“طه حسين” التونسي: وزيرا للثقافة وصاحب مشروع رائد

محمد خليفة  

فيما مضى من زمان العرب غير البعيد، كان القذافي يقول مفاخرا (من ليبيا يأتي الجديد)، وبعد أفول تلك التجربة، أصبح الجديد يأتي من تونس. رئيس الجمهورية بلا أي تجربة سياسية، يترشح فينجح من بين حوالي 30 مرشحا حزبيا ومستقلا، خاض المنافسة بلا حملة انتخابية، ولا دعاية. وبينما كان ثعالب السياسة يظنون أنهم قادرون على احتوائه، أو اللعب من وراء ظهره طالما أن السياسة لم تعركه، اثبت أنه قادر على وضعهم جميعا في زاوية ضيقة، وإخضاعهم لإرادته!

المفاجأة الجديدة، حملتها حكومة هشام المشيشي التي نالت ثقة المجلس النيابي الاسبوع الماضي، إذ ضمت سبع نساء من بين 24 وزيرا فقط، وهي نسبة عالية تضاهي مثيلاتها في الولايات المتحدة، واليابان، وسويسرا!

وتمتاز الوزارة الأصغر منذ ثورة 2010 بميزة أخرى ربما تكون درسا مفيدا للبنانيين، إذ على الرغم من وجود أكثر من مائة حزب في تونس، فإن الحكومة الجديدة حكومة مستقلين من أصحاب الكفاءة والنزاهة والحياد، وجميعهم من الشباب! .

والجديد الأكثر إثارة للانتباه فهو وجود وزير للثقافة في الحكومة كفيف البصر منذ طفولته، ومع أن الوصف الذي يطلق على هذه الحالة هو الاعاقة فإن أهلية هذا الوزير العلمية ومواهبه وقدراته المتعددة تجعله متفوقا على ملايين المبصرين والأصحاء والأكفاء.

اسمه الدكتور وليد الزيدي من ولاية الكاف، شاب صغير نسبيا ، ولد عام 1986 ، فقد البصر في الثانية من عمره ، تلقى تعليمه في معهد خاص بالأكفّاء ثم التحق بمعهد الدراسات الادبية والعلوم الانسانية ، ثم انتقل الى دار المعلمين العليا ، وفي يناير 2019 نال الدكتوراه في الآداب قسم علوم البلاغة ، وكان أول كفيف يحصل على الدكتوراه ، وواصل الدراسة في علم النفس ، متخصصا بعلم نفس الاعاقة . وعمل استاذا للبلاغة والترجمة والفنون والانسانيات في الجامعة .

وهو يتقن الشعر ، ويعزف الموسيقى ، ويغني ، ويكتب النقد الادبي والأبحاث التخصصية في علوم الأدب .

ورغم ذلك لم يعجب ترشيحه كثيرين من أهل الحسد والغيرة فانتقدوا ترشيحه لوزارة مهمة لأن الكفاءات الادبية والعلمية في نظرهم لا تعوض عن فقدان الخبرة العملية ، وألمحوا الى أن عمل الوزير يتطلب أن يكون مبصرا ، فرد هو على صفحته على وسائل التواصل بالقول   ( الوزارة أتتني طوعاً لا كَرهاً ، ولم أَرِدْ مواردَها ولم أبلغ مبالغها ) وأوضح ( تلقيت بوجل وبتهيب كبير للمسؤولية خبر اقتراحي لتولي حقيبة الثقافة خاصة أنني مازلت دون 35 عاما وأنا أرى أن غيري أجدر بالاضطلاع بهذه الأمانة من المفكرين ومن أهل الفصاحة والفن ) 

 ثم كتب ثانية ( أُشْهِد الله وأُشْهدكم أنني تعفّفتُ عنها، كان ذلك حتماً مقضيّاً ، وإنني أرفضها ، وأستعفي منها ، وأقنع بكلّيّتى، فهي جنّتي، وبدرسي للطلبة ، فهو بَصَرى، وببيْتى،  فهو سَعْدى ومستقَرّى ) . 

وكتب مرة ثالثة : ( أعلن أنني لا أصلح إلا في الجامعة ، أو في خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة ، ومن موقعي أذود عن وطني وأتجنّد له ، فلستُ وزيراً ، ولن أكون وزيراً ، وأقسم بالله حتّى ألقاه أنّ هذا قراري منذ عقلت ، فليفرح لي أحبّائي ولا يأسوْا عليّ، ، فإنّ الثقافة ليست مؤسّسات وإنّما هي حياة ، ولا يشق من أعرض عني واعترض عليّ ، فقد أرادوا بي خيراً ورضوا لي الستر والعفاف ) . 

بعد هذا الموقف والقسم الذي تضمنه بألا يكون وزيرا ، أعلن رئيس الحكومة المكلف شطب اسمه من المرشحين ، ولكن رئيس الجمهورية قيس سعيد انتصر له ، واتصل به طالبا منه مقابلته في اليوم التالي ، حيث اقنعه أن يبقى ، لأنه كفؤ رغم إعاقته ،واصدر الرئيس بيانا يعبر فيه عن ثقته بصلاحية الزيدي بالوزارة ، فأعاده المشيشي للحكومة ، ونال ثقة المجلس النيابي ، خصوصا أنه طرح مشروعا استأثر بإعجاب المراقبين ، وهو حسب قوله (ما ما يطمئنني وما يبعث في نفسي الأريحية والمسرّة .. هو أن لي مشروعا ثقافيا ، وهذا المشروع أنشأته منذ شبابي ، أساسه النهوض بالمثقفين المغمورين ، والمهمشين ، والمبدعين من ذوي الاحتياجات الخصوصية ، الذّين لا يتم إنصافهم في التظاهرات الثقافية ، ممن لا يحرزون حظوظهم في هذا المجال ) . وتابع: ( مشروعي يتمثل أيضا في إيصال الثقافة الى العمق بالمناطق القصية لمقاومة الانحراف المبكر ، بالثقافة وبالإبداع واستثمار الكفاءات ، وأهم رهان هو الترويج للثقافة التونسية في العالم عموما )
وأردف الوزير: ( أنا مطمئن للفريق الذّي سأتعاون معه صلب الوزارة ، وهم من المعروفين بالكفاءة والحيادية والاستقلالية والتضحية وخدمة هذا البلد دون آي مقابل ) .

وعن إعاقته البصرية قال الوزير الشاب الدكتور وليد الزيدي (أنّ الإعاقة لا تمثل إشكالا ما دامت لم تعقنا عن العلم ، والكتابة والتعليم ، وعن ممارسة وظيفة الوزير والاطلاع عن الوثائق ، لأنه أصبح بقدرة الإنسان القراءة والتحري عبر أجهزة خاصة بحاملي الإعاقة ، حتى لا يستغل أحد تلك الإعاقة ) .
وأضاف: ( الإعاقة لم تعقنا في حياتنا اليومية والأسرية والمهنية ، ولن تعيقنا في الاضطلاع بأي أمانة أو مسؤولية لأن الانسان ينتج بعقله لا بحواسه ) .

والجدير بالذكر أن الزيدي هو العربي الثاني الكفيف الذي يشغل منصبا وزاريا بعد د . طه حسين الذي عين وزيرا للمعارف في مطلع أربعينات القرن الماضي . وقد لاحظ  مراقبون ومثقفون كثر تشابها كبيرا بين تجربة الزيدي وطه حسين ، فكلاهما فقدا البصر في طفولتهما ، وكلاهما واصلا التعليم وحصلا على الدكتوراه ، وكلاهما أصبحا وزيرين في تخصصات متشابهة . ولذلك صار يلقب ب ( طه حسين تونس ) .

المصدر:الشراع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى