
في بداية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وبعد إعلان نتيجة الانتخابات الإيطالية، نشرت مقالاً في “العربي الجديد” تحت عنوان “ما يعنيه فوز اليمين في إيطاليا”. كانت جورجيا ميلوني (48 عاماً)، التي تألق نجمها عقب تلك الانتخابات، مرشّحة حزب “أخوة إيطاليا” لمنصب رئيس الوزراء. حينها كانت شكوك كثيرة تتعلق بشخصيّتها، حيث كانت توصف باليمينية المتطرّفة. كان التذكير بها يجري بأنها انتمت إلى خط “الفاشية الجديدة” منذ عمر 15 عاماً. وهكذا كان يُخشى أن تسعى، بمساعدة الكتلة اليمينية الفائزة، إلى إحداث تغيير في البنية الإيطالية، قد يصل مرحلة السعي إلى تغيير الدستور ونظام الحكم، كما كان يُخشى أن تعمل على إفساد الإجماع الأوروبي.
مثلت ميلوني تجربة مهمّة متعلقة بما يمكن أن يعنيه وصول اليمين إلى السلطة، حيث أثبتت السنوات التي قضتها في الحكم، أن تنفيذ البرنامج اليميني الشعبوي، المستند إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وإلى استعادة القيم التقليدية وإلى محاربة الهجرة، ليس سهلاً، بل إن الحاجة إلى التنسيق مع الحلفاء لا تجعل أمام السياسييين خيارات كثيرة، بل تجبر على الانخراط في السياسة الأوروبية العامة.
ميلوني، التي كانت تنتقد الاتحاد الأوروبي بشكل لاذع، أصبحت جزءاً من مؤسساته اليوم، وابتلعت اتهاماتها السابقة له بأنه يسعى إلى تدمير الدولة الوطنية ولاستبدال السكان الأصليين بالمهاجرين. في المقابل، لم تبخل المؤسّسات المالية الأوروبية، وفي مقدمتها البنك المركزي الأوروبي، على إيطاليا بالدعم والتسهيلات، التي مكّنتها من الوقوف والثبات.
قد تدفع السياسة المعتدلة، التي اتّبعتها ميلوني بعد وصولها إلى السلطة، إلى تقليل المخاوف من صعود اليمينين
مثلما ابتلعت ميلوني انتقاداتها المؤسّسات الأوروبية، فإنها حرصت على ألا تكرّر ما كانت تقوله، في بداية حياتها السياسية، حينما كانت تعبر بعفوية عن إعجابها بموسوليني… ويذكر هذا بمسيرة اليمينية الفرنسية المتطرّفة مارين لوبان، التي ظلت تعمل على مدى السنوات الماضية على تجديد خطابها، بحيث يكون مقبولاً لأكبر عدد من الفرنسيين، وهو ما نجحت فيه، إلى درجة أنها باتت مرشّحة لكسب الانتخابات المقبلة، بعد أن أحرز حزبها عدد الأصوات الأكبر في آخر انتخابات برلمانية.
كان وصول ميلوني إلى قمة الهرم السياسي سريعاً، فقبل عشر سنوات فقط من توليها منصب رئيسة الوزراء لم يكن حزبها شيئاً مذكوراً في إيطاليا، كما لم يكن اليمين كله يحظى بالمكانة التي يحظى بها اليوم. ولا شك أن ميلوني استفادت من صعود اليمين الشعبوي ومن الحساسية المتزايدة من أفواج المهاجرين غير الشرعيين، خصوصاً أن بلدها أحد أهم نقاط الوصول.
قد تدفع السياسة المعتدلة، التي اتّبعتها ميلوني بعد وصولها إلى السلطة، إلى تقليل المخاوف من صعود اليمينين، وهو ما قد يقلّل من مستوى القلق عند النخب في الدول الأوروبية، التي يقترب فيها اليمينيون من الوصول إلى السلطة. إلا أننا يجب أن لا ننسى أن هناك مثالاً آخر لليميني العنيد يمثله فيليب أوربان رئيس الوزراء المجري، الذي لا يجد غضاضةً في إنكار القيم الأوروبية، كالتعايش والاندماج، داعياً إلى ضرورة الحفاظ على الهوية المسيحية لأوروبا. وقد جعل هذا الحرص على الحفاظ على الهوية المسيحية المجر من أكثر الدول الأوروبية تشدّداً في موضوع قبول المهاجرين واللاجئين، كما جعلها الأقل احتراماً لحقوق المثليين والمتحولين من بين جاراتها.
بعد ثلاث سنوات على رأس “كابينة” السلطة، لم تنجح ميلوني في كبح حركة الهجرة ولم تستطع دفع بلادها إلى إغلاق حدودها في وجه القادمين، كما أثبتت الأيام حماقة فكرة “الحاجز البحري”، التي كانت تدعو إليها، وصعوبة إعادة الواصلين عبر البحر إلى بلادهم.
لا تشذّ ميلوني عن الخط الأوروبي المنحاز إلى أوكرانيا، لكنها، في الوقت نفسه، لا تقع في مأزق العداء المفتوح لروسيا
لم تنجح ميلوني أيضاً في السير عكس تيار السياسات الاقتصادية الأوروبية أو تجاهل المطلوبات الأوروبية للإصلاح الاقتصادي، خصوصاً بعد وقوف الاتحاد معها وهي تخوض أزمتها المالية. في الحقيقة، شكلت المظلة المالية الأوروبية لها إسناداً شبيهاً بخطة مارشال، التي انتشلت القارّة من عثرتها بعد الحروب العالمية، وهو ما ظهرت نتائجه في تقارير البنك الدولي وفي إعلان الحكومة أنه، ولأول مرة منذ عام 2021، يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا نصيب الفرد في بريطانيا. وهذا لا يعني أن أزمة التضخم والعجز والبطالة قد انتهت، ولكنه يعني أن الحكومة نجحت في وقف التدهور المريع، الذي كانت تمر به البلاد، وهو مؤشّرٌ جيدٌ مقارنة بالأزمات التي تشهدها اقتصادات كبرى مجاورة. وقد شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة أيضاً استقراراً سياسياً، فعلى عكس ما كان يحدُث في الفترات السابقة، لم يتم اللجوء إلى حل الحكومة أو إلى تغيير الوزراء خلال هذه الفترة، وهو مؤشّر جيد، سواء إذا ما قورن بالتاريخ السياسي الإيطالي المضطرب، أو حتى بالحالة الفرنسية، حيث جرى حل الحكومة هناك أكثر من ست مرّات متعاقبة خلال وقت وجيز.
ربما يعود جانب من هذا الاستقرار إلى شخصية ميلوني التوافقية، كما قد يعود أيضاً إلى حظها الجيد، الذي جعلها تترأس ائتلافاً يمينياً يحظى بما يشبه الإجماع وسط تبايناتٍ ظاهرةٍ، لكنه متحكّم فيها. ويظهر دهاء ميلوني في تعاطيها مع الملف الأوكراني، فهي لا تشذّ عن الخط الأوروبي المنحاز إلى أوكرانيا، لكنها، في الوقت نفسه، لا تقع في مأزق العداء المفتوح لروسيا، التي ترفض التمادي في التصعيد ضدّها أو الانزلاق في حرب معها.
تعدّ ميلوني أيضاً صديقة مقربة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لا يكفّ عن كيل المديح لها، مازجاً على طريقته المعتادة بين المدح الدبلوماسي والتعليقات الشخصية المتغزّلة في جمالها، ليفتح ذلك باب نقاش طريف بشأن مدى استغلال سياسيات رفيعات المستوى، مثل ميلوني، أنوثتهن في سبيل تحقيق فوائد ومكاسب سياسية.
ربما تساعد هذه العلاقة الجيدة مع ترامب، وتلك المساعي لكسب جميع الأطراف بقدر الإمكان والانفتاح على شراكات داخلية وخارجية واسعة، السياسية الشابة على البقاء في السلطة فترة أطول.
المصدر: العربي الجديد



