مرتكزات انتقال سوريا الجديدة إلى دولة تنموية /2 – 3/

الدكتور عبد الله تركماني

ثالثًا. أهم التحديات التي ستواجه التنمية بعد التغيير
ثمة تحديات عديدة ستواجه سورية بعد التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، إذ أدت أربعة عشرة سنة من الصراع في سورية وعليها إلى سيطرة قوى الأمر الواقع على أربع مناطق متنافرة، وقد رافق ذلك تشظي المجتمع السوري. مما يفرض – بداية – إعادة توحيد الجغرافيا السورية وعودة السلم الأهلي إلى مكوّناته الطائفية والمذهبية والقومية، ومن ثمَّ إعادة الإعمار وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، في ظل انحسار الدور التنموي والخدمي للدولة منذ سنة 2011، وسيادة مافيات الميليشيات على اقتصاد الحرب، المتمثل في تجارة السلاح ومخدر الكبتاغون وفرض الأتاوات على الحواجز المتعددة، إضافة إلى نهب وتعفيش أملاك المواطنين. كما أنّ أغلب المؤسسات تعاني من الترهل والتسيّب والركود، خاصة أنّ بعضها قد تحوّل إلى مؤسسات وجاهية وبيروقراطية.
ولا شكَّ أنّ إطالة أمد الصراع وما رافقه من الفساد ومظاهر الإثراء الخيالية لدى أمراء الحرب، وعدم الولوج في الحل السياسي للمسألة السورية، فاقما التحديات على المستوى الإنساني. خاصة أنّ حكومات الأمر الواقع افتقدت الحوكمة الرشيدة، مما فاقم من تحديات التنمية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين السوريين، إذ ازداد تردي أوضاعهم على صعيد الحياة اليومية. مما أدى إلى استمرار ظاهرة الهجرة، بالرغم من كل مخاطرها، خاصة إزاء التضييق الممنهج على اللاجئين في دول الجوار.
وفي الواقع، منذ عام 2012 توقفت العديد من مشاريع التنمية – القليلة أصلاً – في منطقة سيطرة النظام، بل تحوّلت هذه المنطقة إلى دولة فاشلة بالتدريج، غير قادرة على تلبية الحدود الدنيا من حاجات شعبها، وعدم سيطرتها على حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. ومن مؤشرات ذلك تزايد الحاجة إلى المساعدات الإنسانية، إذ ” أدت الزلازل التي ضربت شمال وغرب سورية في شباط/فبراير 2023 إلى تفاقم أزمة إنسانية طويلة الأمد في البلاد، مما ترك الأسر المنهكة بلا شيء تقريباً. وقبل وقوع الزلازل، كان 12.1 مليون شخص بالفعل في قبضة الجوع، وكان2.9 مليون شخص يقتربون من حافة الجوع. كما ظهرت التغذية باعتبارها مص قلق كبير، وقد وصل التقزم (النمو المحدود للأطفال بسبب سوء التغذية) وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة بحلول نهاية عام 2022.
ومما يجدر ذكره أنه ” وُلِد حوالي 5 ملايين طفل في سورية منذ عام 2011، ولم يعرفوا سوى الحرب والنزاع في أجزاء كثيرة من البلاد “. كما أنّ تقريراً لمنظمة يونيسيف ذكر ” إنّ أكثر من 4 آلاف مدرسة، أي ما يشكل 40 بالمئة تقريباً من المدارس، تعرّضت للضرر أثناء الحرب أو باتت تُستخدم لإيواء النازحين داخل البلاد، ومنها ما تم الاستيلاء عليها من قبل الجماعات المسلحة أو الميليشيات في جميع أنحاء سورية “. مما أدى إلى التسرب المدرسي والتوجه إلى سوق العمل في ظل تفاقم سوء الأوضاع الاقتصادية للأسر السورية.
إنّ المعطيات السابقة تشير إلى فشل الدولة السورية في صون الأمن الإنساني للمواطنين، بما فيها توفير الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة الأساسية، مما دل على أنّ الدولة أضحت مجرد سلطة تسيطر على جغرافيا مبتورة الأوصال، وتسير من فشل إلى فشل، مما شكل مقدمة إلى انزلاق الحراك الشعبي إلى حرب أهلية، وظفتها قوى الأمر الواقع لتقاسم النفوذ فيما بينها من جهة، ومن جهة أخرى إلى مزيد من التشظي السوري، حسب تعريف المركز السوري لبحوث السياسات. وقد ترتب على ذلك تشظياً سكانياً، نتيجة للتهجير والنزوح في الداخل والهجرة إلى الخارج، وتزايد أعداد الوفيات الناجمة عن الصراع المسلح.
مؤشرات عامة لتحديات التنمية في سورية خلال سنتي 2023 و2024
تفاقم تراجع الاقتصاد السوري في هاتين السنتين، ومن مؤشرات ذلك خسارة الليرة السورية من قيمتها الشرائية، حيث سجلت هبوطًا مريعًا لقيمتها أمام العملة الصعبة، إذ وصلت قيمة الليرة مقابل الدولار إلى أكثر من 14 ألف ليرة سورية.
وفي حين أنّ الموازنة السورية كانت قد “بلغت في مطلع عام 2012 نحو 24 مليار دولار، ولكن عامًا تلو آخر بدأت تنهار الدولة من الداخل حتى وصلت مطلع عام 2024 إلى ثلاث مليارات دولار فقط، وفق سعر صرف الدولار في البنك المركزي السوري ونحو مليارين وقليل على حسابات السوق السوداء”.
وهكذا، تفاقم الوضع الاقتصادي في سورية نحو مزيد من التدهور، مما صعّب إمكانية عودة النازحين والمهاجرين إلى ديارهم، دون الانخراط في عملية إعادة الإعمار. إذ ” يمكن النظر إلى إطار إعادة الإعمار بأنه استكمال لعملية التدمير التي أحدثت تغييراً كبيراً في الطابع الديموغرافي للبلاد، حيث سعى النظام، من خلال تمكين الرأسماليين المحسوبين عليه عبر عملية إعادة الإعمار لإحداث تحوّل في التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما ساهم في ترسيخ قبضته السلطوية على البلاد “.
لقد كانت ثقافة التنمية الشاملة تواجه عقبات على مستوى مؤسسات مناطق سلطات الأمر الواقع، منها: أزمة مشاركة المواطنين في مناقشة الخيارات المتاحة، وضعف منظمات المجتمع المدني ذات الصلة بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف أدوار المجالس المحلية واللامركزية الإدارية. وكان من نتائج ذلك الضعف محدودية مشاريع تنموية في البنى التحتية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، والاعتماد على مساعدات الإغاثة الإنسانية، التي كانت ميداناً لسطوة ميليشيات المناطق الأربع.
وهكذا، لا يمكن الشروع في تنمية إنسانية شاملة بمعزل عن إعادة إعمار سورية، وذلك لن يتم بمعزل عن السياق السياسي، أي عملية انتقال من نظام استبدادي أدى إلى كارثة إنسانية إلى نظام يعتمد التنم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى