتب سامى شرف بالدور العلوى حيث سيبلغه كافة التفاصيل وباقى التوقيتات الأخرى .
حضر محمود يونس إلى مكتبى واستعرضنا جميع النقاط التى لديه كما أطلعته على كل ما لدى من وثائق ودراسات واتفقنا على ما يلى :
1- عليه أن يقابل الصاغ عباس رضوان مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة فى كوبرى القبة يوم 25يوليو1956 الساعة الثالثة بعد الظهر أو كما نقول سعت1500 من نفس اليوم ، ليرتبا معا القوات والحملة اللازمة وترتيب وسائل اتصال بديلة وكذا إخطار القيادات العسكرية المعنية لبذل كافة أنواع المساعدات التى يقتضيها تنفيذ الخطة علاوة على تعيين ضباط اتصال ليكونوا تحت تصرفه على مدى الأربع والعشرين ساعة .
2- أبلغت مدير المباحث العامة وأركان حرب وزارة الداخلية فى حضوره بأن يكون مفتشو المباحث العامة فى القاهرة والإسماعيلية وبور سعيد والسويس تحت تصرف محمود يونس أو من ينيبه فى جميع ما يطلبه من مساعدات بشرية أو فنية من الآن ولحين صدور أوامر أخرى وذلك لتفادى أى عمليات تخريب أو إخفاء مستندات أو مقاومة من عناصر الشركة الأجانب .
3- أبلغت المخابرات العامة بنفس التعليمات لتبلغ لمكاتبها فى منطقة قناة السويس كما طلبت منهم التنسيق مع المباحث العامة والقيادة العامة للقوات المسلحة .
وقد إختارالمهندس محمود يونس لمعاونته من الفنيين المهندسين عبدالحميد أبو بكر ومشهور أحمد مشهور ومحمد عزت عادل ، ثم عاد ورشح المهندسين فؤاد الطودى ومحسن إدريس للمشاركة فى معاونته ، وتمت الموافقة على طلباته وترشيحاته .
ومن هذه اللحظة فتحت قناة اتصال مباشرة و مؤمنة ومستمرة بين سكرتارية الرئيس للمعلومات والمهندس محمود يونس ، وظلت هذه القناة مفتوحة لعدة سنوات بعد ذلك .
وفى يوم 26يوليو1956 قبل توجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى الإسكندرية لإلقاء خطابه ، اجتمع مع أعضاء مجلس قيادة الثورة فى القطار الخاص الذى أقلهم إلى هناك ، ثم عقد لقاء آخر بعد وصوله للإسكندرية فى استراحة ستانلى مع مجلس الوزراء، وشاركه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة وأبلغهم بالقرار الذى يعتزم إعلانه بتأميم شركة قناة السويس، وقد وافق الجميع على القرار بالإجماع ، ثم توجه لإلقاء خطابه *، واستعرض فيه موضوعات متعددة، وركز على قصة تمويل السد العالى وربط بين يوجين بلاك مدير البنك الدولى وبين دىليسيبس ، وكان الإسم الأخير ـ كما أوضحت ـ هو الاسم الحركى لعملية التأميم، وقد ردده الرئيس جمال عبد الناصر أكثر من مرة حتى يتأكد محمود يونس تماما من البدء فى إجراءاته ، ثم أعلن فى نهاية خطابه قرار تأميم “الشركة العالمية لقناة السويس البحرية “، وأكد على تعويض حملة الأسهم عما يملكونه من حصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق عن تاريخ إعلان القرار فى بورصة الأوراق المالية فى باريس ، وأن يتم دفع التعويضات بعد إتمام استلام الدولة لجميع ممتلكات الشركة المؤممة (.
وأحدث القرار دويا هائلا فى العالم ، وتحركت مظاهرات التأييد والمساندة فى مصر والعالم العربى وبعض دول العالم الثالث ، وبدأت الأجهزة والمؤسسات تنسق جهودها بقليل من الحذر بعد كسر حاجز السرية.
تلقى إيدن الخبر أثناء حفل عشاء كان يقيمه لتكريم الملك فيصل الثانى ملك العراق ورئيس وزرائه نورى السعيد ـ فنزل الخبر عليه كالصاعقة ، فبرغم أن كل المخططين البريطانيين كانوا يتحسبون لهذه الخطوة منذ وقت طويل إلا أن رئيس الوزراء البريطانى لم يتصور أن يكون رد فعل الرئيس جمال عبد الناصر على سحب تمويل السد العالى بهذه الجرأة وبهذه السرعة؛ فأنهى العشاء على الفور، ونقل الخبر إلى ضيوفه وتباروا جميعا فى توجيه الأوصاف لجمال عبد الناصر *.
وانتقل إيدن إلى قاعة مجلس الوزراء ومعه بعض وزرائه ، كما استدعى رؤساء أركان حرب القوات البريطانية والسفير الفرنسى والقائم بالأعمال الأمريكى فى لندن وعبر عن الموقف فى البداية بقوله :” لقد وضع المصرى إبهامه على قصبتنا الهوائية . وأخذ يحذر من الإدارة المصرية للقناة، وأنها سترفع رسوم المرور ، وأن أوروبا هى التى سوف تعانى من هذا القرار، وطالب بضرورة التحرك الفورى للاستيلاء على القناة وعدم السماح لناصر بالفوز بغنيمته .
وأوضح مجموعة المستشارين القانونيين والدوليين الذين انضموا للمجموعة وكان يشاركهم الدكتور حامد سلطان والدكتور مصطفى كامل -أستاذ القانون بكلية الحقوق- وسفير مصر فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك وآخرين أن قرار التأميم لا يشكل خرقا لاتفاقية القسطنطينية الموقعة سنة 1888 والعبرة بانتظام الحركة فى القناة
وعلى مسرح الأحداث فى مصر كان الرئيس جمال عبد الناصر ـ قبل صدور قرار التأميم ـ قد اجتمع مع على صبرى ثم استدعانى وبعدها استدعى كمال رفعت فكمال الحناوى كل على حدة ، وأعطى كل منا تكليفا واحدا هو القيام بعمل تقدير للموقف حول ما يمكن أن يترتب على قرار التأميم وما هى الاحتمالات المتوقعة ، وطلب أن يقدم كل منا تقديره منفصلا دون التنسيق مع الآخر فيما عدا سامى شرف وكمال الحناوى فقد أعدا تقريرا موحدا باعتبار أن سكرتارية المعلومات والسكرتارية الصحفية يعملان فى مكتب واحد .
كما تشاور جمال عبد الناصر مع كل من السادة عبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين وعدد محدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، لكنه لم يأخذ رأى عبد الحكيم عامر بسبب سابق اعتراضه على مبدأ التأميم ، ولكنه أثار الموضوع أثناء سفره بالقطار إلى الإسكندرية مع أعضاء مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء حيث أبلغ عامر بالقرار وكان رده : ” على خيرة الله يا ريس ” ، وسكت ولم يعقب بكلمة وإن بدا على وجهه علامات الاستياء .
– تم إعداد أربع تقديرات للموقف وبصور مختلفة ومنفردة:
أعد التقدير الأول الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان يقع فى حوالى ست صفحات، وثلاث تقديرات أخرى أعدها كل من على صبرى وكمال رفعت ثم سامى شرف وكمال الحناوى. والتقت التقديرات فى نتائجها واستنتاجاتها باستثناء نقطة واحدة تتعلق باحتمالات التدخل العسكرى ضد مصر وتوقيته حيث :
كان تقدير الرئيس أنه يستنتج أنه إذا لم يقع العدوان بعد التأميم مباشرة فإن احتمالاته ستضعف مع مرور الزمن والوقت وبنى استنتاجه على معلومة تقول أن القوة البريطانية المحمولة جوا ( قوة الانتشار السريع ) موجودة فى أجازة فى بريطانيا خلال شهرى يوليو وأغسطس، ويصعب تعبئتها خلال هذه الفترة ، وأن القواعد البريطانية فى قبرص وعدن غير مهيأة للتحرك قبل مضى شهرين بعد تاريخ التأميم ، وأن هذين الشهرين كافيان لإفشال أى عمل عسكرى لو تم .*
– كانت تقديرات كل من على صبرى وسامى شرف وكمال الحناوى تتوقع العدوان من جانب إسرائيل ، وكنا نستبعد فى تلك الفترة ـ على ضوء المعلومات المتوفرة ـ احتمال التآمر الثلاثى أو اشتراك قوة أجنبية فى العدوان .
– ترك تقدير كمال رفعت الباب مفتوحا بشان احتمالات التدخل العسكرى الأجنبى إلى حين وصول المعلومات التى طلبها الرئيس من قبرص عن حجم القوات البريطانية ودرجةإستعدادها وأوضاعها فى أعقاب قرار التأميم وهو ما نسميه فى العلوم العسكرية ،” order Battle”، وقد بعثنا لأصدقائنا القبارصة برسالة عاجلة ليوافونا بهذا الاحتياج عن طريق أصدقاء مشتركين كانوا معتمدين بين عبد الناصر والأسقف مكاريوس وعلى رأسهم ” لاساريدس ” .
والثابت أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يثبت عند تقدير موقف جامد، فمع توالى الأحداث واستمرار تدفق المعلومات كان نطاق الرؤية يتسع باستمرار ويعاد التقييم والتقدير من وقت لآخر لدرجة انه فى بعض الأحيان كان تقدير الموقف يعدل فى اليوم الواحد مرتين ، لكن قناعة عبد الناصر أن القرار لن يمر بالساهل ولابد أن يولد ردود أفعال قوية من جانب الأطراف صاحبة المصلحة، ويقصد بريطانيا وفرنسا نظرا لتاريخهما الاستعمارى فى المنطقة وتشعب مصالحهما الاقتصادية والسياسية فى قناة السويس ، وعملا على قياس ردود الفعل الدولية بدقة؛ بدأ عبد الناصر يوجه احتياجات عديدة إلى المخابرات الحربية والمخابرات العامة، وإلى السفارات المصرية فى الخارج خاصة فى باريس ولندن وغيرها، والأجهزة الفنية بمتابعة الموقف فى الداخل أيضا .
وبدأ تدفق المعلومات يتزايد وتتضح منه أبعاد الصورة تدريجيا ومن ثم تختلف تقديرات الموقف وتتجه إلى تلمس خطوط أكثر تحديدا ، وعلى سبيل المثال كان التقدير فى أول أغسطس1956 مختلف عن ذلك الذى أعد فى يوم 27يوليو1956 فى قياس أبعاد رد الفعل ووفقا لما أعلن من مواقف .
ففى 27يوليوإكتفت إنجلترا وفرنسا بإعلان إحتجاجهماعلى قرار التأميم ، وفى 28يوليو تم تجميد أرصدة مصر فى بنوك الدولتين مما أعطى مؤشرا لمنحنى التصرف، أما فى 30يوليو فقد شكلت الدولتين قيادة عسكرية مشتركة مما جعل من التحرك العسكرى احتمالا مرجحا ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يتعامل مع هذه التطورات بجدية بالغة ولم يأخذها ببساطة أو بتهوين .
فقد كان بعض السفراء يقدرون أن تشكيل قيادة عسكرية مشتركة يعد فقط استعراض للقوة ، لكن عبد الناصر كان يميل إلى الأخذ بالاحتمال الأسوأ وعدم الاستهانة بهذا الإجراء . . .
فى 30 يوليو أيضا صدر قرار الحكومتين فى إنجلترا وفرنسا بتجميد أرصدة مصر المالية فى بنوكها وفى أول أغسطس أصدرت الدولتان بيانا مشتركا طالب بوضع قناة السويس تحت إشراف دولى ، كما طرح أيضا فكرة عقد مؤتمر فى لندن لبحث القضية فى 16 أغسطس1956 .
وقد عقد المؤتمر بناء على دعوة من الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى وضع ترتيبات عملية فى إطار النظام الدولى لضمان استمرار سير العمل فى القناة وفقا لما حددته معاهدة القسطنطينية ، ودعى لهذا المؤتمر 24دولة هم أطراف المعاهدة المذكورة والدول الأكثر استعمالا للقناة ، وقد حضرته 19 دولة فقط ورفضت مصر المشاركة ، وتولى المندوب الهندى كريشنا مينون عرض وجهة نظر مصر بناء على اتفاق سابق بين القاهرة ودلهى ، بينما سافر على صبرى لمتابعة التطورات من خلال سفارتنا فى لندن .
وشهد المؤتمر خلافا حادا منذ بدايته ، فقد كان الهدف الأساسى لبريطانيا وفرنسا هو إجهاض النتائج السياسية لقرار التأميم، وفى سبيل ذلك كان إصرارهما على إنشاء هيئة دولية أو سلطة دولية تعمل على ضمان حرية الملاحة ، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد تركز اهتمامها على معالجة المشاكل القانونية والفنية المترتبة على قرار التأميم .
