مسلمو فرنسا والهوس الإعلامي

عمر المرابط

في كل ما يتعلق بمسلمي فرنسا، أتحاشى، في حديثي، خطاب المظلومية، مغلِّباً نظرة التفاؤل أو النظر إلى نصف الكأس الملآن. لكنّنا في ظرف وجيز لم يتعدَّ بضعة أيام، خرجت علينا الصحافة الفرنسية في ثلاث محطّات متتالية بما لا يمكن وصفه سوى بالهوس الإعلامي، والاستهداف المُمنهَج المُبرمَج. أولى هذه المحطات استطلاعُ رأيٍ يتهم المسلمين بالتطرّف والرغبة في تطبيق الشريعة. الثانية، توصيات ومقترح مجموعة في مجلس الشيوخ الفرنسي يتهم المسلمين باختراق المؤسّسات العامة، وتوصي بمنع صيام القاصرين دون السادسة عشرة، وأخيراً برنامج تحقيقي يكشف الحملة الممنهجة التي يتعرّض لها مسلمو هذا البلد على يد بعض القنوات الإخبارية الفرنسية، وفي مقدمتها قناة “سي نيوز” موضوع التحقيق.
أصبحت قناة سي نيوز الأولى في فرنسا بفضل تحاملها الدائم على الإسلام والمسلمين
نبدأ باستطلاع الرأي الذي يقال إنّ دولةً عربية موّلته، وأجراه المعهد الفرنسي للرأي العام (IFOP)، ونشره في موقعه في 18 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، قائلاً إنه يريد إلقاء نظرة عامة على علاقة المسلمين بالإسلام والإسلاموية، وتقديم رؤية غير مسبوقة للتحوّلات العميقة التي شهدها الإسلام في فرنسا في الأربعين عاماً الماضية. بالنظر إلى زيادة أهمية المسلمين في هذا البلد، الذين أصبحوا يمثّلون حوالى 7% من ساكنة البلاد (الإحصاءات على أساس الدين أو العرق ممنوعة في فرنسا). لكن الضجة التي غصّت بها موائد النقاشات داخل القنوات الإخبارية، حتى قبل النشر، كانت تتحدّث عن التطرّف الإسلامي الذي يزداد انتشاراً داخل أوساط الجالية العربية والمسلمة، خصوصاً بين الشباب منهم، وأنهم يجعلون تطبيق الشريعة الإسلامية فوق احترام قانون الجمهورية بنسبة 59%، حسب ما ذكرت صحيفة لو جورنال دو ديمانش، بينما يؤيّد 38% من المسلمين “الطروحات الإسلاموية المتشدّدة”، ومن ثمّ تعالت أصوات تدين خطورة هذا التطوّر “المميت”، الذي يضرب عقول ثلث مسلمي فرنسا، ورأينا عناوين عريضة كبيرة تحذّر من هذا التهديد الكبير، خاصةً في القنوات والصحف الخاصة، وأغلبها إمّا مملوكة للمجموعة نفسها أو تابعة للتيار ذاته.
اتّبع الاستطلاع من الناحية الشكلية منهجيةً تبدو مقنعةً للمتخصّصين، لكنّه قدّم من حيث المضمون خلاصاتٍ جاهزة معدّة سلفاً، قصدُها وصمُ مواطني فرنسا المنتمين إلى الدين الإسلامي بالتشدّد والتطرّف والرغبة في تغيير تركيبة المجتمع الفرنسي ثقافةً وديناً. وقد حلل موقع ميديابارت الاستطلاع، ليفضح الأسلوب المُستعمَل، فكلمة “الشريعة الإسلامية” لم تُذكَر، ولم تُنطَق البتّة عند الاستجواب، بل كان السؤال بشأن “القانون الإسلامي” ومدى الرغبة في تطبيقه. وإذا كانت النتيجة تفيد بأن 15% من المسلمين يرغبون في تطبيقه كاملاً، أجاب 31% بالإيجاب على عبارة “يجب تطبيق القانون الإسلامي جزئياً ويمكن تكييفه مع القانون الفرنسي”، ما يدلُّ، في الحقيقة، على رغبة هؤلاء في احترام قوانين الجمهورية، وليس العكس.
وبرغم التباين الواضح بين الفئتَيْن، جُمعت النسبتان معاً لتصلا إلى هذه النتيجة غير المنطقية البالغة 46% لدى العموم، و59% لدى الشباب، كما ظهر في التغطيات الإعلامية لقنوات وصحف عدّة مثل قناة “بي إف إم” الإخبارية، أو صحيفتَي لوفيغارو وشارلي إيبدو، بالإضافة إلى “سي نيوز” ولو جورنال دو ديمانش.
لم يمتصَّ مسلمو فرنسا بعد صدمة هذا الاستطلاع “المُريب المُعيب”، حتى طلعت علينا صحيفة لو فيغارو (واسعة الانتشار) بعنوانٍ في صفحتها الأولى يقول: “الاختراق الإسلامي… توصيات اليمين الصادمة في مجلس الشيوخ”، لتنبئنا عن تقرير من 107 صفحات قدَّمه 29 عضواً في مجلس الشيوخ عن حزب “الجمهوريون” اليميني التقليدي، يهدف إلى محاربة “الاختراق أو التسلّل الإسلاموي” إلى مفاصل الدولة الفرنسية، ويقدّم 17 توصية تهدف إلى “إعادة التسلح” ضدّ ما سمّاها “الهجمة الإسلاموية” التي تمسّ فرنسا، ولمكافحة “المشروع الانفصالي طويل الأمد” الذي تحمله “الأيديولوجية الإسلامية أو الإسلاموية” حسب الترجمة التي يمكن أن نعتمدها.
من جملة المقترحات، نذكُر للقارئ التوصيات التالية: حظر ارتداء الحجاب للفتيات دون 16 عاماً في الأماكن العامة، منع الصيام (صيام رمضان هو المُستهدَف) لمن هو دون 16 سنة، حظر ارتداء الحجاب لمرافقات الرحلات المدرسية (من الأمهات، لأن الموظفات ممنوعات أصلاً) ولمزاولات النشاط الرياضي، إلزام المُنتخَبين المحلّيين بالحياد الديني (يهدف إلى منع المتحجّبات من الترشّح للانتخابات المحلّية في أفق الانتخابات البلدية المُقرَّرة في مارس/ آذار المقبل)، تتبّع ومراقبة تمويل المساجد والجمعيات الدينية أكثر، وإحالة الحقّ في إصدار التأشيرات إلى وزارة الداخلية. …هي إذاً توصيات يمينٍ تقليدي فقد بوصلته، فأصبح يزايد على اليمين المتطرّف في أفكاره وفي عتاده، ظنّاً منه أنه سيجلب إليه الفئات التي فرّت منه، لكن هيهات هيهات.
المحطة الثالثة، ما جاء في برنامج كومبليمان دانكيت، الذي بُثَّ الخميس الماضي في “فرانس 2″، وهي قناة عمومية، بعنوان: “طريقة سي نيوز… أخبار أم معلومات مضللة؟”؛ أظهر تحامل هذه القناة التابعة للملياردير الفرنسي فانسان بولوريه، الداعم لأقصى اليمين المتطرّف، إذ كان أكبر داعمي إريك زمور في الانتخابات الرئاسية الماضية، وهذا (زمور) أشدّ تطرّفاً من منتسبي حزب التجمع الوطني، المتطرّف الذي تتزّعمه مارين لوبان.
تتحوّل علمانية فرنسا “المحايدة” هوساً وتخوّفاً من الدين الإسلامي ومنع تمظهره عبر المنتسبين إليه
نكتفي بشهادة أحد الصحافيين الذي استقال من القناة بسبب رفضه أوامر مدير الأخبار الذي قال له يوماً: “نحن على عتبة انتخابات، من الآن فصاعداً موضوعنا هو مسلم، مسلم، مسلم”، بمعنى: لا أريد منك سوى المواضيع التي تمسّ المسلمين وتَصِمُهم. …هكذا هي هذه القناة التي أصبحت القناة الإخبارية الأولى في فرنسا بفضل تحاملها الدائم على الإسلام والمسلمين، وترديدها ثالوث مواضيع: “الإسلام، والهجرة، وانعدام الأمن”، والربط بينها على نحوٍ مخيف ومرعب، خصوصاً لأولئك الموجودين في المناطق النائية أو ما تسمّى “فرنسا العميقة”، الذين باتوا يعتقدون أن باريس أضحت مزرعة إبل، وأن كنائسها غدت مساجدَ وأجراسها مآذن. أمّا محلّات عطورها فأصبحت مباخرَ، ومتاجر أزيائها ملأى بالقمصان والجلابيب، أمّا مطاعمها الفاخرة فقد تحوّلت مطاعمَ كباب ومشاوي.
هي ظاهرة تُنبئ بتحوّل علمانية فرنسا “المحايدة” هوساً وتخوّفاً من الدين الإسلامي ومنع تمظهره عبر المنتسبين إليه. هي قناة ليست الوحيدة في تحاملها، لكنّها الأكثر مبالغةً، إلى درجة أن بعضهم يشبّهها بمثيلتها “فوكس نيوز” الأميركية التي ساعدت ترامب في الوصول إلى السلطة؛ فهل سنرى “ترامب فرنسيّاً” في رأس الجمهورية الفرنسية سنة 2027؟ هذا غير مُستبعَد تماماً.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى