2026عام ترسيخ الدولة وبناء السلم الأهلي

سونير طالب

مع اقتراب العام 2026، تبدو سوريا أمام لحظة فارقة لا تشبه ما سبقها، لحظة تستدعي قدراً استثنائياً من الوعي والمسؤولية بعد عام على انتهاء الحقبة الأشد ظلاماً وسقوط النظام البائد بكل رموزه وممارساته. فقد أتاح التحرير للسوريين فرصة نادرة لإعادة النظر في مفهوم الدولة التي يطمحون إليها، دولة لا يُعاد بناؤها بوصفها جهازاً إدارياً فقط، بل باعتبارها صيغة للعيش المشترك، ومؤسسة للكرامة الإنسانية، وإطاراً يعيد للمواطن موقعه الطبيعي في صناعة مصيره. وفي هذا السياق يدخل العام القادم باعتباره إطاراً استراتيجياً للحسم، عاماً يجب أن يُترجم التحول التاريخي من منطق الصراع إلى منطق البناء، ومن استعادة الأرض إلى استعادة المؤسسات، ومن الاحتفال بالحرية إلى هندسة بنيتها العميقة.
يبدأ هذا المسار من إعادة ترميم العقد الاجتماعي الذي مزقته عقود الاستبداد والمنظومات الأمنية، حيث تخلل النسيج الوطني خوفٌ تراكم حتى أصبح ثقافة، وتوزعت الثقة بين الهويات الفرعية بعدما عمل النظام البائد على تهشيم فكرة المواطنة ذاتها. وهنا، يصبح المجتمع المدني أمام مسؤولية لا يمكن لأي جهة أخرى أن تنهض بها: إعادة بناء الثقة بين السوريين، وتعزيز قدرتهم على صياغة هوية وطنية جامعة تتجاوز الجغرافيا والانتماءات الأولية، وتعيد تعريف سوريا بوصفها وطناً واحداً لا مجموعة مناطق متباعدة تبحث عن خلاص منفصل. وفي هذا المسار يتقاطع العمل الحقوقي مع العمل الثقافي والاجتماعي في شبكة واحدة من الجهود التي تقودها منظمات المجتمع المدني، لتضع الأساس الثقافي لإنهاء الانقسام الذي حاول النظام تكريسه لعقود.
المجتمع المدني أمام مسؤولية لا يمكن لأي جهة أخرى أن تنهض بها: إعادة بناء الثقة بين السوريين، وتعزيز قدرتهم على صياغة هوية وطنية جامعة تتجاوز الجغرافيا والانتماءات الأولية، وتعيد تعريف سوريا بوصفها وطناً واحداً لا مجموعة مناطق متباعدة تبحث عن خلاص منفصل.
ومع إعادة الاعتبار للهوية الوطنية، يبرز الدور الحاسم للعدالة الانتقالية باعتبارها الشرط الأخلاقي والسياسي لأي سلام مستدام. فالبلاد لا يمكن أن تبني مستقبلها على أرضية تتجاهل آلام الماضي أو تقفز فوقها، ولا يمكن لشعب قدّم هذا الكم الهائل من التضحيات أن يقبل بتسويات تُسقط حقوق الضحايا أو تُلمّع إرث الانتهاكات. العدالة الانتقالية هنا ليست مطلباً حقوقياً فحسب، بل هي نواة إعادة الشرعية للمؤسسات، وبوصلة تمنع انحراف الدولة المقبلة نحو أشكال جديدة من القمع. إنها العملية التي تربط الاعتراف بالحدث، بالمحاسبة، بجبر الضرر، بمصالحة وطنية واعية لا تستبدل الذاكرة بالنسيان، بل تُعيد صياغة الوعي الجمعي على أساس الحقيقة والمسؤولية.
وإذا كان البناء السياسي والأخلاقي يشكل الإطار العلوي للمرحلة القادمة، فإن البعد الاقتصادي يشكل قاعدتها الصلبة. فاستمرار السوريين في دورة الإغاثة لن يصنع دولة، ولن يمنح المجتمع القدرة على الصمود في وجه الأزمات المقبلة. ومن هنا، يصبح الانتقال إلى اقتصاد الإنتاج ضرورة وطنية، لا خياراً تنموياً فقط. وتتمثل الخطوة الأولى في تمكين الفئات الأكثر هشاشة عبر مشاريع قادرة على خلق فرص عمل مستدامة، وإحياء سلاسل الإنتاج الزراعية والصناعية التي تضررت بفعل الحرب، وتعزيز دور القطاع الخاص المحلي ضمن بيئة قانونية واضحة تحمي الاستثمار وتمنع الاحتكار، مع توجيه الجهود الدولية نحو مشاريع طويلة الأمد تعالج جذور الفقر لا أعراضه. وفي هذا السياق، يعود المجتمع المدني بوصفه جسراً بين المجتمعات والقطاعين العام والخاص، حاملاً المبادرات التي تجمع الموارد والخبرات وتحوّلها إلى نتائج ملموسة في حياة الناس.
تتمثل الخطوة الأولى في تمكين الفئات الأكثر هشاشة عبر مشاريع قادرة على خلق فرص عمل مستدامة، وإحياء سلاسل الإنتاج الزراعية والصناعية التي تضررت بفعل الحرب، وتعزيز دور القطاع الخاص المحلي ضمن بيئة قانونية واضحة تحمي الاستثمار وتمنع الاحتكار، مع توجيه الجهود الدولية نحو مشاريع طويلة الأمد تعالج جذور الفقر لا أعراضه.
وإعادة تشكيل الدولة في مرحلة ما بعد التحرير لا يمكن أن تنفصل عن إعادة بناء مؤسساتها. فالدولة السورية الجديدة تحتاج إلى جهاز إداري نظيف وشفاف، وإلى قضاء مستقل لا يُستخدم أداة للصراع السياسي، وإلى مجالس محلية قوية تتفاعل مع الناس بوصفهم شركاء لا رعايا. وهنا تتجلى الشراكة الطبيعية بين المجتمع المدني والدولة، فالأول يقدّم الخبرة الفنية والمعرفية، والثانية تقدّم الشرعية والسلطة التنفيذية. ومعاً يشكلان الإطار الوحيد القادر على منع عودة الفساد، وضمان ألا تتحول أجواء الانفتاح إلى بوابة لولادة استبداد جديد بأسماء مختلفة.
ولا يقلّ البعد الدولي أهمية عن الداخل، فالقضية السورية لم تعد ملفاً محلياً، بل أصبحت جزءاً من نقاشات أوسع حول الشرعية، والعدالة، واستقرار الإقليم. ومن الضروري أن يطوّر المجتمع المدني السوري دبلوماسيته الخاصة، القادرة على مخاطبة الرأي العام العالمي، وبناء تحالفات فعالة تحمي مسار التحول الديمقراطي، وتمنع أي محاولة لإعادة تدوير النظام البائد تحت مسميات سياسية جديدة. كما يظل ملف اللاجئين حاضراً بقوة، بوصفه أحد أعقد القضايا التي تحتاج إلى معالجة عادلة، تضمن حق العودة الطوعية الآمنة، وتمنع أي شكل من أشكال الضغط أو الإكراه أو المقايضة السياسية على حساب حقوق الإنسان الأساسية.
عام 2026 ليس عاماً عادياً في مسيرة السوريين. إنه عام التحول من الثورة إلى الدولة، ومن التضحيات إلى المؤسسات، ومن الألم إلى الرؤية، ومن الفوضى إلى البناء المنهجي القائم على قيم العدالة والكرامة والحرية.
ومع دخول سوريا مرحلة البناء، لا يمكن تجاهل الحاجة إلى استكمال وحدتها الوطنية بكل مكوناتها. فالمجتمع السوري يتطلع إلى اليوم الذي تعود فيه السويداء والحسكة إلى الإطار الوطني الكامل، لتكتمل خريطة الدولة وتستقر مؤسساتها ضمن مظلة واحدة. وليس هذا طموحاً سياسياً مجرداً، بل حاجة تاريخية لضمان ألا تتكرر الانقسامات التي هندسها النظام السابق واستثمر فيها.
إن عام 2026 ليس عاماً عادياً في مسيرة السوريين. إنه عام التحول من الثورة إلى الدولة، ومن التضحيات إلى المؤسسات، ومن الألم إلى الرؤية، ومن الفوضى إلى البناء المنهجي القائم على قيم العدالة والكرامة والحرية. لقد منح السوريون العالم درساً عظيماً في الصمود، والآن حان الوقت ليمنحوا وطنهم درساً أعظم في القدرة على البناء. لقد استعاد السوريون بلدهم… ويبقى أن يستعيدوا مستقبلهم.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى