في أي حركة تسعى لتغيير واقع قائم مستحكم (سواء كان واقعًا سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا) لا بد للباحث عن التغيير (فردًا أو جماعة) أن ينطلق من مقدمات معلومة في محاولة للوصول إلى نتائج مجهولة لكنها مأمولة. بمعنى أن الشرط الأساسي لإحداث تغيير جذري في واقع مهيمن ومتغلغل في الزمان والمكان والبناء هو المعرفة التفصيلية الدقيقة لمكونات هذا الواقع وارتباطاته ومرجعيته وعوامل القوة والضعف في بنيانه. لا بد من سبر أغواره ودراسة أحواله ومعرفة عوامل تطوره كخطوة أولى في رحلة التغيير المنشودة. الشرط الثاني لإحداث التغيير يكمن في وضع أهداف كبيرة محددة المعالم معقولة وغير خيالية تشكل الطموح والحافز للعمل والبوصلة للحركة. هذه الأهداف تمثل التحدي والرهان الذي يحاول الباحث عن التغيير كسبه عبر خطة العمل التي وضعها لقهر مفردات الواقع القديم وتطويع مكوناته ومقاومة عناصر القوة الكامنة فيه والتي تعيق عملية التغيير. الشرط الثالث لإحداث التغيير – الذي يشمل شريحة اجتماعية واسعة – يكمن في القدرة على خلق حالة من الانسجام بين مكونات الجهة الطامحة بالتغيير وتشكيل كيان متماسك قوي وإفراز قيادة مركزية تقود عملية التغيير وتمتلك من الكفاءة الفكرية والعملية والأدوات ما يؤهلها لتحقيق التغيير المنشود. تحصل المشكلة عندما يتحرك الباحث عن التغيير انطلاقًا من مقدمات مجهولة، بمعنى أنه يحاول أن يغير واقعًا لم يسبر أغواره ولم يعرف تفاصيله بشكل جيد. ستكون النتيجة غالبًا حالة من التوَهان والضياع والتخبط، وستفشل المحاولة عند أول منعطف. أو أن يتحرك الباحث عن التغيير دون وضع أهداف كبيرة يسعى نحو تحقيقها. ستكون النتيجة غالبًا عشوائية في الحركة تؤدي إلى دمار وتخريب البنى القديمة أو إضعافها دون إيجاد بناء جديد بديل وأفضل من سابقه، أي أنه ربما ينجح في هدم الكيان القديم لكنه سيفشل في بناء كيان آخر أكثر ملائمة من الأول، وسيصبح شريدًا بلا مأوى. أو أن تكون الحركة انطلاقًا من واقع معروف وباتجاه أهداف واضحة ومحددة لكن دون القدرة على بلورة هيكل تنظيمي وإفراز قيادة مركزية تنظم الحركة وتسخر الطاقات وتوجه الإمكانات وتستغل الأدوات المتاحة لتحقيق الأهداف المنشودة. ستكون النتيجة غالبًا صراعات داخلية تضعف الصف وتسمح للمتربصين بالتغلغل واستغلال التناقضات واستخدام المكونات ضد بعضها وبما يخدم أجندات وأهداف الآخرين، ستتحول الجهة الباحثة عن التغيير إلى دمية بأيدي الأطراف الأقوى منها. بالطبع هناك الكثير من العوامل والتفاصيل الأخرى التي تتداخل في عملية التغيير وتؤثر على مسارها وتحتاج إلى دراسة وتحليل، لكنني حاولت أن أكثفها في النقاط الثلاثة المذكورة لتشكل الخطوط العريضة والبوصلة اللازمة لبدء أي عملية تغيير على المستوى الشخصي والعائلي الضيق أو على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي والاستراتيجي الواسع. إن إهمال أي من تلك الشروط سيحول الجماعة الباحثة عن التغيير تدريجيًا إلى شبه مرتزقة توضع أمامها جزرة يصعب الوصول لها وتفني وقتها باللهاث خلفها دون جدوى. وليس من الضرورة أن تكون الجزرة مالاً أو سلطة، أحيانًا تكون الجزرة فكرة أو حلمًا. مع الزمن تتحول الجماعة فعليًا إلى أداة بيد جماعات أخرى تسعى أيضًا إلى تغيير ذات الواقع ولكن بما يخدم أجنداتها ويحقق أهدافها. وحينها فإن خيبة الأمل التي قد تصيب هذه الجماعة ربما تفوق بكثير خيبة أملها من قسوة الواقع التي سعت إلى تغييره والثورة عليه. بالطبع لا يمكن الادعاء أن النجاح حتمي لمن يحقق هذه الشروط. فهذه الشروط لازمة لكنها ليست كافية للنجاح. بدونها الفشل أكيد. ومعها احتمالات النجاح في إحداث التغيير تصبح كبيرة. وتبقى إرادة الباحث القوية وعزيمته الصلبة عاملاً مهمًا في إعادة تدارك أي خلل أو نقص في تحقيق هذه الشروط طالما هناك متسع من المكان وفسحة من الزمان وهامش من الصبر والجلد وقدر معقول من الطموح يدفعه إلى تصحيح المسار وترميم الفجوات ومسابقة الزمن قبل فوات الأوان بهدف تطوير الواقع وتحسين شروط الحياة فيه واستغلال اللحظة التاريخية المناسبة لإحداث التغيير المطلوب.
المصدر: اشراق