عندما ينتظر لبنان البابا لاوون الرابع عشر

يقظان التقي

ينتظر اللبنانيون زيارة رئيس الكنيسة الكاثولكية، البابا لاوون الرابع عشر، وهي زيارة صلاة وتأملات، أعطي لها عنوان “طوبى لصانعي السلام”، وتحمل الزيارة تأكيداً على دور لبنان المحوري والٳيجابي في الشرق الأوسط، وعلى كونه نموذجاً في العيش المشترك المسيحي- الٳسلامي. وتكتسب الزيارة أهمية بوصفها رسالة دعم روحي وسياسي وٳنساني، تعطي لبنان دفعاً نحو الاستقرار والسلم في الظروف الصعبة التي يمرّ بها، سياسية واقتصادية وأمنية، في وقت تكثف القوات الٳسرائيلية ضرباتها في جنوب البلاد والعاصمة بيروت، بينما تزيد واشنطن من ضغطها على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله بعد مرور سنة وأكثر على اتفاق وقف ٳطلاق النار 2024، أو ما تبقى منه. وفي هذا السياق، تأتي الزيارة البابوية للمنطقة، فيما تعزّز الولايات المتحدة حملتها لفرض السلام ولو بالقوة.
تشكّل الأيام البابوية لحظات من المجتمع المفتوح، ومن الطبيعة البيضاء والقوة اللينة على صعيد الشراكة الروحية والدينية والقيم الحضارية التي ميّزت الكيان الصغير، وشكلت عناصر حمايته بعد كل المآسي وقساوتها. فتعكس الزيارة بعض الوقائع التي اختفت منذ العام 2012، مع زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر، ونجم عنها “الٳرشاد الرسولي” والاختبارات الفكرية والتأملات المستقبلبة للحضور المسيحي في لبنان والمنطقة، وٳضاءة مهمّة في طريقة مخاطبة اللبنانيين فوق انقساماتهم وعداواتهم الداخلية وولاءاتهم الخارجية، وٳمكان ٳظهار أشياء من ذلك الدور الذي يكاد يتلاشى، ولبنان لم يعد لديه ما يستحق ويحصل عليه بشق الأنفس.
لذلك، تبرُز مجدّداً علاقة الفاتيكان مع لبنان، ومن المهم دراسة المشهد المسيحي، حيث تبرُز المطالبة بتوسيع نطاق اللامركزية. وتحمل الزيارة في طيّاتها حاضنة معنوية لعلاقة تاريخية ساهمت في ٳبعاد القلق الوجودي عن مسيحيي لبنان والشرق، وتحت هذا العنوان تنطلق عبارة “لبنان الرسالة” على لسان البابا يوحنا بولس الثاني.
تأتي الزيارة البابوية للمنطقة، فيما تعزّز الولايات المتحدة حملتها لفرض السلام ولو بالقوة
تقع الزيارة على الخط الروحي هذا، وتعتبر محطّة مهمّة في الدعوة ٳلى التسامح والحرية الدينية والاستقرار العام، انطلاقاً من حرص صاحب الكرسي على فتح قنوات التواصل مع عواصم القرار في واشنطن وباريس وعواصم عربية وطهران للمساهمة في ٳبعاد “الكأس المرّة” عن لبنان. والحكومة تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، للتركيز على حصر السلاح بيد الدولة، ما يثير جدلاً واسعاً حول كيفية تحقيق ذلك. وتعتبر القوى المسيحية، على وجه الخصوص، أن وجود سلاح الحزب يشكل تهديداً لاستقرار لبنان، فيما تدافع بعض الفصائل عن حقها في الاحتفاظ به وسيلة للدفاع، وٳذا ما استمرّت الانقسامات الداخلية وفشل اللبنانيون في التوافق، ستزداد دعوات أطرافٍ عديدة إلى إنهاء الصيغة اللبنانية الحالية.
في هذا السياق، تبرز الحاجة ٳلى حوار شامل يهدف ٳلى ٳيجاد حلول تضمن الأمن والاستقرار لجميع الأطراف. وهي أفكار دأب الفاتيكان على حملها، وما يجعل منها “رجاءً جديداً” على مسافة مباشرة من حساسية البحث في مسائل الطائف والأسلحة ومستقبل النظام، وبهدف الدفع نحو السلام والاحترام المتبادل بين كل الأديان، بين المسيحيين وإخوانهم من المسلمين في منطقة تخضع لضغوط هائلة بسبب عدوانية ٳسرائيل التوحشيّة من جهة، ورموز التطرّف والنعرات المذهبية والفيدراليات وتراجع الأمان من جهة أخرى.
حاضرة الفاتيكان على علم واسع بأوضاع البلاد ومستجدّاتها وتعقيداتها الداخلية. فقط في لبنان هناك من يتخلّف عن سداد الديون، ويتجنب كل ٳصلاح. والخشية أن يكون هناك من يحاول أن يطمس الوقائع في زيارة رعوية، أو مؤتمر استثماري. هذه ليست استراتيجية. ٳنها دراسة حالة عن مدى انفصال اللبنانيين عن واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتعثر.
ثمّة حاجة ٳلى حوار شامل يهدف ٳلى ٳيجاد حلول تضمن الأمن والاستقرار لجميع الأطراف. وهي أفكار دأب الفاتيكان على حملها
تميل المجتمعات التي تعاني من المآىسي ٳلى تعديل الواقع على مستوى اللاوعي الجماعي لديها، في أحيانٍ كثيرة، بتضخيم الوقائع وتحويلها ٳلى قصص إيمانية، أو تصوّرات مثالية في بناء رموز الخلاص، التي تعزّز عاطفة المجتمع وقدرته على الصمود. وفي غالب الأحيان، يلجأ اللبناتيون ٳلى طمس الأمور لصالح استنهاض قدرات التعايش والازدهار. ولكن من الصعوبة اليوم الحفاظ على مثل هذه التصورات، عندما تكون السياسة مدفوعة بأفراد يركّزون أكثر على تنظيم اللحظة، بدلاً من الٳصلاح الجذري، في ظل عدم اليقين في الاستقرار الٳقليمي والشكل المؤسّسي للدولة، وفقدان الثقة التاريخي والجمهور.
الحكومة اللبنانية غائبة عن بحث العلاقة المتوترة مع واشنطن، وعن نقاش الخط السياسي الذي تظهره خطابات أركانها، وهو نفسه تقريبا، بينما أطراف أخرى غير مقتنعة بذلك، والأمور تراوح مكانها. لم ترد ٳسرائيل على قبول الرئيس اللبناني، جوزاف عون، بمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، ولا أحد يدري ٳذا كانت ٳدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تريد التفاوض قبل جولة عنف جديدة، وما الذي سيبقى من لبنان، أو من حزب الله؟ فالرد على الاعتداءات الٳسرائيلية، أو نزع سلاح الحزب بالقوة، كلاهما يعتبران بالنسبة للبنان مغامرة انتحارية. وحدهم الأميركيون يمكنُهم كسر هذه الحلقة المفرغة.
تميل المجتمعات التي تعاني من المآىسي ٳلى تعديل الواقع على مستوى اللاوعي الجماعي لديها، في أحيانٍ كثيرة، بتضخيم الوقائع وتحويلها ٳلى قصص إيمانية
اللبنانيون متعبون، يدرك البابا ذلك، متألمون، ضحايا حرب وآلام لن تنتهي في صلاته المرتقبة من أجل ضحايا انفجار مرفأ بيروت العام 2020، من دون معرفة المسؤول عن تلك الكارثة في شهادة وٳدانة لمسار، لا يحدُث في أكثر البلدان تخلّفاً، ويدل على عدم الجدّية في المحاسبة والتغيير.
ٳنه تحدٍ للبابا وللدور المنوط بحاضرة الفاتيكان (دور معنوي على الساحة الدولية والراي العام المسيحي والعالمي)، من أن لبنان لم يتعلم شيئاً، ولا يزال يبحث عن طرق مختصرة لكسب المصداقية، بدلاً من القيام بالعمل (ٳلغاء زيارة الجنرال رودولف هيكل ٳلى واشنطن الأكثر خطورة وقلقاً، كما أنها الأكثر سوءاً)، والصورة لا تزال قاسية للسلطات، ونقطة خلاف رئيسية، حتى بين الفاعلين المسيحيين. بينما يتبنّى الرئيس عون نهجاً براغماتياً، تواصل القوات اللبنانية الضغط من أجل اتخاذ ٳجراءات صارمة لٳزالة الأسلحة. والسبب استياء الٳدارة الأميركية التي تتهم الجيش بعدم كونه نشطاً كفاية في نزع السلاح غير الشرعي، وهو الذي تمتّع بمعاملة تفضيلية، إلى درجة يعتبر من المؤسّسات القليلة التي لا تزال قائمة في بلاد الأرز، والتي يجب الاستثمار فيها. فيما يبدو تردّد لبنان في التكيف مع التغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة في المنطقة في ظروف عرضة للخطر والفراغات الوطنية والٳقليمية. والحديث عن التركيبة اللبنانية الفريدة والديمقراطية صار بعيداً، لم يعد أداة مجتمعية صالحة للنهوض والٳصلاح، فالانتخابات، الأداة الوحيدة لبدء تغييرٍ ما، قد لا تجري بسبب حربٍ محتملة، أو بسبب رغبة غالبية الأحزاب في تأجيلها لأسباب خاصة بهم.
لا أحد يختلف على شخصية البابا، الأب الروحي للكنيسة الكاثوليكية. والمسلمون في لبنان يندمجون مع هذه الصورة، وباعتبار لبنان مساحة تعدّدية مضمونة في وثيقة الميثاق الوطني 1989، ما يساعد على مواجهة الأزمات، ووضعها في سياقاتها التاريخية ومقارنتها بحقائق الحضارات الأخرى. كأن يدفع الفاتيكان المسيحيين إلى الحفاظ على هويتهم ودورهم على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين، والابتعاد عن أشكال النبذ والعنف التي تلف الشرق الأوسط، وتدمّر فيها ٳسرائيل حياة السكان المدنيين وتلتهمهم في فلسطين وتهجرهم. ولا يعرف كيف يُعاد استقرار المنطقة واستخلاصها واستبانة نسيجها التعدّدي التاريخي والٳنساني.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى