
وأنا أرى اليوم ملايين السوريين في الساحات، قلتُ: “إضافةً لفرح السوريين اليوم بذكرى انتصارهم، فهم إنما يفعلون ذلك، لأنهم توقّفوا أخيراً عن اعتياد الخوف”. بالنسبة لي، ذاك هو التحوّل الحقيقي الذي وقع في 8 من ديسمبر. فالأهم كان أنه سقط الإيقاع اليومي للرعب، وانكسر ذلك الزمن اللزج الذي كان يُقنع الناس أن الإيقاع قدرٌ سوريٍّ أبدي.
ومع ذلك فإن الفرح الذي اجتاح السوريين لم يكن يتسم بالصخب فقط، والأهم أنه لم يكن بريئاً كما بدا في ظاهره. بدا كحالة انتقام من عقود الخوف والألسنة المربوطة، والخشية من الجدران التي امتلكت آذان تشي بحركاتهم وسكناتهم. وبدا أنه، إضافة لما سبق، فرحاً مرتبكاً وفوضوياً، يعيشه أناس لم يعتادوا الفرح الحقيقي سابقاً. فهو يشبه فرح من يخرج من تحت الدمار ولا يعلم إذا كان القصف قد توقّف، أم أن هناك موجة أخرى من القنابل تستعد للانطلاق. على الأغلب هذا ما جعل الفرح مختلفاً عن كل أفراح الشعوب الأخرى. فرحٌ ليس في مسارٍ طبيعي كما في حالات الاعتياد عليه، حين يبدو كحالة نشوة عابرة. كان في فرحنا ما يشبه رسالة جذريّة أن سوريا لن تعود كما اعتادت لعقود، تحت أية سلطة كانت.
إن الفرح في أغلب حالاته ليس أبيضاً على الدوام، ولا بد أن يشوبه نوع من السواد، سواد الخسارات، وسواد الأسئلة المشككة بالمستقبل والحساب المؤجل عن الماضي. وربما هذا ما يؤكد مصداقيته.
قدّم لنا التاريخ نماذج كثيرة لفرح الناس، بعضها لم يكن مجرد احتفالات، ولكنها لحظات ولادة قد يليها امتحانات عسيرة. حين سقط جدار برلين، ومع فرح الألمان بوحدة بلدهم فقد دخلوا في أكثر سنواتهم صعوبةً، اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً. وعندما خرج نيلسون مانديلا من السجن، لم تُغلق جنوب إفريقيا جراحها وتطوي سنوات الفصل العنصري دفعةً واحدة، إنما فُتحت تلك الجراح على مصراعيها ضمن مسارٍ طويل اسمه “العدالة الانتقالية”.
هكذا كنت أرى الفرح السوري العظيم اليوم. فمن الغفلة اعتباره إعلان انتصار نهائي، بقدر ما كان محطة تشير إلى القادم من تاريخ سوريا. بدا لبعض السوريين وكأنه، على نحوٍ غير رسمي، إعلان الناس عن نيتهم الدخول في زمنٍ حقيقي وربما طبيعي، بعد عقود من الأزمان المزورة. أزمانٌ بدت كمسرحية قام فيها الجميع بأدوار متناوبة كانت مطلوبة منهم، فأتقنوا، باتفاقٍ صامت، حفظ الأدوار، من دون أن يتاح لأي أحد منهم أن يرتجلَ، فيقول أو يفعل ما يريد فعلاً. كان المؤكد الوحيد اليوم أن السوريين اتفقوا، وهم يرقصون محتفلين بعودة المعنى لحياتهم، وأنهم لن يعودوا إلى القفص، بعد أن أسقطوا في 8 من ديسمبر، ليس الحالة الأسدية وحدها، بل كامل منطقها في إدارة الحياة على نحوٍ متخلّف ورثٍّ وتعسفي.
قام المنطق الأسدي في أهم مرتكزاته، على إذلال الإنسان السوري وتجفيف السياسة من حياته، باسم استقرار البلد مستخدماً عصا “الدولة”. ما استلزم تالياً تحويل الوطن السوري إلى شركة أمنية كبرى. ولذا نجد الناس اليوم، تعدد أسماء السجون التي تمَّ تحطيم أبوابها، والتماثيل التي أسقطوها، وأحياناً ينتبهون إلى الجمل التي باتوا يرددونها من دون أن يضطروا للتلفّت إلى الخلف خشية المخبرين، كما لو أنهم يقشرون الخوف عن أرواحهم. والأهم، وفي هذا شيء من الكوميديا، أنهم يتخذون القرارات الصغيرة، وهم يشعرون لأول مرّة أن لهم علاقة مباشرة بحياتهم الشخصية والخاصة التي استعادوها، وتالياً الحياة السورية العامة. فبدأوا، ولو على استحياء، التحوّل من كائنات حيادية، مراقَبين في حركاتهم وسكناتهم، إلى مشاركين.
للأسف طبعاً، فإن الفرح في أغلب حالاته ليس أبيضاً على الدوام، ولا بد أن يشوبه نوع من السواد، سواد الخسارات، وسواد الأسئلة المشككة بالمستقبل والحساب المؤجل عن الماضي. وربما هذا ما يؤكد مصداقيته. فالدولة ما زالت هشّة والاقتصاد في غرفة العناية المشددة، والعدالة حتى الآن ملف مفتوح لم يرَ السوريون منه سوى العناوين الأولى، والأخطر أن السلاح لم يغادر الأيادي الخطأ. ومع ذلك، يفرحون ليبدو الفرح في حالتهم تلك كنقطة قوة مستعدون لدفع ثمنها غريزياً.
طبعاً، يعلم الجميع أن هذا الفرح الغريزي قد يتحول في أية لحظة إلى ما يشبه النار في الهشيم. أما الفرح السياسي الرشيد، مع أن فيه شيئاً من سمات النار لكنها ضمن الموقد، فهي بطيئة لكنها طويلة وتُدفئ أكثر مما تحرق. والأكيد أن ما تحتاجه سوريا بعد عامٍ على التحرير ليس المزيد من الأغاني الوطنية، على جمالها، إنما تحتاج، أكثر من أي شيء آخر، إلى القوانين الواضحة، والقضاء المستقل الذي لا تأخذه في الحق لومةٌ، والمؤسسات الشفافة، وقبل كل ذلك، تحتاج إدارةً ترى المواطنين سوريين بمعزل عن أعراقهم وطوائفهم. فكما أن الفرح لا يحمي الدولة، فهو إنما يجب أن يدفع باتجاه المطالبة بدولة تستحق الفرح، من دون آمال زائفة قد تتلاعب بنا لتغدو كما لو أنها نوع من المخدّر.
فرحت وأنا أعلم أن مقومات الدولة لم تكتمل بعد، لكنّي بت قادراً على الخلاف معها دون أن أُساق إلى الزنازين في اليوم التالي.
لستُ غافلاً، وأعلم تماماً أن الفرح السوري يشبه فرح الخارجين من المقابر الجماعية، وكنت قد رأيت الكثير من الناس في مدينتي، يبتسمون وفي أفواههم طعم تراب أنقاض بيوتهم، ويطلبون الذهاب إلى المحاكم وبناء الدستور أكثر حتى من إعادة الإعمار، وينتظرون إصدار قوانين تنصفهم. ومع ذلك، أعرف أكثر أن تحرير سورية ليس فقط لحظة فاصلة، بقدر ما هو مسار طويل وعسير. فالتحرير الحقيقي هو أن نحرر الجيش الوطني وقوات الأمن الجديدة من التسييس، وأن نحرر الإعلام من الإيديولوجيا والاصطفاف الأعمى، وقبل كل ذلك أن نحرر المدرسة من التلقين، والدين من التوظيف السياسي. كل ذلك بهدف إسقاط أية فكرة تسمح بولادة نظامٍ يشبه نظام الأسد.
شخصياً، لم أكن اليوم فرحاً لأن الطريق السوري غدا سهلاً، لكني فرحت لأن السوريين أخيراً وجدوا ما يمكن، لو أُحسِنت الإدارة، أن يكون طريقاً. فرحت وأنا أحلم بدولةٍ تستطيع ابتداع آليات لتصحيح الأخطاء والانحرافات حين تحدث. فرحت وأنا أعلم أن مقومات الدولة لم تكتمل بعد، لكنّي بت قادراً على الخلاف معها من دون أن أُساق إلى الزنازين في اليوم التالي.
المصدر: تلفزيون سوريا