وفى 22أغسطس انتهى مؤتمر لندن بالموافقة على إرسال بعثة للقاهرة برئاسة روبرت منزيس رئيس وزراء استراليا وسميت ” بعثة منزيس “، وكان الهدف منها هو إقناع جمال عبد الناصر بتسليم قناة السويس إلى شركة جديدة خماسية الإدارة تؤول إليها الحقوق والامتيازات الأساسية للشركة السابقة المؤممة .
وعندما اختار مؤتمر لندن منزيس ليرأس لجنة للتباحث مع مصر كان اختياره مبنيا على كونه ضخم الجثة يتسم بالجرأة والميل إلى التطاول والخروج عن اللياقة فى الحديث وقيل أن إيدن كلفه ( بتهويش ) جمال عبد الناصر .
وبناء على هذه المعلومات طلب الرئيس إبلاغ رسالة إلى السفارة البريطانية فى القاهرة ـ من خلال القنوات الخلفية، وكان يتولى الاتصال بها فى هذه المرحلة محمد حسنين هيكل وصلاح الدسوقى ـ تحذر من أنه إذا تفوه منزيس بكلمة واحدة خارجة أو لجأ لاستعراض عضلاته فسوف يتم طرده على الفور .
ووصل منزيس بالفعل وعندما دخل إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر وكنا جميعا وقوفا فى مدخل مبنى مجلس الوزراء فى شارع القصر العينى وداخل مكتب الرئيس ، وعندما جلس منزيس بدأ ضاحكا ، ففهم عبد الناصر أن الرسالة قد وصلته حيث المفروض أن يجلس متجهما ويكشر عن أنيابه تنفيذا لوصية إيدن .
بدا منزيس يتحاور مع عبد الناصر فى جوانب لا صلة لها بالمهمة المكلف بها على سبيل التهدئة ، وعندما بدأ يتكلم فى الموضوع طلب معرفة وجهة نظر عبد الناصر لكن الرئيس أبلغه أنه يجب أن يسمعه أولا لكى يعرف النوايا وطبيعة المسائل التى يرغب فى إثارتها ، وبعد أن تركه يتكلم حيث بدأ فى عرض قرارات مؤتمر لندن التى تطالب بالعودة عن قرار التأميم وقبول الإشراف الدولى وألا تنفرد مصر بإدارة قناة السويس ، قاطعه الرئيس قائلا :
” أنت الآن فى أرض مصرية وده مرفق مصرى ، ودى إدارة مصرية ، وستظل مصرية ، ولن نحيد عنها ولن نغير القرار ” .
وانتهت مهمة منزيس بهذا الشكل ، وحسبما عرفنا من القناة الخلفية أن منزيس تأثر بشخصية الرئيس جمال عبد الناصر ، ولكنه قال ” أنه لا يستطيع أن ينقل انطباعه للحكومة البريطانية ” *.
بدأت بعد ذلك عملية الاستقالات من جانب المرشدين الأجانب من شركة قناة السويس وكان البديل جاهزا ، ففى يوم 10سبتمبر1956 تم تعيين 46 مرشدا منهم 28 أجنبيا من جنسيات مختلفة لكن أغلبهم كانوا من اليونانيين والقبارصة واليوغوسلاف والباقى مصريين .
على أثر فشل بعثة منزيس قررت الحكومة البريطانية عرض مشروع على الأمم المتحدة يدعو مصر للتفاوض على أساس مقترحات مؤتمر لندن الأول ، ووافقت فرنسا على مسودة المشروع ، لكن الولايات المتحدة الأمريكية عارضت المشروع وتقرر تأجيل عرضه عل مجلس الأمن .
فى 11سبتمبر 1956 اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية الدعوة إلى عقد مؤتمر جديد لبحث نظم وأساليب عمل ” ناد ” للمنتفعين ، وفى 13سبتمبر 1956 أعلن أنتونى إيدن فى مجلس العموم البريطانى أن الحكومة البريطانية بالاتفاق مع حكومتى الولايات المتحدة وفرنسا قد قررت إنشاء هيئة مؤقتة للمنتفعين بقناة السويس ، وفى اليوم التالى أعلنت الخارجية البريطانية الدعوة لعقد مؤتمر ثان فى لندن اعتبارا من 19سبتمبر1956 لبحث إنشاء الهيئة المقترحة . وردت مصر على هذا الإجراء فى رسالة سلمها السفير أحمد حسين لوزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس تؤكد فيها مصر بأن تنفيذ هذه الخطة معناه الحرب . بينما أعلن الاتحاد السوفيتى بأنه سوف يستخدم حق الفيتو ضد أية محاولة تهدف إلى دفع الأمم المتحدة للقيام بعمل ضد مصر .
وعقد المؤتمر الثانى فى لندن فى الفترة من 19ـ 21سبتمبر1956 بحضور 18 دولة، أيدت مقترحات مؤتمر لندن الأول ، واقترح دالاس إنشاء هيئة للمنتفعين بالقناة مع إنشاء إدارة مصغرة بالتعاون مع السلطات المصرية لإدارة القناة ، وطالب بوضع بدائل طويلة الأمد للقناة مثل بناء ناقلات ضخمة ، والمرور عبر رأس الرجاء الصالح ومد خطوط لأنابيب البترول ، واقترح أيضا إنشاء صندوق مؤقت للهيئة يتم تمويله من الرسوم المحصلة لحين التوصل إلى تسوية دائمة ، وقد وافق المؤتمر على المقترحات الأمريكية .
وفشلت هذه الجهود بدورها فى إثناء مصر عن موقفها وبدأت القضية تأخذ مسارا جديدا بإستخدام الأمم المتحدة .
كانت ساحة المعركة كبيرة وشاسعة ووقف أصدقاء مصر بشجاعة إلى جانبها فى كل المحافل الدولية والإقليمية ، ولكن القيادة فى مصر حرصت أيضا على ترتيب المسرح السياسى والعسكرى العربى لتقوية الموقف العربى ، وكما قلت فإن تقدير وقوع العدوان المسلح كان يتزايد من وقت لآخر وفقا لتطور الأحداث .
وعندما صدر بيان إنشاء القيادة العسكرية المشتركة بين بريطانيا وفرنسا فى الأول من أغسطس1956 جرت اتصالات بين مصر وسوريا لبلورة تنسيق عسكرى ـ وكانت الأخبار قد بدأت تتوارد عن نشاط إسرائيل فى فرنسا ـ وقد خلصت هذه الاتصالات إلى توقيع اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين ـ مصر وسوريا ـ وإنشاء قيادة عسكرية موحدة ، وكان السوريون يطالبون فى البداية بتعيين قائد سورى على رأس هذه القيادة ، ولكن بعد مناقشات وباعتبار أن مسرح العمليات الأساسى سيكون فى الأراضى المصرية قبلوا بتعيين قائد مصرى يكون قادرا على فرض نظام للتحكم والسيطرة على مسرح العمليات .
وكان النظام فى سوريا برئاسة الرئيس شكرى القوتلى يقوم على مشاركة جميع الأحزاب ، ففيها الشيوعى وممثلى الإقطاع والرأسماليين والموالين للسعودية أو لحلف بغداد ، وكل منهم يسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب لنفسه ولحزبه ، وكانت قيادة الأركان العسكرية السورية تضم فى أغلبها عناصر قومية ويرأس المكتب الثانى ( المخابرات ) عبد الحميد السراج، وكان من أكثر العناصر وطنية وإخلاصا للعروبة إلى جانب مجموعة من العناصر المشهود لها بالكفاءة والوطنية منهم أكرم ديرى مدير العمليات وطعمة العودةالله قائد الجبهة الجنوبية وجاسم علوان وجادو عزالدين الذى كان مسئولا عن الجولان وأحمد حنيدى وآخرين .
فى16من شهر يوليو1956 وكان يوافق الثامن من ذى الحجة1375 كنت عضوا فى وفد برياسة عبد الحكيم عامر لزيارة المملكة العربية السعودية، وتم الاجتماع بكل من الملك سعود والأمير فيصل بن عبد العزيز ـ الملك فيما بعد ـ والأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران ، وكان محور الحديث هو احتمالات تعرض مصر للعدوان، وطلب موافقة المملكة العربية السعودية على انتشار الطيران المصرى والهبوط فى الأراضى السعودية إذا ما وقع العدوان ، وقد وافق الجانب السعودى، وعرض تقديم نفس التسهيلات للقوات البحرية أيضا مع تأكيد استعدادهم لتلبية أية احتياجات أخرى تطلبها مصر ، وأذكر أن الأمير سلطان كان من اكثر المتحمسين لدعم الموقف المصرى دون أية تحفظات، وترك بحث التفاصيل الفنية للخبراء العسكريين المرافقين وبعد انتهاء المباحثات دعانا الأمير فيصل بن عبد العزيز لتناول طعام العشاء فى قصره بوسط المدينة فى جدة ، وكان اللقاء وديا وأخويا للغاية . وقد قمنا بأداء العمرة فى تلك الليلة وتمنيت أن أبقى لأداء فريضة الحج التى كانت قد بدأت شعائرها فى ذلك اليوم ، إلا أن التطورات حتمت ضرورة عودتنا فى فجر ذلك اليوم إلى القاهرة لتنفيذ ما أتفق عليه فى جدة، ولإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر بتفاصيل المباحثات التى تمت مع الجانب السعودى .
فى نفس الوقت حرصت مصر على تأكيد حسن نواياها واستعدادها للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع ، لكن الأطراف الأخرى كانت تعمل على تصعيد الموقف باستمرار . ففى25سبتمبر1956 قدم مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة رسالة إلى مجلس الأمن يطلب فيها عقد اجتماع لبحث الأعمال التى تدبرها ضد مصر قوى دولية وخاصة بريطانيا وفرنسا ، وتقدمت الدولتان من جانبهما يوم 30سبتمبر1956 بمشروع قرار لمجلس الأمن حول الأزمة ، واعترض الاتحاد السوفيتى ودول عدم الانحياز ، وبعد مناقشات عسيرة فى الفترة من 5أكتوبر وحتى 13 منه تم إصدار قرار من ستة نقاط يطالب بحرية الملاحة فى قناة السويس واحترام السيادة المصرية وعزل القناة عن سياسة أى دولة ـ والنص على أسلوب تحديد الرسوم وتخصيص نصيب عادل لتطوير القناة واللجوء للتحكيم فى المنازعات التى تنشأ فى المستقبل .
وتقدم الرئيس جمال عبد الناصر بخطوة أخرى للأمام استهدفت اختبار المواقف وتفادى الضغوط الدولية على الصعيدين الإقتصادى والسياسى ، فاتصل بالدكتور محمود فوزى أثناء تواجده فى نيويورك وأبلغه بقبول تشكيل مجموعة استشارية دولية ـ وهو الاقتراح الذى عرضته الهند ـ لتعمل بالتشاور مع الهيئة المصرية المؤممة .
والملحق الوثائقى يتضمن وثيقة بخط يد الرئيس جمال عبد الناصر تشمل ملاحظات وتوجيهات للدكتور محمود فوزى وزير الخارجية حول المشروع الهندى وكيفية إدارة الأزمة فى الأمم المتحدة نصها :
” مجلس قيادة الثورة
مكتب الرئيس
كنتيجة للمؤتمر ـ تقوية لموقف مصر تصر على سيادتها
الحجج بالنسبة للتأميم :
عدم إمكان إدارة القنال بدون شركة القنال هذه الحجج هزمت.
لجنة الخمسة معناها إهمال اقتراح الهند.
من الضرورى إعلان موقف مصر بالنسبة للمسائل الرئيسية لمشكلة القنال .
من ناحية يجب أن يقال تأكيد أن مصر تدافع عن سياسة مصر إلى النهاية .
حقوق مصر فى قنال السويس .
حق مصر فى مباشرة إدارة القنال .
هذا ضرورى حتى لا يشك أى إنسان أن مصر ستكون مصرة على إدارة القنال إدارة مصرية .
يجب اعتبار أنه من الضرورى بطريقة الإقناع تأكيد أن مصر تصمم على مبادئ حرية الملاحة فى القنال ومصالح المستعملين الأجانب للقنال ومستعدة لمقابلة الاقتراحات التى تهدف إلى إقامة تعاون دولى .
Ready to accept the proposals which have aim for such form of international cop which will guarantee the freedom of navigation on the canal for the ships of all nations, it would help to quiet those circles in different
دول المهتمة بتأمين حرية الملاحة وفى نفس الوقت فإنها تخيف الذين لا يريدون إقامة صراع حقيقى بالنسبة لقنال السويس
يمكن أيضا أخذ اقتراح الهند فى الاعتبار ، والاقتراحات الأخرى التى يمكن أن تقبلها مصر فى مؤتمر لندن .
فى نفس الوقت يمكن إظهار على أى أسس وكيف تسير مصر القنال خاصة لاعتبار إمكان الآتى :
موقف مصر بالنسبة لحرية الملاحة نستخدم النقط الرئيسية 1888 إعادة تأكيدات مصر فى 5أغسطس.
بيان موافقة مصر على إقامة هيئة استشارية مكونة من ممثلى الدول المهتمة بالملاحة موافقة مصر على إقامة.
Definite forms or inter cop in regard of changing the rate tech assistance to forces some form of comn.of Egypt, cop with the UN In order to define phase who are for inter of canal from these arguments
إن مصر مستعدة لاستخدام القنال كسلاح سياسى كعمل مضاد لهذا القول يمكن إعلان المبادئ الأساسية لإدارة القنال من جهة مصر لهذا فإن الحكومة المصرية أقامت هيئة القنال التى لن يكون لها أى عمل سياسى فى نفس الوقت يكون صحيحا إذا قامت حملة كبيرة فى الدول الغربية وآسيا من أجل القرار الهندى .
مصر تستخدم نفوذها فى إندونيسيا وسيلان وبورما والدول العربية فى الشرق الأوسط من أجل أن تؤيد الدول المشروع الهندى ، وفى نفس الوقت يمكن وصف الشركة كمستقلة قانونيا هيئة اعتبارية.
هذه الهيئة ستحافظ على عمل القنال على أساس احترام شديد لمبادئ حرية الملاحة .. المساواة الكاملة لسفن جميع العالم بدون أى تمييز .
روسيا ليس عندها شك .. إذا كانت مصر تتقبل مع الدول الشيوعية ستؤيد المشروع الهندى.
يلاحظ فى ذلك أن التكتيك يكون أحسن إذا كانت الدول العربية والآسيوية أولا
كل هذا سينزع السلاح من أيدى الإنجليز والفرنسيين والأمريكان . خصوصا ما يقولونه أن من جانبهم 18 دولة وعلى الجانب الآخر 4 وسيكون لمصر تأييد عام ”
( انتهى نص الجزء المتاح من هذه الوثيقة )
وجاء فى وثيقة أخرى ما نصه :
” الرئيس
ـ نشر تحريض الشركة للمرشدين والتعقيب عليه.
ـ تفنيد مشروع دالاس فى الصحف.
ـ مهاجمة الإجراءات التعسفية التى اتخذتها إنجلترا بتجميد الأرصدة الموجودة فى لندن لا تتمشى مع تصرفات بنك مركزى وله الثقة المالية فى الدعوة إلى تكوين المدفوعات بين الدول الإفريقية الآسيوية “.
( انتهى نص الوثيقة )
وفى 15أكتوبر1956 وجه الدكتور محمود فوزى رسالة إلى رئيس مجلس الأمن يعلن فيها قبول الحكومة المصرية لاتخاذ المبادئ الستة التى تضمنها قرار المجلس فى 13أكتوبر أساسا للتفاوض حول القناة ، كما أبلغ السكرتير العام للأمم المتحدة فى 20أكتوبر إستعداد مصر لبحث إنشاء هيئة دولية للإشراف على القناة . وتم إبلاغ هذه المقترحات لوزيرى خارجية فرنسا وبريطانيا خلال اجتماعهما مع داج همرشولد والذى حضره أيضا وزير الخارجية محمود فوزى ، ورغم توصل الاجتماع إلى عقد لقاء ثان يوم 29أكتوبر1956 لبحث التفصيلات إلا أن وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا عادا من جديد ليؤكدا إصرارهما فى مناقشات مجلس الأمن على عرض مطالب لا يمكن لمصر قبولها .
وقد وضح أن العملية كلها تسير فى طريق التسويف وكسب الوقت ، فقد كانت كل المؤشرات تؤكد أن العدوان المسلح أصبح وشيكا ، وأن الجهود السياسية لا تعدو أن تكون مناورات ومحاولات للخداع والتمويه .
ـ 7 ـ
العدوان الثلاثى
المؤامرة الكبرى
تكاثرت نذر الحرب وبدا جليا أن كلا من بريطانيا وفرنسا تعملان فقط على كسب الوقت، ومن ثم أصبحت احتمالات الصدام العسكرى تفوق بكثير فرص التسوية السلمية وبخاصة بعد الموقف الذى أظهره مندوبا الدولتين فى مجلس الأمن وحرصهما على تعويق أى محاولة للخروج من المأزق ونزع فتيل الأزمة .
فى الثامن والعشرين من أكتوبر1956 ـ أى قبل وقوع العدوان بيوم واحد ـ وردت معلومات مؤكدة عن اعتزام إسرائيل شن هجوم عسكرى على مصر، وقد تجمعت هذه المعلومات من عدة مصادر على النحو التالى :
السفير عبد الحميد غالب سفير مصر فى بيروت .
القائمقام ثروت عكاشة الملحق العسكرى المصرى فى باريس .
القائمقام طيار مصطفى مرتجى الملحق العسكرى المصرى فى روما .
البكباشى زكريا العادلى إمام الملحق العسكرى المصرى فى تركيا .
القائمقام إسماعيل صادق والصاغ محمد المصرى ( مساعدى فيما بعد للشئون العربية ) الملحقين العسكريين فى ليبيا .
منظمة ” أيوكا ” (حركة التحرر الوطنى فى قبرص ) بتعليمات من الأسقف مكاريوس شخصيا .
المجموعة 88 من جهاز المخابرات العامة المصرية وكان يرأسها فى ذلك الوقت كمال رفعت .
المجموعة33 من جهاز المخابرات العامة المصرية .
مجموعة الخدمة السرية من جهاز المخابرات العامة المصرية .
المكتب الثانى السورى .
المكتب الثانى اللبنانى .
قرر الرئيس عبد الناصر إبلاغ هذه المعلومات للقيادة العسكرية ، كما وجه احتياجات للمخابرات الحربية لمعرفة أحدث أوضاع للقوات المسلحة الإسرائيلية، وهل هناك حشود على الجبهة المصرية أو أية تحركات عسكرية ملفتة ، وكان رد المخابرات الحربية يؤكد أن الوضع عادى ، ولا يتضمن أية مؤشرات بالهجوم ، وفى الحقيقة كانت وسائل الاستطلاع المتاحة فى تلك الفترة ضعيفة وقاصرة ، وترتكز فقط على العنصر البشرى والأساليب اليدوية باستخدام المندوبين والعملاء .
ولم تكن المخابرات العامة قد تمكنت بعد من توفير مصادر جيدة فى داخل إسرائيل باستثناء مصدر واحد رئيسى هو رفعت الجمال ( رأفت الهجان ) ، وكان ما زال فى دور الإعداد ومرحلة التعرف على المجتمع الإسرائيلى ، ولم يثبت أقدامه بعد فى الميدان ، بينما كان أحد ضباط المخابرات العامة وهو إبراهيم بغدادى ( من الضبط الأحرار والمحافظ فيما بعد ) قد استخدم صحفيا مصريا يدعى إبراهيم عزت من مجلة روزاليوسف تمكن من إدخاله إلى إسرائيل فى عملية مخابراتية بغرض الحصول على المعلومات ، ولم يستطع إبراهيم عزت العودة إلا بعد انتهاء العدوان الثلاثى وعن طريق باريس . وبالمناسبة تشير بعض الكتابات إلى أن هذه العملية كانت أول اتصال أو تطبيع مع إسرائيل ، وهو ما يخالف الحقيقة حيث أن عملية إبراهيم عزت كما قلت استهدفت فقط الحصول على المعلومات لصالح المخابرات العامة، وبتكليف واضح منها، ولم يكن لها أى بعد سياسى ولا تستند إلى قرار رئاسى حتى من رئاسة الجهاز نفسه !.
وكان جمال عبد الناصر يتبنى نظرية يقوم بتدريسها فى كلية أركان حرب تعتبر أن غزة هى المدخل السهل والمباشر لأى عمل عسكرى من جانب إسرائيل ، ومع اقتراب وتجمع مؤشرات العدوان حذر عبد الناصر من الهجوم على غزة وطالب بتأمينها وأعتبر أن اختراقها يعد مسألة حياة أو موت للقوات المصرية ، كما وجه إنذارا للقوات الجوية بتنفيذ خطة الانتشار فى حالة ثبوت التفوق الجوى الإسرائيلى وذلك بالتوجه للسعودية تنفيذا للاتفاقيات السابقة مع المسئولين فيها ، أو إلى بعض مطارات جنوب الوادى ، وبما أن مطارات جنوب الوادى لم تكن مهيأة إلا لاستقبال الطائرات الصغيرة فقد كان الانتشار الأساسى يجب أن يكون فى الأراضى السعودية، لكن هذا الإجراء لم يتخذ للأسف ! .
وسوف أعود لهذه النقطة مرة أخرى .
صباح يوم 29أكتوبر 1956 أصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهات بانتشار جميع الأجهزة الحساسة والسيادية لتحتل أماكن تبادلية وعدم التجمع فى مكان واحد ، وقد جرى بالفعل توزيعها على أكثر من موقع؛ فانتقلت القيادة العامة للقوات المسلحة إلى مبنى تبادلى فى حديقة الزهرية بالزمالك أمام نادى ضباط الشرطة ، وانتقل مكتب الرئيس للشئون السياسية وسكرتارية المعلومات إلى المبنى الجديد الذى تشغله حاليا وزارة الحكم المحلى، وهو مبنى تم تجهيزه ضد الزلازل وضد القنابل الثقيلة كما يتوفر فيه ملاجئ وخزائن حديدية تحت الأرض وكان مقرا مناسبا تماما .
أما مقر مجلس قيادة الثورة فقد كان مقرا تبادليا للقيادة السياسية رغم اعتراض زكريا محى الدين وعلى صبرى وسامى شرف حيث كانت وجهة نظرنا أنه هدفا مكشوفا واضحا ، ولكن عبد الناصر أعرب عن تفاؤله و اعتزازه بهذا المبنى وأنه يعتبره حافزا لدفع المعنويات، وأنه قد شهد صدور القرارات المهمة الكبرى فى تاريخ مصر الثورة ، وقد تم تركيب شبكة اتصالات كاملة وتبادليات بين هذه المواقع وبعضها .
فى نفس اليوم 29أكتوبر1956 وقعت أول غارة بالهجوم على غزة كما حذر الرئيس جمال عبدالناصر، والذى كان وقتها هو فى منشية البكرى فى اجتماع مع مبعوث إندونيسى لتسليمه رسالة من سوكارنو .
كان الاتفاق السرى إنجليزى / فرنسى / إسرائيلى ـ كما تكشف ذلك فيما بعد ـ قد تم فى “سيفر”* ورقتين وقعهما ديفيد بن جوريون عن إسرائيل وكريستيان بينو عن فرنسا وباتريك دين عن بريطانيا؛ وينص الإتفاق على أن تقوم إسرائيل ببدء الحرب مساء يوم 29أكتنوبر1956 وان تتدخل بريطانيا وفرنسا للفصل بين المتحاربين والسيطرة على قناة السويس .
وقد استهدف التدخل الإسرائيلى فى العملية تحقيق ما يلى :
تحطيم القدرة العسكرية المصرية .
إجبار المصريين على إدراك أن إسرائيل لا تقهر .
القضاء على الفدائيين المصريين بتدمير قواعدهم فى سيناء وغزة .
إجبار مصر على قبول مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس ومضيق تيران .
تعديل رفض مصر المستمر للجهود الإسرائيلية من أجل التسوية السلمية بينهما .
فى مساء يوم 29أكتوبر1956 صدرت التعليمات بتنفيذ خطة الحرب ، وبدأ الهجوم على غزة فتم اجتياحها، كما احتلت القوات الإسرائيلية ثلاث مواقع فى الكونتلا ورأس النقب ونخل ، ولم يتوفر حتى اليوم معلومات دقيقة عن حقيقة ما حدث فى هذا الهجوم، بل وقد لوحظ اختفاء يوميات الحرب المتعلقة بهذا اليوم حسب علمى .
وفى يوم 30أكتوبر1956 تعرض مطار ألماظة الحربى لهجوم جوى ، ورفض عبد الناصر انتقال عائلته إلى منزل بديل فى الزمالك كان تابعا للمخابرات أو إلى منزل آخر فى المرج ، واخذ هو يتنقل ما بين مبنى مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة بالجزيرة، ومبنى القيادة العامة للقوات المسلحة فى حديقة الزهرية ، وفى الأخير اطلع على الموقف وسير العمليات الحربية ، كما تم ترتيب إقامة شبه دائمة له فى مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة وتولى إدارة الأزمة من هناك مكتفيا بالتواجد فى مجلس الوزراء خلال اللقاءات الرسمية فقط .
فى مجلس الثورة تم تخصيص أول غرفة فى الدور الثانى للرئيس وهى تطل على النيل وعلى فندق شيراتون الجزيرة الحالى ، وغرفة ثانية خصصت كصالون ومكتب وغرفة تابعة لمحمد أحمد السكرتير الخاص، أما الغرفتين الرابعة والخامسة فكانتا لأعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين كانوا يتواجدون فى المبنى ، ويضاف إلى ذلك غرفتى نوم كان الرئيس يقضى فترة الراحة بعد الظهر فى إحداهما، وكان الجناح المقابل والذى يطل على الشارع فكانت تشغله العيادة والأرشيف وضباط الحراسة، وبعض المكاتب الاحتياطية لسكرتارية المعلومات والسكرتارية الصحفية، وسكرتارية أعضاء مجلس قيادة الثورة عند اللزوم .
فى صباح 30أكتوبر1956 عقد اجتماع فى لندن ضم كل من رئيس وزراء بريطانيا أنتونى إيدن ووزير خارجيته سيلوين لويد ورئيس وزراء فرنسا جى موليه ووزير خارجيته كريستيان بينو تمهيدا لتوجيه الإنذار وفق الخطة المرسومة ، وفى نفس الوقت بدأت إسرائيل فى إسقاط بعض وحدات المظلات فى منطقة المضايق فى سيناء مما دعى إلى عقد اجتماع برئاسة جمال عبد الناصر فى القيادة العامة للقوات المسلحة شارك فيه قادة الأسلحة البرية والجوية والبحرية، وكان من رأى الرئيس استخدام القوات الجوية المصرية لوقف تقدم العدو فى سيناء ، ولكنه فوجئ بارتباك قائد القوات الجوية الذى أشار إلى وجود صعوبات تحول دون تنفيذ هذه الخطة بسبب نقص الوقود فى مطار غرب القاهرة الذى يمثل القاعدة الجوية الرئيسية فى ذلك الوقت .
فى ظهر نفس اليوم 30اكتوبر 1956 صدر الإنذار البريطانى الفرنسى*، وكان يطلب من كل من مصر وإسرائيل وقف إطلاق النار وسحب قواتهما خلال اثنى عشر ساعة إلى مسافة تبعد عشرة أميال شرق وغرب قناة السويس ـ ولم تكن إسرائيل حتى هذا التاريخ قد وصلت إلى قناة السويس ، وبدا الإنذار كما لو كان دعوة لإسرائيل للتقدم نحو القناة ـ وأضاف الإنذار أن تقبل مصر بوجود قوات مشتركة للدولتين فى منطقة القناة ومدن بور سعيد والإسماعيلية والسويس لحماية الملاحة فى القناة وإلا ستضطر الدولتان للتدخل بالقوة المسلحة.
كان الرئيس جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت ـ وكانت الساعة حوالى الثانية عشر ظهرا موجودا فى مبنى مجلس الوزراء وكنت أنا متواجدا مع على صبرى فى مكتبه فى الدور الثانى وسمعت صوت التليفون المباشر بين على صبرى والرئيس ـ كان نوع من الديكتافون يسمعه من فى الغرفة إلا إذا رفعت السماعة فيصبح الحديث قاصرا على المتكلمين فقط ، وقال الرئيس : ” يا على الدكتور فوزى حايبعت دلوقتى رسالة إستلمها من السفير البريطانى ” .
وبعد وصول الرسالة طلب الرئيس عقد اجتماع سريع وطلب الرأى والدراسة ، وبدأ أعضاء مجلس قيادة الثورة يتوافدون على مجلس الوزراء حيث حضر عبد الحكيم عامر ثم صلاح سالم ـ وكان قد تم إبلاغ عبد الحكيم عامر بأمر الإنذار تليفونيا ـ كما حضر عبد اللطيف البغدادى وحسين الشافعى وزكريا محى الدين وكان موجودا أيضا الدكتور أحمد ثروت الطبيب الخاص للرئيس .
لم يبد الدكتور فوزى أى رأى فى الإنذار لا بالقبول ولا بالرفض، وكان الاتجاه العام لدى الحاضرين هو الرفض وإن اختلفت وسيلة الرفض؛ هل يغلق المظروف ويرد إلى السفارة البريطانية ؟ أم يقوم الدكتور فوزى باستدعاء السفير البريطانى ويوجه إليه رفضا شديد اللهجة ؟ .
ولكن ما أن دخل صلاح سالم المكتب حتى فاجأ الرئيس والحاضرين جميعا بأن خلع غطاء الرأس الخاص به ( الكاب ) ، ووجه كلامه لعبد الناصر قائلا :
” يا ريس أحسن حاجة نستسلم ، وأنا لو منك أروح أسلّم نفسى للسفارة الإنجليزى !!” . فضحك جمال عبد الناصر والتفت إلى الدكتور أحمد ثروت ـ طبيب الرئاسة ـ قائلا :
” ياثروت إديله حقنة تهديه” .
فرد صلاح سالم :
” يا ريس أنا أعنى هذا الكلام ، إحنا مش قد الإنجليز والوضع الطبيعى أن نسلم أنفسنا وإنت ياريس عليك أن تروح وتقابل السفير الإنجليزى وتطلب منه المعذرة !! ” .
فرد عليه عبد الناصر بعنف ووصفه بالجبن ، وفى لحظة الانفعال المتبادلة بين الاثنين دخل أحد السفرجية حاملا صينية عليها القهوة فأمره صلاح سالم أن يسلمه ملابسه المدنية، وقام صلاح سالم بلبسها وتقدم من الرئيس قائلا :” السلام عليكم يا ريس أنا مسافر السويس وسأقاتل من هناك !”، وفعلا غادر المكان وركب سيارته واتجه إلى السويس وانضم للمقاومة الشعبية فى السويس، وقام بالفعل من هناك بالتنسيق مع عناصر المقاومة فى تنفيذ أول عملية لإغراق سفينة محملة بالأسمنت بهدف تعطيل الملاحة فى قناة السويس .
بعد مغادرة صلاح سالم تم الاتفاق بالإجماع على رفض الإنذار ، كما اتفق على تسليم الرد بأسلوب بعيد عن العصبية وهو أن يقوم وزير الخارجية محمود فوزى باستدعاء السفير البريطانى ويبلغه برفض الإنذار**.
رفضت إسرائيل بدورها الإنذار لأنها كانت قد بدأت العمليات العسكرية وفق مخطط سبق الاتفاق عليه مع البدين بريطانيا وفرنسا ، وكان الهدف هو تمكينها من تحقيق أهدافها .
ولابد أن أشير هنا إلى أنه عندما وقعت الغارة الجوية على مطار ألماظة يوم30اكتوبر1956 أدرك الرئيس عبد الناصر أن هناك معركة تستهدف إسقاط النظام، وليس مجرد إلغاء قرار التأميم أو فرض السيطرة على قناة السويس، فحجم العمليات العسكرية وما صاحبها من تحركات فرنسية بريطانية معلنة – حتى قبل وصول الإنذار ، كانت تؤكد أن الهدف النهائى هو إسقاط نظام ثورة 23يوليو .
ففى 30 اكتوبر1956 تقدمت مصر بشكوى إلى مجلس الأمن الدولى تشير إلى العدوان الإسرائيلى، وما أعقبه من إنذار بريطانى فرنسى ، وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع قرار يدعو إلى وقف القتال فورا بين مصر وإسرائيل وانسحاب الأخيرة إلى خط الهدنة، ومطالبة جميع أعضاء الأمم المتحدة بالامتناع عن
استخدام القوة أو التهديد بها فى منطقة النزاع، وتجنب تقديم أى مساعدات لإسرائيل ما لم تمتثل للقرار .
فى اليوم التالى قدم الاتحاد السوفيتى مشروع قرار آخر لمجلس الأمن يتطابق والمشروع الأمريكى ، لكن بريطانيا وفرنسا استخدمتا حق الاعتراض ( الفيتو ) لإفشال التوصل إلى قرار بل وتقدمت فرنسا بمشروع قرار مضاد يدين مصر لمساعدتها الثورة الجزائرية . ودفع هذا التطور بداج همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة إلى عرض استقالته من منصبه احتجاجا على التدخل البريطانى الفرنسى السافر ضد مصر ، وألقى بيانا يدين فيه الدولتان وأنهما تسببتا فى ضياع الجهود التى تبذل لوقف إطلاق النار أو لإقرار مبادئ التفاوض حول مشكلة قناة السويس نتيجة توجيه الإنذار، وطالب الدول الأعضاء باحترام ميثاق الأمم المتحدة لكن لم تتم الموافقة على استقالته، وكان ذلك تعبيرا عن التضامن مع مصر ورفض العدوان عليها .
دفعت هذه التطورات بالرئيس جمال عبد الناصر لإعادة تقييم الموقف، وكان قراره هو رفض إتاحة الفرصة لهذه القوى لتحقيق أهدافها بأية صورة والحرص على استمرار الثورة مهما كلف الأمر ، وكانت حسابات القوة التى يرتكز عليها تشمل القوات المسلحة المصرية وقدرتها على الصمود فى مواجهة العمليات المنتظرة ، والجبهة الداخلية وتماسكها إلى جانب الدعم العربى الواسع وخاصة من جانب القوى الوطنية الشعبية والحاكمة فى كل من سوريا ولبنان والأردن والسعودية .
وعندما بدأت العمليات أجرى جمال عبد الناصر تقييمه السريع للموقف العسكرى و خرج بنتيجة سلبية حيث أدرك أن القوات المصرية لا يمكنها مجابهة العدوان ووقفه؛ فانتقل إلى بديل آخر هو المقاومة الشعبية بأبعادها المسلحة والإعلامية، وعمل على أن تمتد أيضا إلى صعيد مصر كله فى شكل مظاهرات واحتجاجات ، ومن هنا جرى التفكير فى توزيع السلاح على الشعب المصرى باعتبار أنه فى حالة وقوع هزيمة عسكرية ودخول قوات الاحتلال إلى القاهرة فيجب أن تدفع ثمنا غاليا .
بدأ الرئيس فى اتخاذ سلسلة من القرارات الهامة :
جاء أولها من منطلق حساباته العسكرية لأهداف العدوان، والتى أدرك من خلالها أن القوات المعتدية تعمل على تطويق الجيش المصرى فى سيناء عملا على إبادته ، وكان أسلوب القيادة العسكرية فى إدارة المعركة يساعد على ذلك برغبتها فى تحقيق انتصار سريع مما دفعها إلى تحريك قوات كبيرة إلى سيناء و جعلها هدفا سهلا للغارات الجوية وأوقع فى صفوفها خسائر كبيرة ، ومن ثم فقد تدخل عبد الناصر وأصدر قراره بسحب القوات المسلحة المصرية من سيناء إلى غرب القناة؛* تفاديا لمزيد من الخسائر التى ستنجم حتما عن وقوعها بين حصار القوات الإسرائيلية من الشرق والقوات البريطانية والفرنسية التى أسقطت جوا فى منطقة قناة السويس غربا، وكان قرارا سياسيا ناجحا بكل المقاييس ساعد على حماية الجيش المصرى وإفشال أهداف القوى المعتدية .
كان القرار الثانى هو تصعيد المقاومة الشعبية؛ ففى أول يوم للعمليات العسكرية البريطانية الفرنسية المشتركة ، أصدر تعليمات بفتح كل مخازن الأسلحة والذخيرة الموجودة فى القاهرة، وتم شحنها فى مئات اللوارى التى انتشرت فى أحياء القاهرة وبعض المحافظات القريبة مثل القليوبية والغربية والشرقية والجيزة . . الخ .
كما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهات بإعداد مقر احتياطى لرئاسة الجمهورية فى أسيوط بحيث يتم الانتقال إليه فى حالة نجاح العدوان باحتلال الدلتا كما كانت تنص على ذلك الخطة ” روديو “، والتى سبق أن حصلنا عليها من أرشيف سرى خاص بداخل مبنى الكنيسة الإنجليزية فى قصر النيل فى نهاية 1954، وكانت ترتكز على إعادة احتلال القوات البريطانية للجمهورية عندما تقتضى الضرورة ذلك . . كما أصدر توجيهاته بتعزيز التسليح والتحصينات فى باقى المحافظات . . . ، وكانت كلمة السر لعملية توزيع السلاح هى ” حنحارب ” .
شمل توزيع السلاح جميع أفراد الشعب مهما اختلفت مشاربهم، ولم يسأل أى فرد عن هويته أو انتمائه السياسى أو العقائدى عند تسليمه السلاح، وكان يصحب عملية التسليح فقط التوعية بتعليمات الأمان فى التعامل مع السلاح . . وتم بالفعل توزيع ما يقرب من مليونى قطعة سلاح .
فى نفس الوقت شارك متطوعين من كافة شرائح المجتمع من ضباط وجنود جيش إلى ضباط وجنود من الشرطة إلى المتطوعين المدنيين منهم المحامين والأطباء والمهندسين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى والشباب من عناصر الفتوة بنين وبنات وطلبة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والعمال والفلاحين . . .
كانت الروح الوطنية تشكل نسيجا بديعا يجمع كل هؤلاء . . وأود أن أشير باعتزاز وفخر إلى أنه بعد أن هدأت الأمور، وتم جلاء القوات البريطانية والفرنسية أمكن جمع كل الأسلحة بالكامل دون أن ينقص منها قطعة واحدة اللهم إلا الأسلحة التى استخدمت داخل بور سعيد نفسها وهذه أيضا لم يفقد منها إلا القليل جدا .
كانت المقاومة فى منطقة القناة تعمل وفق تنظيم محكم تحت إشراف الرئيس، وتولى القيادة المباشرة كل من زكريا محى الدين وكمال الدين حسين وصلاح سالم يعاونهم على سيبل المثال لا الحصر كل من:
كمال الدين رفعت – عبدالفتاح أبو الفضل – سعد عفرة – محمد فائق – سمير غانم – لطفى واكد – محمود حسين عبدالناصر – فريد طولان – صلاح الدسوقى ومجموعة من ضباط الشرطة – بالإضافة إلى مجموعة من ضباط الصاعقة المصرية منهم جلال هريدى – احمد عبدالله – حسين الفار- وآخرين . . . إلى جانب العديد من العناصر المدنية وكان من ضمنهم سيدات مثل أمينة شفيق من جريدة الأهرام التى سافرت إلى بور سعيد بصحبة بعض السيدات وقد دخلنها فعلا عن طريق التسلل عبر بحيرة المنزلة .
عندما اشتعلت المقاومة فى بورسعيد اتخذ جمال عبد الناصر قراره بالذهاب شخصيا إلى المدينة الباسلة للإطلاع بنفسه على ما يجرى فيها، ولكن كل المحيطين به أعربوا عن اعتراضهم على هذا القرار حرصا عليه، وما أذكره الآن أنه أثناء قيامى بعرض تقرير المعلومات عليه فى مبنى مجلس قيادة الثورة وكنا ساعة المغرب تقريبا لاحظت أنه يجرى إعداد بعض السيارات تساءلت عن السبب فجاءنى الرد أن الرئيس متوجه إلى منطقة القناة، ولما دخلت مكتب الرئيس قال لى أنا رابح أشوف بنفسى ماذا يجرى هناك ولا أعرف إن كنت سأشاركهم المقاومة، وهو ما أتمناه أم سأضطر للعودة ؟ .
وعلمت أن كلا من عبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين وحسين الشافعى سيرافقون الرئيس، وكان موقف صلاح سالم قد استقر فى مدينة السويس و كمال الدين حسين يتولى المقاومة فى الإسماعيلية . . . تحركت السيارات فعلا حوالى الثامنة والنصف مساء وعدت إلى مكتبى فى مبنى مجلس الوزراء وقد وصل الرئيس إلى مدينة الإسماعيلية حيث قابله كمال الدين حسين وكمال الدين رفعت اللذان اعترضا على قرار الرئيس وعملا على إثنائه عن مواصلة السفر إلى بور سعيد وقالا له : ” إحنا المسئولين عن هذا الخط، وأنه من الخطر التقدم بعد الإسماعيلية، ومن رأينا أن تعود إلى القاهرة حيث أن قيادتك من هناك أجدى بكثير من تواجدك فى رقعة ضيقة من أرض المعركة التى هى أرض مصر كلها والعالم العربى كله، وأن وسائل الاتصال هنا تكاد تكون معدومة كما أنه لا يوجد أى وسائل للإعلام، وأن وجودك هنا يعد خطأ على المستويين التكتيكى والإستراتيجى” ، شارك الحاضرون فى هذه المناقشات واستقر رأيهم على ضرورة عودة الرئيس إلى القاهرة وعاد بالفعل بعدما اقتنع بوجهة نظرهم .
صاحب المقاومة المسلحة حركة مقاومة إعلامية نشطة شارك فيها جميع الصحفيين والأدباء ورجال الإعلام والفنانين والمبدعين . . تطوعوا من تلقاء أنفسهم كل يعرض إمكانياته واستعداده للمشاركة فى هذه المعركة الوطنية .
كانت مؤسسة روزاليوسف بمثابة بؤرة للنضال الوطنى، ومصدر إشعاع خطير للغاية الكل يعمل . . والكل يبدع . . والكل يبدى أفكارا تصب فى إذكاء المعركة كان هناك صلاح جاهين وصلاح حافظ وحسن فؤاد وأحمد حمروش وفتحى غانم وأحمد بهاءالدين وعبدالغنى أبو العينين ومحمود المراغى وجمال كامل ومنير عامر ونجاح عمر ومديحة يشاركهم منير حافظ وإبراهيم بغدادى وآخرين من الأبطال الذين قد لا تسعفنى الذاكرة الآن بأسمائهم هذا بخلاف مجموعة العمال الذين كانوا يعملون فى المطابع وعلى رأسهم عم حسن وعمال التوزيع الخ ، وكانت هناك مثلها فى وكالة أنباء الشرق الأوسط، وبؤرة ثالثة فى مصلحة الاستعلامات التى كانت منشأة حديثا، ورابعة فى الصحف اليومية الأهرام والأخبار والجمهورية والإذاعة المصرية وصوت العرب . . علاوة على عناصر عديدة يصعب إحصاؤها أو تفضيل واحد منها على الآخر . . لم يتخلف أحد وكل منهم أعطى ربما بما يفوق طاقته فى التحرك داخليا أو خارجيا مع الأصدقاء والمؤسسات ، وعلى سبيل المثال فقد تم إيفاد الصحفى مصطفى أمين إلى بيروت حيث اصطحب معه سعيد فريحة الصحفى اللبنانى المشهور بحبه لمصر وثورة يوليو – واتجها إلى لندن لمخاطبة الرأى العام البريطانى، ودحض ما تدعيه وسائل الإعلام هناك ضد مصر . . وتم أيضا إيفاد عناصر أخرى إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والبعض منهم سافر على نفقته الخاصة . . . وكانت إذاعة صوت العرب بجميع كوادرها ، وصوت أحمد سعيد يحرض ويجمع أبناء الأمة العربية من القاهرة وباقى الإذاعات الموجهة وإذاعات الدول العربية شعلة لا تنطفئ من الوطنية والقومية العربية المتضامنة مع القضية المصرية .
تصادف أن تعرضت هوائيات الإذاعة المصرية فى أبو زعبل للقصف الجوى صباح يوم الأول من نوفمبر1956، وأدى ذلك إلى انقطاع الإرسال الإذاعى ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر متواجدا فى مكتبه بمجلس الوزراء وقرر أن يؤدى صلاة الجمعة بالجامع الأزهر الشريف . .
طلبنى الرئيس بعد أن أبلغته بضرب هوائيات الإذاعة المصرية وقال : ” تقدروا يا سامى تشغلوا الإذاعة على الأقل فى حدود دائرة مدينة القاهرة ؟
فقلت : ” يا أفندم ما أقدرش أعطى سيادتك رد إلا بعد إجراء بعض الاتصالات مع الفنيين فى الإذاعة وعموما سيادتك إدينى دقائق لمعرفة الموقف بالضبط . . .
قال الرئيس : ” يا سامى حانصّلىالجمعة فى الأزهر إنشاء الله . . . شد حيلك . . ” .
بعد اتصالات تليفونية فورية مع الفنيين حضر إلى مكتبى على عجل كل من محمد أمين حماد مدير الإذاعة والمهندسين عزالدين فريد و فاروق عامر و محمد الشافعى والمذيع فهمى عمر، ثم جاء بعد قليل جلال معوض، وأبلغونى أنه يمكن البث قبل صلاة الجمعة بشرط توفير خطوط تليفونية بشكل فنى معين لو أمكن ترتيبه مع مصلحة التليفونات بصفة عاجلة ، أما عن الهوائيات فجارى بالفعل إصلاح بعضها بما يؤدى لاستمرار الإذاعة فى حدود دائرة مدينة القاهرة . وبالفعل اتصلت بالدكتور محمود رياض مدير التليفونات ولما أبلغته بالمطلوب قال لى أنه توقع مثل هذا الأمر فأرسلت له على الفور المهندس عز الدين فريد لمقر المصلحة فى شارع رمسيس لإنهاء الترتيبات الفنية، وقد اكتشف أن هناك خط تليفونى بين أبو زعبل ودار الإذاعة فى شارع الشريفين لم يتعرض للتلف، وتم الاستفادة بهذا الخط وكان على الجانب الآخر فى محطة أبو زعبل المهندسين صلاح عامر والجارحى القشلان اللذين أمكنهما بالتنسيق مع زملائهم الآخرين من تفعيل الخطين الآخرين اللذين أمكن ترتيبهما فى مكتبى من خلال مصلحة التليفونات وتحويلة تليفونات مجلس الوزراء، وفى خلال ساعة ونصف أو يزيد قليل ، أمكن استئناف إرسال الإذاعة فى دائرة قطرها عشرين كيلومترا .
ونفذت أول تجربة . . تكلم من خلالها لأول مرة منذ انقطاع الإذاعة فهمى عمر مرددا ” هنا القاهرة ” ثم توجه مع زميله جلال معوض إلى الجامع الأزهر الشريف لإجراء التجارب والاستعداد لاستئناف الإرسال الإذاعى من هناك تمهيدا لإذاعة صلاة الجمعة منه .
عملنا بعد ذلك كإجراء احتياطى على اختبار قوة الاستماع فطلبت مفتش المباحث لمدينة القاهرة اللواء يوسف القفاص الذى عمل على تكليف ضباط الإدارة فى جميع أقسام القاهرة بالتبليغ عن قوة الاستماع والوضوح لإذاعة القاهرة التى تبث من مكتبى بمبنى مجلس الوزراء ومن الجامع الأزهر الشريف . أثناء المكالمة هذه اتصل أحد ضباطه به مبلغا إياه أن الإذاعة عادت للإرسال وأن فهمى عمر يقول هنا القاهرة ويردد أناشيد وطنية .
توجهت إلى مكتب الرئيس عبد الناصر وأبلغته بالنتائج التى وصلنا لها وتمام استئناف الإذاعة ، فأعرب عن سعادته وامتنانه لكل من شارك فى هذا العمل، وكان احمد سعيد مدير صوت العرب قد لحق بالمجموعة المتواجدة فى مكتبى فور أن سمع ” هنا القاهرة ” وانضم لفريق العمل من المذيعين والفنيين .
بقى طاقم الفنيين بمكتبى للإشراف على التجهيزات الفنية والعمل على تقويتها بواسطة بعض الأجهزة التى أمكن الحصول عليها من مخازن الإذاعة والتليفونات وذلك حتى عودة الرئيس جمال عبد الناصر ومخاطبته الشعب المصرى والعالم أجمع من خلال الإذاعة ووكالات الأنباء التى نقلت عن الإذاعة معلنا من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف : ” الله أكبر . . ـ التى قيلت لأول مرة سنة 1956 من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف ـ سنقاتل . . . سنقاتل . . ولن نستسلم . . ”
بدأ العمل بعد ذلك مباشرة لترتيب استئناف إرسال الإذاعة على مستوى الجمهورية وخارجها من أبى زعبل .
وكانت عملية تشرفت كثيرا بتلقى التكليف بها وبإنجازها من خلال جهد جماعى من كل رجال الإذاعة المصرية من فنيين ومهندسين ومذيعين كانوا كلهم بدون استثناء على مستوى المسئولية .
وكانت إذاعة ” أم كلثوم ” منذ ذلك اليوم ، و التعليمات التى صدرت بإستمرارهذه الإذاعة كانت صارمة حول بث أغانى السيدة أم كلثوم وحدها فقط ولمدة خمسة ساعات يوميا تبدأ من الخامسة وحتى العاشرة مساء .
ووسط هذه الصفحة الناصعة البياض والمشرفة من تاريخ النضال المصرى ظهرت نقطة سوداء وضعتها مجموعة من السياسيين القدامى الذين عقدوا اجتماعا ضم عناصر من أحزاب الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين والإخوان المسلمين ، وكان معهم سليمان حافظ الذى كان نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية فى بداية الثورة، وكان من قبل نائبا لرئيس مجلس الدولة – وقد قرروا فى نهاية اجتماعاتهم إعداد رسالة موجهة للرئيس جمال عبد الناصر، وبقيت أمامهم مشكلة من الذى يسلم هذه الرسالة للرئيس جمال عبدالناصر . .
فى يوم الجمعة 2نوفمبر1956 أوفد المستشار سليمان حافظ زوج ابنته الضابط عبد اللطيف الرافعى لمقابلة صلاح نصر مديرا مكتب القائد العام للقوات المسلحة فى ذلك الوقت، يطلب سليمان حافظ فى رسالته تدبير لقاء فورى بين الرئيس حمال عبد الناصر وسليمان حافظ لأمر بالغ الخطورة . فقام صلاح نصر بتكليف من الرئيس بمقابلة سليمان حافظ ليستطلع منه شخصيا عن أسباب طلبه اللقاء ، وفهم منه أن الرسالة تخص الأحداث المتعلقة بالوضع المترتب على العدوان الثلاثى ، وأن هناك اقتراحات بتنحى القيادة السياسية الحالية عن مسئوليتها لإنقاذ مصر من الدمار الذى ستتعرض له وكرر طلبه مقابلة الرئيس .
كانت تحركات واتصالات سليمان حافظ وغيره من السياسيين القدامى مرصودة بالطبع فى تلك الفترة – ولما أبلغ صلاح نصر رسالة سليمان حافظ للرئيس رفض مقابلته وكلف عبد اللطيف البغدادى بمقابلته ، ولما بلغ صلاح نصر الضابط الرافعى بأن البغدادى كلف بمقابلة سليمان حافظ ، طلب على لسان الأخير أن يحضر المقابلة أيضا اللواء عبد الحكيم عامر، وقابله فعلا كلا من البغدادى وعامر الذى قال بعد المقابلة :
” الراجل ده حقيقى أنيابه زرقاء . . ولم ينس حقده على جمال عبد الناصر . . . فهو يطلب تنحى عبد الناصر لأنه مكروه – هكذا !! – وأن يتولى محمد نجيب رئاسة مصر ،حيث أنه مؤهل للاتفاق مع الإنجليز ، ويعلن حياد البلد وتتولى وزارة حزبية الأمور فى البلاد ، وأن يعود ” العسكر!” إلى ثكناتهم . .”
وعندما نقلا الرسالة للرئيس كان تعليقه : ” أنه من سيحضر إلى هنا منهم سوف يضرب بالنار” .
كان التحليل والتقدير بناء على نتيجة هذه المقابلة هو أن سليمان حافظ بالتعاون مع بقايا الأحزاب يريد أن يمهد لتولى وزارة حزبية شئون البلاد تحت رئاسة اللواء محمد نجيب الذى بعد أن يتخلصوا منه تتعاون الحكومة مع الغزاة . . ( لتجنب ويلات الحرب . . . ) .
وثبت بعد ذلك من واقع تقارير المعلومات وتحريات الأجهزة الأمنية أن اللواء محمد نجيب لم يكن بعيدا عن بقايا جبهة أزمة مارس سنة1954 فى هذه الأحداث *.
ورغم تشابه موقف السياسيين القدامى- من حيث الشكل- مع موقف صلاح سالم إلا أن منطلقات كل طرف كانت مختلفة تماما ، فصلاح سالم الذى خانته أعصابه فى لحظة ما ، أكد تصرفه اللاحق بالتوجه إلى السويس وقيادة المقاومة الشعبية فيها قدرا عاليا من الفدائية، كما عكس نبل أهدافه، وأن الأمر يكمن فقط فى الخشية من آثار العدوان وغيرته على سلامة البلاد ولم يكن متطلعا إلى سلطة أو نفوذ رغم الاختلاف معه فى أسلوب تعبيره عن هذه الأهداف أو انفعاله على الرئيس جمال عبد الناصر . .
أما عناصر الأحزاب والسياسيين القدامى فقد كان موقفهم نابعا عن تفكير متخاذل وانهزامية واضحة ، علاوة على أنه كان يعكس قدرا عاليا من الشماتة والرغبة فى تصفية الحسابات مع الثورة ، وانتهاز الفرصة لتجديد علاقاتهم بالإنجليز ، وهى نفس المواقف التى طبعت سلوكهم السياسى فى فترة ما قبل الثورة . .
لقد أظهر جمال عبد الناصر ثباتا قويا فى مواجهة الموقف كما أمتلك قدرة كبيرة فى معالجة كل التفصيلات مهما كانت ثانوية أو بعيدة – شكلا – عن لب القضية ، وعلى سبيل المثال فقد كان يحرص على الإلمام بالموقف التموينى يوميا من القمح والسكر والدقيق والزيت والشاى والبنزين والجاز والبوتاجاز وخلافه من المواد التى تشكل أساسا لاحتياجات المواطن وعصب المعركة . . وبالمناسبة ومن هذا التاريخ استمرت سكرتارية الرئيس للمعلومات فى إعداد تقرير يومى بالموقف التموينى مع التطوير بإضافة الأرصدة المتبقية والكميات المطلوب توافرها ولمدد تتراوح بين ستة شهور وسنة حسب السلع المطلوبة للمواطنين مع الوضع فى الاعتبار مدى توافر العملة الصعبة اللازمة للاستيراد . . وتواصلت معدلات كثافة العمل بنفس القدر حتى تمام جلاء القوات البريطانية الفرنسية عن بور سعيد فى ديسمبر1956 ، وحتى بعد وقف القتال كان هناك استعداد دائم وحالة تعبئة فى الداخل لمواجهة أى طارئ قد يقع ، وكانت الاجتماعات لا تنقطع ويجرى إعداد تقديرات الموقف بشكل متوالىلإختيار أنسب البدائل لإدارة المعركة سواء فى مواجهة القوات المعتدية أو فى داخل المنظمة الدولية – الأمم المتحدة – وفى مجال تهيئة الرأى العام العربى والدولى لمساندة قضية مصر فى معركتها المصيرية .
كان الشعب العربى كله حاضرا وبقوة منذ صدور قرار تأميم شركة قناة السويس وحتى وقوع العدوان بعد أن نجح الرئيس عبد الناصر فى بعث فكرة القومية العربية وتحويل التضامن العربى إلى واقع ملموس .
فمنذ صدور قرار التأميم خرجت مئات التظاهرات وعقدت المؤتمرات فى كل أرجاء الوطن العربى تعلن مساندتها للقرار ووقوفها إلى جانب مصر فى معركتها لاسترداد حقوقها فى القناة ، وبنفس القوة كانت مساندة الحكومات والقيادات الرسمية للقاهرة فى شكل بيانات واتصالات مع القيادة المصرية وتحركات دبلوماسية وغيرها ، وفور وقوع العدوان المسلح انهالت على السفارات المصرية فى دمشق وعمان وبيروت والقنصلية المصرية فى القدس وفى دول المغرب العربى والمغتربين العرب فى أوروبا وأمريكا بخلاف مئات الألوف من الرسائل التى وصلت للرئيس تطالب بالتطوع لمحاربة المعتدين إلى جانب القوات المصرية .
ولم تقتصر ردود الفعل على التجمعات الشعبية وحدها بل شاركت الحكومات والقيادات المسئولة أيضا .
فقد توجه الرئيس شكرى القوتلى رئيس الجمهورية السورية إلى موسكو لمطالبة الاتحاد السوفيتى بتقديم الدعم اللازم لمصر وتزويدها باحتياجاتها من السلاح ، وكان قبل سفره قد اتصل بالرئيس جمال عبد الناصر مستفسرا عن أخبار المعركة واحتياجات مصر* .
ومن سوريا أيضا اتصل بعض الضباط الوطنيين عارضين خدماتهم، وكان أهم هذه الاتصالات ما تقدم به عبد الحميد السراج – نائب رئيس الجمهورية أثناء الوحدة ورئيس الشعبة الثانية ( المخابرات ) فى الجيش السورى سنة1956 – يعرض نيته نسف خط أنابيب البترول الذى ينقل الخام من العراق إلى البحر الأبيض عبر سوريا ، لكن الرئيس عبد الناصر نصح بعدم التورط فى المعركة حماية لهم ولسوريا برغم اقتناعه أن هذا العمل سيوفر دعما كبيرا لمصر ، لكن عبد الحميد السراج كان قد بدأ فعلا فى اتخاذ الخطوات التنفيذية . . وقد استدعى ناظم القدسى رئيس الوزراء فى سوريا كلا من اللواء شوكت شقير واللواء عفيف البزرى – قادة الجيش السورى آنذاك – ونقل لهما أن السفارة البريطانية أبلغته بوجود وحدات عسكرية أو شبه عسكرية حول محطات الضخ الخاصة بخط أنابيب التابلاين فنفيا علمهما بهذا الموضوع ، فقام ناظم القدسى باستدعاء عبد الحميد السراج، وأعاد عليه نفس السؤال فنفى بدوره علمه بأية مخططات فى هذا الشأن . .
فقال له ناظم القدسى : ” أن لديه معلومات تقول كذا وكذا . . وإنت حاتضيعنا وتؤذى الوضع العام !! . فرد عليه عبد الحميد السراج ” طيب يا سيدى أنا سوف أبحث الموضوع وسأرد عليك لأن الخط طوله حوالى 800 كيلومتر وليس لدى طائرة ، بل إن بعض المناطق يمكن أن اصل إليها بواسطة الجمل أو الحصان 000 أعطنى ثلاثة أو أربعة أيام حتى يمكن أن أرد عليك . . ” .
وكان السراج قد رتب العملية وأعطى التعليمات لضباطه بتوقيتات التنفيذ وكان قراره أنه فى حالة تعرض مصر للعدوان يقوم بنسف محطات الضخ . . . وتم نسف هذه المحطات فعلا ثانى يوم العدوان الثلاثى على مصر .
لقد تصرف عبد الحميد السراج على مسئوليته، وأحدثت العملية صدى واسعا فى العالم كله، أما فى العالم العربى فقد بادرت العناصر الوطنية فى أكثر من دولة بإخطارنا باعتزامهم تنفيذ عمليات مماثلة فى بلادهم، ولكن تم تحذيرهم بوضوح باعتبار أن اتساع رقعة مثل هذه العمليات لن يخدم المصلحة القومية ويكفى انفجار واحد لأن انتشار هذه الظاهرة يمكن أن يقود إلى تأليب الرأى العام العالمى والأوربى خاصة ، وكان قد بدأ يميل إلى جانب مصر .
وقد خرج على هذه القاعدة المناضلين الليبيين من جماعة عمر المختار بقيادة الأستاذين مصطفى بن عامر وبشير المغيربى وزملائهم الذين قاموا بتنفيذ بعض العمليات ضد المصالح البريطانية فى ليبيا حيث تم تفجير قنبلة فى بنك باركليز البريطانى، كما قاموا بنسف أنابيب البترول فى ميناء بنغازى وأشعلوا النيران فى خزانات الوقود الخاصة بالقوات البريطانية .
كما ظهرت لأول مرة فى بعض الدول والإمارات العربية مثل الكويت الدعوة لوقف تصدير البترول إلى المعتدين وسحب الأموال العربية من البنوك البريطانية ومقاطعة البضائع الفرنسية والبريطانية .
ولم يكن الموقف الدولى يقل استنكارا للعدوان عن الموقف العربى أخذا فى الاعتبار بالطبع القيود التى تفرضها التوازنات الدولية .
فكما أشرت فى السابق ، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على امتلاك زمام المبادأة بعرض مشروع قرار فى مجلس الأمن يدين العدوان، وصحب ذلك إعلان الرئيس الأمريكى دوايت ايزنهاور على شاشات التليفزيون أن واشنطون عارضت منذ البداية اللجوء للقوة ، وأنها لم تستشر من قبل المعتدين .
واتخذ الاتحاد السوفيتى موقفا مؤيدا لمصر منذ بداية الأزمة، ولكن التمرد الذى كانت شواهده قد بدأت تتجمع فى المجر فرض قيدا على حركة الاتحاد السوفيتى، ومن هنا كان رد خروشوف على الرئيس شكرى القوتلى أثناء زيارته لموسكو عدم إمكانية تقديم مساعدة عسكرية لمصر لكنه شن حملة دبلوماسية مكثفة على القوى المعتدية فى الإطار الثنائى وفى الأمم المتحدة .
ففى الإطار الثنائى بعث بولجانين برسالة إلى أنطونى إيدن رئيس وزراء بريطانيا تتضمن تهديدا باستخدام الصواريخ العابرة للقارات لوقف العدوان، ثم بعث برسالة أخرى بنفس المعنى إلى رئيس وزراء فرنسا جى موليه، وبرسالة ثالثة إلى دافيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل يصف فيها إسرائيل بأنها تعمل كأداة فى يد الإمبريالية ، ويحذرها من العبث بمصير السلام ، وطالب بأن تعود إسرائيل إلى رشدها وتوقف عملياتها العسكرية ضد مصر قبل فوات الأوان ثم قام باستدعاء سفيره فى تل ابيب، واعتبرت هذه الرسائل بمثابة إنذارات للدول الثلاثة، وكان قد سبقها إرسال رسالة إلى الرئيس أيزنهاور يستعرض فيها الأخطار المترتبة على الموقف القائم وما ينذر به من احتمال اشتعال حرب عالمية، وأن على موسكو وواشنطن بما يملكانه من قوة ، العمل معا لإيقاف الحرب .
وتقدمت الهند ممثلة للدول الآسيوية الإفريقية بمشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بوقف القتال وسحب القوات المعتدية، وأن يقدم السكرتير العام للأمم المتحدة تقريرا بذلك خلال اثنتى عشرة ساعة وقد حظى القرار بالموافقة من الجمعية العامة .
هكذا لعب النظام الدولى بتركيبته التى كانت قائمة فى ذلك الوقت وظهور قوة ثالثة لها صوتها المؤثر فى المحافل الدولية؛ هى قوة عدم الانحياز التى لعبت دورا هاما فى تعرية الأهداف الإمبريالية التى سعت قوى الاستعمار القديم وشكل قاعدة صلبة لمساندة الدول الصغيرة وحقها فى الحرية .
ومع إعلان القوات المعتدية قبولها إيقاف القتال يوم 6نوفمبر1956 استجابة لقرارات المنظمة الدولية بدأت معركة لا تقل شراسة عن المعركة المسلحة . . . لقد كانت المعركة الجديدة ذات بعدين أساسيين :
البعد الأول:
يرتبط بالمقاومة المسلحة التى استهدفت حرمان القوات المعتدية من امتلاك أية فرصة للراحة أو الاستقرار فى مدينة بور سعيد ، وقد حققت بالفعل إنجازات ضخمة فى هذا المجال وسقط الشهداء وتنوعت البطولات الغير مسبوقة فى التاريخ الحديث . .
أما البعد الثانى:
فقد كان مرتبطا بالمعركة الدبلوماسية وخاصة فى الأمم المتحدة بهدف إتمام انسحاب قوات الدول المعتدية الثلاث
فقد استأنفت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلساتها فى السابع من نوفمبر 1956 ، وطالب مندوب مصر فى المنظمة الدولية السفير عمر لطفى بانسحاب المعتدين، ولكن مندوبا بريطانيا وفرنسا رفضا مشروع الانسحاب الفورى بدعوى تخوفهما من تجدد القتال بين مصر وإسرائيل .
وتطرقت المناقشات إلى تشكيل قوة طوارئ دولية، وتكاثفت الضغوط، وهدد السكرتير العام للأمم المتحدة بفرض عقوبات صارمة على إسرائيل إذا لم تسحب قواتها مما دفعها للإعلان رسميا فى الثامن من نوفمبر1956 اعتزامها سحب قواتها من مصر والتعاون مع قوة الطوارئ الدولية .
وبدأت المباحثات مع السلطات المصرية حول تشكيل قوة الطوارئ الدولية واعترض الرئيس عبد الناصر على اشتراك كندا فيها نظرا لعضويتها فى الكومنولث كما اعترض أيضا على مشاركة نيوزيلاندا وباكستان نظرا لتبعية الأولى لبريطانيا وعضوية الثانية فى حلف بغداد .
وصلت طلائع قوة الطوارئ الدولية إلى مصر يوم 16نوفمبر1956 ومعها السكرتير العام للأمم المتحدة داج همرشولد للقاء الرئيس جمال عبد الناصر ، وفى 23نوفمبر1956 عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلستها لمناقشة مشروع قرار قدمته مجموعة الدول الآفروآسيوية يطالب الدول المعتدية بالإذعان للقرارات السابقة بشأن الانسحاب، وحظى القرار بالموافقة فى 24نوفمبر1956 وعارضه فقط الدول الثلاث ومعها كندا وبلجيكا وامتناع عشرة دول عن التصويت .
وسعت إسرائيل للمراوغة والتملص من قرارات الأمم المتحدة أو محاولة فرض شروط فى مقابل الانسحاب، وتكررت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وخاض محمود فوزى وزير الخارجية معركة كبيرة بالتنسيق مع جمال عبد الناصر حتى أتمت إسرائيل انسحابها الكامل دون أن تحصل على أى من مطالبها بإقرار مصر رسميا بحرية المرور لسفنها فى قناة السويس، وبعد أن كانت القوات البريطانية الفرنسية قد أتمت انسحابها فى 23ديسمبر1956 .
وعندما نعود اليوم بعدما يزيد على أربعين عاما إلى معركة العدوان الثلاثى سوف نلاحظ انقساما بين الباحثين الأكاديميين؛ فالبعض يرى أن العنصر الأهم الذى أدى إلى وقف العدوان هو التحرك السوفيتى الذى يعبر عنه فى كل الكتابات على أنه ” الإنذار السوفيتى ” ، لقد أيد الاتحاد السوفيتى موقف مصر منذ بداية الأزمة لكن مع بداية العدوان بدأ صوته يخفت تدريجيا نتيجة انشغاله بالثورة المضادة له فى بولندا وخشيت موسكو من تدخل الغرب فى أزمة بولندا إذا ما تدخلت فى أزمة السويس، ومن هنا أبلغ خروشوف السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى السيد شكرى القوتلى رئيس سوريا الذى كان يزور موسكو وقتها أنه أى خروشوف لا يستطيع تقديم مساعدة حربية لمصر، كما تم تبليغ السفير المصرى فى موسكو بنفس المعنى .
لكن تطور الأمور وتصاعد ردود الفعل العالمية المضادة للعدوان الثلاثى دفعت موسكو لإعادة ترتيب أوراقها من جديد فسعت إلى صياغة تعاون مع واشنطن فى هذا المجال وأرسل بولجانين رئيس الوزراء السوفيتى برسالة إلى أيزنهاور فى 5 نوفمبر 1956 يحذر فيها من إمكانية تفجر حرب عالمية ثالثة ، وأنه لابد من التعاون لسحق العدوان .
وفى نفس اليوم أرسل ثلاث رسائل إلى الدول المعتدية( فرنسا وبريطانيا وإسرائيل( تضمنت كلها تهديدا غير مباشر وتحذير من تعرض هذه الدول لهجوم من دول أقوى تملك كل أنواع أسلحة الدمار الحديثة وحذرها جميعا من العبث بمصير السلام العالمى ، كما طالب السوفيت بعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن للنظر فى وقف القتال فورا .
يرى الكثير من المحللين أن هذا الإنذار كان له تأثير قوى فى وقف العدوان ، لكن البعض الآخر يرى فى الموقف الأمريكى المضاد للعدوان، والذى انطوى على استياء بالغ تولد لدى واشنطن من أسلوب التصرف الذى أقدم عليه إيدن ومعه فرنسا وإسرائيل ، حيث أعلن أيزنهاور على شاشات التلفزيون أن واشنطن عارضت منذ البداية اللجوء لاستخدام القوة ، وأنها لم تستشر من قبل المعتدين ، وأنها لن تتورط فى الصراع وستقدم مساعيها لإنهاء المشكلة سلميا .
وبعد صدور الإنذار السوفيتى* خشى أيزنهاور من بروز الدور السوفيتى ، وكان قد تم انتخابه لفترة رئاسة ثانية فواصل ضغطه على إيدن لقبول وقف إطلاق النار ، وهدد بأنه إذا ما امتنعت بريطانيا فلن يقدم لها المساعدة لإنقاذ عملتها المترنحة ، ولن يساعد فى تمويل شحنات البترول البديلة .
هكذا يؤكد هؤلاء المحللين من الاتجاهين أن العامل الخارجى هو الذى أنقذ مصر من أن تبتلعها الدول الثلاث ، فليكن أن الاتحاد السوفيتى يبحث عن دور فى الشرق الأوسط ، وأن واشنطن ترى أن الدول الثلاث قد خدعتها عندما تصرفت من وراء ظهرها ، ولكن ماذا يمكن أن يكون عليه مواقف هذه القوى الكبرى لو أن القيادة الثورية انهارت فى الساعات الأولى للعدوان ، أو أن خطة السياسيين القدامى نجحت فى تجميع الشعب وتأليبه ضد قيادته إلى حد مطالبتها بالتسليم ، هل كان من المنتظر أن تقف هذه القوى نفس المواقف التى أعلنتها فى التصدى للعدوان الثلاثى .
إن العامل الأهم من كل ذلك هو الصمود الذى أظهره الشعب المصرى فى كل المواقع ، وانتفاضته ضد العدوان ، وثبات قيادته وعدم تخاذلها تحت ظروف الحملة العسكرية الشرسة التى تعرضت لها مصر برغم الفوارق الكبيرة فى موازين القوة العسكرية ، ولا شك أن الصورة التى أوضحتها فى الصفحات السابقة عن الملحمة الشعبية والثورية التى ساهمت فى التصدى للعدوان لخير تعبير عن هذا الصمود وذلك الثبات *.
وهكذا فقد أمم جمال عبد الناصر شركة قناة السويس سنة1956 وبذلك فتح بنكا مصريا لم ولن ينضب معينه ، بل بنك يتزايد دخله سنويا على مر الزمن وبمعدل نمو فاق الـ 6% تقريبا سنويا .
لقد كان دخل قناة السويس سنة 1955 هو 35 مليون جنيه أى 100مليون دولار سنويا، كانت مصر تتقاضى منها مبلغ مليون جنيه فقط أى ثلاثة ملايين دولار سنويا، وأصبح دخل قناة السويس سنة1996 حوالى خمسة ملايين دولار يوميا أى حوالى 17مليون جنيه يوميا، وأصبح دخل قناة السويس سنة 2001 حوالى مليار وتسعمائة ألف واثنين وأربعين مليون دولار أى حوالى خمسة مليون وثلاثمائة ألف دولار يوميا ، أى حوالى العشرين مليون جنيه تقريبا يوميا . كما زادت نسبة السفن العابرة 5ر3% وزادت الحمولات بنسبة 3ر3% .
وبذلك أصبح عبد الناصر يشارك مشاركة فعلية و عملية فى تنمية مصر حتى بعد رحيله عن عالمنا
ويمكن تلخيص نتائج معركة تأميم قناة السويس وحرب 1956 فى النقاط التالية :
كان عبد الناصر هو بطل هذه الحرب .
تأكيد قدرة دولة صغيرة على الوقوف فى وجه القوى الكبرى .
ابراز مصر كدولة نوذج تمثل طليعة التحرر من قيود الامبريالية العالمية.
تأكيد حق دولة فى السيطرة على مواقع إستراتيجية تملكها وتخصها .
قدرة دولة صغيرة على الصمود أمام مواجهة نفسية ضارية .
سقوط حلف بغداد .
انسحاب فرنسا من شمال إفريقيا وانتصار ثورة الجزائر .
فتح أبواب التغيير الشامل فى إفريقيا .
بزوغ نجم القومية العربية وتأكيدها كهوية مشروعة .
خطاب عبد الناصر فى الأزهر سنة 1956 كان نقطة الانطلاق للأمة
العربية كلها .
نقطة البداية والانطلاق للتنمية الاقتصادية على قاعدة مصرية خالصة .
ألغيت اتفاقية الجلاء .
أممت البنوك والشركات البريطانية والفرنسية .
الملك حسين ألغى الاتفاق الأردنى البريطانى فى مارس1957 .
الوحدة المصرية السورية ثم ثورة العراق 1958 .
ثبت وتأكدت صحة نوايا إسرائيل التوسعية عندما أعلنت ضم سيناء .
لقد انتهى العدوان الثلاثى بهزيمة المعتدين ونهاية إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس ، وفرنسا التى كانت تعارض النفوذ البر يطانى فى المنطقة ارتكبت خطأ جسيما عندما شاركت فى العدوان بهدف القضاء على جمال عبد الناصر بسبب مساعدته لحركة التحرير الجزائرية ، ولم تستطع أن تفهم أن مساعدات مصر مهما كان حجمها لم تكن هى التى صنعت ثورة الجزائر ، بل بالعكس فقد خرج الرئيس جمال عبد الناصر منتصرا وهذا مثّل دفعة قوية للثوار فى كل مكان وليس فى الجزائر فقط ، وبذلك تأكد أن عبد الناصر هو العقبة الكبرى فى طريق مخططات القوى الكبرى .
ولأنه لا يصح إلا الصحيح وإن طال الزمن فقد بدأت تتكشف الكثير من أسرار العدوان الثلاثى على مصر من مختلف الدوائر الغربية التى تآمرت وخططت ونفذت هذا العدوان .
تمت اضافات أخرى
الندوة الفرنسية ( جلول ) .
الاستشهاد بكلام د. جمال حمدان .
عبدالفتاح أبو الفضل *
* (انتقل فيما بعد المخابرات العامة فيما بعد – وقد ألف كتابا عن مذكراته بعنوان ” عبد الناصر والمخابرات البريطانية ” فى سلسلة إصدارات كتاب الحرية برقم26 )
** ( هذه الوثائق محفوظة فى أرشيف المخابرات العامة والمباحث العامة ) .
*
* اعترف جان بول كالون المستشار القانونى لوفد فرنسا فى مفاوضات التأميم مع مصر فى شهادته: “بأن الغرب ارتكب حماقة بعدم فهمه لهذه النقطة بالذات ، فضلا عن أنه اتخذ موقفا متصلبا ، بينما أدركت الشركة أن التاريخ لن يعود إلى الوراء ، وفضلت التفاوض مع الرئيس عبد الناصر، وقال إن العدوان الثلاثى على مصر سنة1956 كان قمة هذه الحماقة ، وإن الشركة بذلت جهودا كبيرة بمساعدة البنك الدولى لإقناع عبد الناصر بالتفاوض” ، وقال إن العدوان الثلاثى على مصر سنة1956 كان قمة هذه الحماقة ، وإن الشركة بذلت جهودا كبيرة بمساعدة البنك الدولى لإقناع عبد الناصر بالتفاوض .
*
* انظر الملحق : الموقف الأمريكى من مصر.
( قال جان بول كالون المستشار القانونى لوفد فرنسا فى مفاوضات التأميم مع مصر: ” إن الشركة العالمية استعدت لكل الاحتمالات السياسية والفنية إلا احتمال التأميم أو قدرة مصر على تشغيل القناة التى أصبحت بعد الاحتلال البريطانى رمزا للكرامة المصرية، وفى هذا الجانب تكمن عبقرية الرئيس جمال عبد الناصر فى إدراكه أهمية القناة كرمز سياسى فى الذاكرة الجماعية للمصريين” .
*
* ( جميع الرسائل والإشارات اللاسلكية التى التقطت من شبكة شركة قناة السويس فى ذلك الوقت سواء كانت مشفرة أو مفتوحة كذا المحاولات التى بذلت من طاقم الضباط الذين كلفوا بهذه المهمة ، وكذا تقديرات الموقف ومنها ما كان بخط يد الرئيس جمال عبد الناصر ومنها ما كان لآخرين من المسئولين والخبراء كلها محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ) .
*
* انظر الملحق قرار رئيس الجمهورية رقم 285 لسنة 1956.
( كشف جان بول كالون المستشار القانونى لوفد فرنسا فى مفاوضات التأميم مع مصر عن أن الغرب شعر بالاستياء لأنه اعتبر أن التعويضات التى ستقدمها مصر ـ وقدرها 28مليونا و300ألف جنيه مصرى ـ تافهة جدا ، وتناسى أن أرصدة الشركة فى بنوك العالم وممتلكاتها العقارية بلغت أكثر من 75مليار فرنك بحسابات اليوم وهو رقم فلكى ، ولم تطالب بها مصر . وأوضح أن عبد الناصر لم يكترث بالتفاصيل المادية فى مسالة التعويضات ، لأن الأهم لديه كان استرداد القناة . وأضاف أن المشروعات الكبرى التى تشهدها مصر اليوم فى منطقة القناة والوادى الجديد وتوشكى هى مشروعات نابعة من ” روح البناء ” لدى المصريين وهى الروح نفسها التى كانت وراء عزيمتهم فى حفر واستعادة القناة .
* صدر فى 28نوفمبر2000 اعترافات فرنسية جديدة حول العدوان الثلاثى 1956، فبعد 44 عاما من تأميم قناة السويس أعلن ” جان بول كالون ” أن شركة قناة السويس العالمية ارتكبت خطأ بشعا عندما عزلت نفسها عن المصريين ، ولم تلتفت إلى التطور السياسى والاجتماعى فى مصر، الأمر الذى جعل لقرار الرئيس جمال عبد الناصر بالتأميم وقع الصاعقة عليها لأنها لم تتخيل أنه يقدر على اتخاذ هذا القرار .
* ( كان ذلك يتفق أيضا مع رأى السكرتير العام للأمم المتحدة داج همرشولد عندما قال للدكتور محمود فوزى : ” لو نجحتم فى تنفيس البخار المكبوت فإن أى عمل عسكرى سيأتى بعد ذلك فاشلا ، ولو تم فور التأميم لتكررت تجربة مصدق . . ” ) .
* وأذكر أن هذا الموقف تكرر أكثر من مرة ومع أكثر من شخصية أجنبية من مختلف البلاد غربا وشرقا شمالا وجنوبا ، بعضها كان يتولى مناصب رسمية رفيعة فى بلاده وجاءت إلى مصر تحمل تهديدات أو إنذارات أو مجرد أنها متحفزة لاستفزاز أو إثارة الرجل أو يقابله بروح عدائية نتيجة التأثر بدعايات أجنبية الخ وسرعان ما كانت تتبدد هذه المشاعر المعادية غالبا وتتحول الجلسة إلى جلسة ودية أو حتى مرحة أو يسودها الاحترام المشوب بالتقدير إن لم يكن الحب . وقد حضرت مرة لقاء بين عبد الناصر ومراسل جريدة النيويورك تايمز الأمريكية سالزبيرجر ، وكان ذلك فى فترة الحصار الإقتصادى على مصر ، وقد جاء متحفزا يحمل عددا من الأسئلة التى بعث بها قبل اللقاء وكانت كلها استفزازية ، لكنه خرج بعد لقائه مع جمال عبد الناصر مقتنعا بكل كلمة قالها ومنهيا اللقاء بمصافحة حارة جدا معه .
* بروتوكول سيفر24 أكتوبر 1956
تقوم القوات الإسرائيلية بخلق حالة صراع مسلح على مشارف قناة السويس لتستغل بريطانيا وفرنسا كذريعة للتدخل العسكرى ضد مصر .
توفر القوات الفرنسية الحماية الجوية لإسرائيل ، كما توفرالقوات البحرية الفرنسية الحماية البحرية للمياه افقليمية الإسرائيلية .
تصدر بريطانيا وفرنسا إنذارا مشتركا لكل من مصر وإسرائيل لوقف أعمال القتال والابتعاد عن القناة مع قبول مصر احتلال منطقة قناة السويس احتلالا مؤقتا بواسطة القوات الأنجلوفرنسية ، لحماية المكلاحة البحرية فيها .
تقوم القوات الجوية البريطانية بتدمير المطارات والطائرات والأهداف العسكرية المصرية وتحققالسيطرة الجوية فى سماء مصر .
تدافع فرنسا عن موقف إسرائيل فى الأمم المتحدة ، وفى نفس الوقت تبذل بريطانيا جهودها ـ بصفة سرية ـ بالاتصالات الخاصة لمساندة إسرائيل ، دون ان تكشف علانية عن ذلك حتى لا يضار مركزها فى الوطن العربى
وبالمقابل تتعهد الحكومة الفرنسية بإمداد حكومة إسرائيل بمفاعل ذرى له القدرة على انتاج القنابل الذرية .
توقيعــــات
عن المملكة المتحدة عن الجمهورية الفرنسية عن دولة إسرائيل
باتريك دين كريستيان بينو دافيد بن جوريون
* الإنذار البريطانى الفرنسى لمصر فى30 اكتوبر 1956
1- استدعى كيرك باتريك سفير مصر فى لندن السفير سامى أبو الفتوح وسلمه صورة الإنذار الموجه من الحكومتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة المصرية والذى يتضمن طلب :
إيقاف جميع الأعمال الشبيهة بالحربية فى البر والبحر
سحب جميع القوات العسكريةالمصر ية إلى مسافة عشرة أميال عن قناة السويس .
أن تقبل مصر احتلال الأراضى المصرية بواسطة القوات البريطانية والفرنسية للمواقع الرئيسية فى بورسعيد والاسماعيلية والسويس .
يطلب الانذار الاجابة عنه فى الساعة السادسة والنصف صباحا بتوقيت القاهرة يوم 31أكتوبر الحالى ، فإذا لم تتسلم حكومتا المملكة المتحدة وفرنسا هذه الإجابة فى الوقت المحدد ، فإنهما سيتدخلان بالقوة بالقدر الذى تريانه ضروريا لضمان إجابة مطالبهما .
** استدعى الرئيس جمال عبد الناصر فى الساعة العاشرة من مساء يوم 30 أكتوبر 1956 سفير المملكة المتحدة فى القاهرة السير همفرى تريفيليان وأبلغه برفض الحكومة المصرية للإنذار البريطانى الفرنسى وقال له إن الانذار الذى وجهته بريطانيا باسمها واسم فرنسا إلى الحكومة المصرية اليوم لا يمكن قبوله بأى حال بل تعتبره اعتداء على حقوق مصر وكرامتها ويعد امتهانا صارخا لميثاق الأمم المتحدة ففى الوقت الذى تدافع فيه عن نفسها داخل أراضيها ضد العدوان الإسرائيلى تتحفز بريطانيا وفرنسا للعدوان على المعتدى عليه . وأنذره الرئيس جمال عبد الناصر بأن مصر لا يسعها إزاء أى عدوان عليها إلا أن تدافع عن حقوقها وكرامتها . كما استدعى الرئيس جمال عبد الناصر القائم بالأعمال الفرنسى فى القاهرة جى روشيه وأبلغه رفض مصر للإنذار البريطانى الفرنسى
*
* قرار القائد العام للقوات المسلحة بسحب القوات إلى غرب القناة سعت 2200 يوم 31 أكتوبر 1956
ينقل المجهود الرئيسى للقوات المسلحة المصرية إلى غرب قناة السويس للتمسك بالمنطقة بورسعيدـ السويس ـ القاهرة بحيث يتم ذلك قبل أول ضوء يوم 2نوفمبر .
تخلى القوات المسلحة المصرية من سيناء إخلاء كاملا إلى غرب القناة ، وتتخذ الإجراءات اللازمة لسحب القوات المسلحة فى قطاع غزة ورفح والعريش وشرم الشيخ والقوات الاحتياطي المدرع والاجتياطى المشاة للقيادة الشرقية .
تنتقل رئاسة الفرقة الرابعة المدرعة والمجموعة الثانية المدرعة إلى غرب القناة وتعمل كاحتياطى استراتيجى هناك .
تقتصر أعمال الدفاع الجوى على أعمال المدفعية المضادة للطائرات والدفاع الجوى السلبى .
تنتقل الطائرات إلى المطارات الجنوبية توطئة لإقلاعها إلى قواعد صديقة خارج الجمهورية .
تقتصر أعمال القوات البحرية على تنظيم الدفاع عن الساحل والقيام بالدوريات والاستطلاع البحرى فى المياه الإقليمية .
تنظيم قوة النضال الشعبى الموضوعة تحت قيادة الجبهات والمناطق العسكرية ، وتنسق أعمالها مع عمليات القوات المسلحة ، وتركز الجهود المشتركة للدفاع عن المدن والقرى إلى آخر طلقة وآخر رجل .
لواء أركان الحرب
قائد عام القوات المسلحة
محمد عبد الحكيم على عامر
* ( يرجع لتقارير المتابعة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وإدارة المباحث العامة فى لاظوغلى ) .
*
* أرجو الرجوع إلى نصوص الرسائل المتبادلة بين الرئيسين فى ذلك الوقت فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات وأرشيف إدارة الرمز بوزارة الخارجية المصرية والتى تم تبادلها من خلالها العديد من الرسائل فى هذه المرحلة .
( انظر ملحق الرسائل ( الرسائل الثلاث ).*
( رسالة من الماريشال بولجانين رئيس مجلس رئاسة الاتحاد السوفيتى إلى دافيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل
15نوفمبر 1956
السيد رئيس مجلس الوزراء
لقد سبق للحكومة السوفيتية أن أعلنت تصميمها على إدانة العدوان المسلح الذى قامت به إسرائيل ، وكذا المملكة المتحدة وفرنسا ضد مصر ، والذى يعتبر خرقا صريحا واضحا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئها .
ولقد أدانت الأغلبية الساحقة من دول العالم هذا العمل العدوانى ضد الدولة المصرية فى الاجتماع الاستثنائى الذى عقدته الجمعية العامة للأمم المتحدة ، كما طالبت حكومات إسرائيل والمملكة المتحدة وفرنسا بإنهاء العمليات الحربية فورا ، وسحب القوات المعتدية من الأراضى المصرية .
لقد وصم سكان العالم ـ بازدراء ـ تلك الأعمال الإجرامية التى قام بها المعتدون الذين فرضوا أنفسهم فرضا على أراضى الدولة المصرية وسيادنها واستقلالها .
* – الإنذار السوفيتى
السيد دافيد بن جوريون
إن الحكومة الإسرائيلية المجرمة التى تفتقر إلى الشعور بالمسئولية ، تتلاعب الآن بأقدار العالم وبمستقبل شعبها بالذات .
السيد انتونى إيدن
السيد جى موليه
ترى الحكومة السوفيتية أنها مضطرة إلى لفت نظركم إلى الحرب العدوانية التى تشنها بريطانيا وفرنسا ضد مصر والتى لها أوخم العواقب على قضية السلام .
كيف كانت بريطانيا تجد نفسها إذا ما هاجمتها دولة أكثر قوة ، تملك كل أنواع أسلحة التدمير الحديثة ؟
إن هناك دولة الآن لا يلزمها إرسال أسطول أو قوة جوية إلى سواحل بريطانيا ولكن يمكنها استخدام وسائل أخرى مثل الصواريخ.
إننا مصممون على سحق المعتدين ، وإعادة السلام إلى نصابه فى الشرق الأوسط عن طريق استخدام القوة إننا نامل فى هذه اللحظة الحاسمة أن تأخذوا حذركم ، وتفكروا فى العواقب المترتبة على ذلك .
ماريشال بولجانين
*
* -رحل آخر الجنود الإنجليز والفرنسيين يوم 23ديسمبر 1956 .
-تم جلاء إسرائيل عن سيناء وغزة يوم 6مارس 1957 .
-أعيد فتح قناة السويس للملاحة بعد تطهيرها وبقيادة مصرية كاملة يوم 29مارس 1975
المصدر: مجلة الوعي العربي