
يستيقظ المرء اليوم في فرنسا ليكتشف أن البلاد التي ما زالت تُقدَّم للعالم حارسة “حرية التعبير” تتصرّف، عملياً، بعكس هذه الصورة تماماً. من كان يظن أن مدينة الأنوار ستخشى مؤتمراً أكاديمياً؟ أو أن جامعة مرموقة ستتراجع تحت ضغط لوبيات سياسية وإعلامية تخشى مجرّد نقاش علمي عن فلسطين؟ ليس هذا مشهداً من رواية ديستوبية، بل واقع تتسع رقعته يوماً بعد يوم.
ليست قضية منع مؤتمر بحثي أخيراً عن فلسطين وأوروبا حادثة معزولة، بل حلقة جديدة في سلسلة تُظهر كيف تتراجع الحرية الأكاديمية في فرنسا تحت ضربات الخوف السياسي، وحسابات الموازنة مع جماعات ضغطٍ تسعى إلى إخماد أي صوتٍ يصف ما يحدث في غزّة بما هو عليه: سياسة إبادة جماعية متواصلة.
المفارقة أن هذا يحدث في بلد يقدّم نفسه منارة للحرية، بينما تتصرّف مؤسّساته كما لو كانت تخشى الكلمات أكثر مما تخشى التواطؤ. ما جرى لا يخصّ فلسطين وحدها، بل يخصّ العلاقة المتدهورة بين المعرفة والسلطة في فرنسا: كيف تُمالئ الجامعات المزاج السياسي السائد، وكيف تُصنّف الموضوعات “الحسّاسة” تهديداً للنظام العام، وكيف يصبح الباحث مطالباً بتمويه الحقيقة بدلاً من كشفها.
الخوف من الكلام حلّ مكان الشجاعة الفكرية. والأمن حلّ محل الحرية. وإرضاء اللوبيات حلّ محل المبادئ
لفهم عمق المشكلة، يكفي أن نتخيل المشهد التالي: مؤتمر أكاديمي، معدّ منذ شهور، يضم باحثين من عدة دول، ويهدف إلى مناقشة العلاقة بين موقع فلسطين في الوعي الأوروبي والمشهد السياسي المعاصر. لا مظاهرات، لا صراخ، لا شعارات. مجرّد أوراق بحثية، محاضرات، وحلقات نقاش. ومع ذلك، يُلغى المؤتمر قبل أيام، تحت ذرائع مختلفة: “الظروف الأمنية”، “الحساسية السياسية”، أو “ضرورة الحفاظ على الحياد”. أصبحت هذه العبارات القناع الرسمي للرقابة الحديثة في فرنسا.
اللافت أن هذا النوع من المنع يُنفذ بهدوء تام: قبل عطلة رسمية، أو في نهاية أسبوع طويل، حيث تمرّ القرارات بلا ضجيج. الرقابة لم تعد تُمارَس بالصوت العالي، بل بالبيروقراطية الهادئة. يتم إغلاق قاعة، أو إلغاء إذن، أو إصدار توصية من “جهات عليا” لا يجرؤ أحدٌ على ذكر اسمها. هذه هي الرقابة الجديدة: بلا وجوه، وبلا توقيعات، وبلا مسؤولين.
ولكن ما لا يُقال غالباً أهم مما يُقال. الحقيقة أن مؤسّساتٍ أكاديمية كثيرة باتت تهاب التعرّض لأية قضية تتعلق بفلسطين، لا لاعتبارات علمية، بل خوفاً من ضغط سياسي وإعلامي منظّم. في لحظة ما، تصبح الجامعة نفسها جزءاً من جهاز ضبط السردية، بدلاً من كونها فضاءً لكسرها.
ما جرى لا يخصّ فلسطين وحدها، بل يخصّ العلاقة المتدهورة بين المعرفة والسلطة في فرنسا
يُطلب من الباحثين اليوم “الحياد”. كلمة جميلة في ظاهرها، لكنها تتحوّل عملياً إلى أمر بالصمت. المطلوب ليس حياداً علمياً، بل حيادٌ أخلاقيٌّ: ابتعدوا عن الحقيقة إذا كانت تُزعج المسؤولين. خفّفوا من لغتكم إذا كانت تُحرج اللوبيات. تجنّبوا الكلمات التي تُشعر بعضهم بالضيق. وهكذا، تصبح النزاهة العلمية خطراً، ووضوح الرؤية تطرّفاً، وربط الأحداث بعضها ببعض تحريضاً.
لكن ماذا يعني أن يكون الباحث محايداً بين ضحية تُقصف يومياً، وطرف يمارس الإبادة أمام العالم؟ ما معنى الحياد بين الدمار والآلات العسكرية؟ هل يُنتظر من الجامعة أن تقف على مسافة واحدة من الجلاد والضحية، فقط لكي ترضي أصحاب النفوذ؟. … ليس هذا النوع من الحياد موقفاً علمياً، بل تخلٍّ عن العلم نفسه. نزع سياق الجريمة، أو تبريرها، أو تغليفها بلغة متردّدة، ليس حياداً؛ إنه شكل من أشكال المشاركة غير المباشرة في استمرارها.
وإذا كانت فرنسا تريد بالفعل الحفاظ على صورتها “أمّ الحريات”، فالأجدر بها أن تنظر بعمق إلى ما يحدُث داخل مؤسّساتها. فحين يخشى الأساتذة من الكلام، وعندما يُلغى مؤتمر بحثي لأسباب سياسية، وحين تتحوّل الجامعة إلى مكانٍ يخاف من رقابة “إكس” (تويتر سابقاً) أكثر مما يخاف من خيانة دوره، فهناك مشكلة تتجاوز مجرّد “قرار إداري”. إنه تغيّر ثقافي عميق، فالخوف من الكلام حلّ مكان الشجاعة الفكرية. والأمن حلّ محل الحرية. وإرضاء اللوبيات حلّ محل المبادئ.
يبقى الصوت الحر عصيّاً على المنع، فالمؤتمر الذي أُغلق مكانه استطاع أن يجد مكاناً آخر
ليست هذه فرنسا التي لطالما تغنّت بها كتب الفلسفة السياسية. هذه فرنسا خائفة، مرتبكة، وتسير بثقة نحو نموذج رقابي ناعم لكنه فعال. نموذج لا يحتاج إلى قمع صريح، بل يكفيه منع قاعات وتنظيم المخاوف وتوزيع رسائل غامضة عن “الظروف”. والنتيجة؟ تآكل بطيء، لكنه متواصل للحرية الأكاديمية.
مع ذلك، يبقى الصوت الحر عصيّاً على المنع، فالمؤتمر الذي أُغلق مكانه استطاع أن يجد مكاناً آخر. والباحثون الذين طُلب منهم الصمت تحدّثوا بصوت أعلى. وقد أثبتت التجربة مرّة أخرى أن المنع لا يوقف الأفكار، بل يضاعف حضورها. والسلطات تستطيع أن تغلق باباً أو قاعة، لكنها لا تستطيع إغلاق الأسئلة. يمكنها منع مؤتمر، ولكن لا يمكنها منع التفكير. ولو كانت الحجج قوية لما احتاجت إلى الرقابة.
ويبقى السؤال الأكبر الذي ينتظر الجواب: إذا كانت فرنسا تخشى مؤتمراً علمياً اليوم، فما الذي ستخشاه غداً؟. … ما جرى ويجري ليس مجرّد تضييق على نقاش حول فلسطين، بل اختبار لمستقبل حرية التعبير في فرنسا. فإذا خضعت الجامعة لهذا المناخ، وخضع الباحثون للرقابة، وخضعت المؤسّسات لضغط اللوبيات، فإن البلاد ستفقد أهم ما جعلها ملهمة للعالم، وهي القدرة على أن تقول الحقيقة بلا خوف. … وحين تخاف باريس من الكلمات، فهذا يعني أن شيئاً عميقاً قد انكسر.
المصدر: العربي الجديد






