
مجرم حرب مسؤول عن قتل ما لا يقلّ عن مليون عراقي يُراد له أن يكون حاكم غزّة بعد حرب إبادة مجرمة استمرّت سنتَين. وعوض أن يكون قد دخل السجن بعد محاكمته، كما طالب بذلك عديد من منظمات حقوق الإنسان، يستثمر بلير خبراته في الحروب المجرمة، ويُنصَّب حديثاً مندوباً استعمارياً سامياً في مدينة العريش المصرية، ومنها يحكم ويتحكّم في غزّة والفلسطينيين، تبعاً لما ورد في الخطّة المفصّلة التي صاغها معهد بلير نفسه. سيتمتّع “حاكم غزّة” بصلاحياتٍ مطلقة في الأمن والاقتصاد والسياسة، من خلال مجلس إدارة دولي لا تمثيل فيه للفلسطينيين.
حتى في هذه الصيغة الاستعمارية للحكم، ليس هناك آلية واضحة تحدّد كيفية اتخاذ القرار، بما يعني إطلاق يد بلير ليقرّر ما يشاء من دون أيّ استشارة أو محاسبة أو معارضة. رأينا شيئاً قريباً من هذا في التاريخ الحديث، بعد تدمير العراق وتعيين بول بريمر حاكماً استعمارياً. أول قراراته حلّ الجيش العراقي، المؤسّسة الكيانية التي مثّلت وحدة العراق وصانت كينونته الداخلية. بعد ذلك القرار تفكّك العراق في كل اتجاه، ودخل نفقاً مظلماً استمرّ سنوات طوال.
بلير الاستعماري، وقبله بريمر، ينهلان من التجربة نفسها التي دمّرت المنطقة وتركَتها ممزّقةً ومنهكة
بلير الاستعماري، وقبله بريمر، ينهلان من التجربة الاستعمارية نفسها التي دمّرت المنطقة عقوداً طويلة، وتركتها ممزّقةً ومنهكةً، وكياناتها الوطنية والسياسية الوحدوية هشّة. بقليل من التأمل، نرى التشابه الكبير في خصائص الحكم الاستعماري قديماً، وما نشهده من خطط ترامب ونتنياهو وبلير لغزّة وفلسطين. ثمّة عملية قصّ ولصق لآليات الاستعمار القديم، لا تأبه بالفلسطينيين ولا بالعرب، بل تحتقرهم ولا تتعامل معهم ومع بلدانهم ومستقبلها، ولا تبذل جهداً حتى في تبديل ثوبها القديم. الفرق الوحيد بين استعمار الأمس واليوم إجبار العرب وحكوماتهم على الإنفاق على مشروع استعمار غزّة تحت مسمّيات برّاقة. في السابق، كانت ميزانية الاستعمار الأولية تأتي من المُستعمِر نفسه ريثما تُمأسس آليات النهب. اليوم تموّل منذ اليوم الأول أموال العرب إعمار ما دمّرته إسرائيل وأميركا، أو بالأحرى تهيئة الجو لمرحلة الاستعمار المباشر. ليس ثمّة من يقول إن من دمّر غزّة عليه التعويض، كما حدث في حالات الحروب الكثيرة.
البوصلة وبداية البدايات للحكم الاستعماري قديماً وحديثاً، مصلحة المُستعمِر ذاته، أولاً وثانياً ودائماً، على حساب مصلحة الشعب المُستعمَر وحاضره ومستقبله، حتى لو أدّى ذلك إلى طحنه وإبادته. هكذا كان الأمر في المُستعمَرات التي نهبها الأوروبيون والأميركيون لاحقاً، من الهند وأفريقيا إلى آسيا وبلدان أميركا اللاتينية. في استعمار غزّة الحديث، كل ما يهم ترامب ونتنياهو وبلير مصالح إسرائيل وأميركا والغرب، سياسياً واقتصادياً واستثمارياً وأمنياً. فلسطين والفلسطينيون مجرّد تفصيل عارض في الخطّة الأوسع. السمة الثانية في الحكم الاستعماري تأتي من توظيفه خطاباً ولغةً ناعمةً وخادعةً تحاول استقطاب شرائح من الشعب الواقع تحت الاستعمار، استغلالاً لمعاناته، سواء من الفقر أو الأمراض، أو حتى الاستبداد الداخلي. وعود الاستعمار القديم هي تمدين الشعوب والجماعات والبلدان، ونقلها من “التخلف” إلى “التحضر”، ونشر العلم والتعليم وسوى ذلك. الواقع على الأرض ليس فيه أيّ من ذلك، بل النهب وسرقة الثروات وتأمين نخب موالية. لغة خطّة ترامب وبلير تطفح بوعود الازدهار لغزّة والغزّيين، وتفيض بتفاصيل التعمير والاستثمار وفرص العمل والاقتصاد السنغافوري. وبرغم جهود واضحة في الصياغة، لم تستطع الخطّة التخلّص من نبرة الاستثمار العقاري التي من الواضح أن ترامب وكوشنر وبلير مأسورون بها، وتتصدّر أطماعهم.
الحكم الاستعماري (ثالثاً) يتجاهل رغبات الشعب تحت الاستعمار ولا يهتم لما يريده الناس، ويأنف حتى من استشارتهم ولو صورياً. فهؤلاء الواقعون تحت الاستعمار والاحتلال لا يعرفون مصلحتهم. هم كالأطفال تجب قيادتهم رغماً عنهم ورسم مستقبلهم كما يهوى السادة البيض. بعد الحرب العالمية الأولى، انعقد مؤتمر السلام في باريس سنة 1919، وقرّر تشكيل وإرسال لجنة تقصّي حقائق هدفها استكناه ومعرفة رغبات شعوب المنطقة، وما الذي تريده خصوصاً في سياق الدعوات العالمية آنذاك المنادية بضرورة حقّ تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت الاستعمار. يومها، رفضت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، أي الدول المُستعمِرة في المنطقة، تشكيل اللجنة والمشاركة في أعمالها. حالياً، حول غزّة وفلسطين، تجتمع كل القوى العالمية والإقليمية لتقرّر في شأن الفلسطينيين ومستقبلهم، وهم مستثنون حتى من المشاركة. لا أحد يسأل ما الذي يريده الفلسطينيون، ولا أحد ينطق بكلمة حقّ تقرير المصير والتخلّص من الاحتلال. حتى السلطة الفلسطينية على هشاشتها وتبعيتها، ممنوع عليها أن تشارك بالرأي، فضلاً عن الفعل، حول جوهر ما يُسمى “اليوم التالي”.
الحكم الاستعماري، رابعاً وليس آخراً، يعمل على تفكيك البنى الكيانية للشعوب المُستعمرة، وبناء بدائل تابعة للاستعمار أو خاضعة له بشكل مباشر أو غير مباشر. تحوّل الشعوب مجاميعَ بشريةً متناثرةً ومتنافرةً، لا تحكمها رابطة وطنية، ولا تتبع لكيانية مُوحدة. القاعدة الأساسية هنا هي التقليد الاستعماري العريق والكريه “فرّق تسُد”. تنقسم الشعوب إلى كتل متنافسة قبلية أو طائفية أو جهوية، بينما يجلس السيد المُستعمِر فوقها جميعاً، يلعب دور الحكم والقاضي بزعم إدارة الخلاف بين المتنازعين. تلك كان السيرورة قديماً في عشرات الأمثلة، وحديثاً في حالة العراق بعد الغزو الأميركي (2003) بقيادة الاستعماري بريمر.
قبول بلير اليوم في فلسطين يعني قبوله غداً في لبنان أو سورية أو ليبيا أو العراق
في حالة فلسطين، عملت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة في استراتيجيات التجزئة والتفتيت عبر آليَّتَين: الأولى تعزيز الانقسام الفلسطيني، ولجم أيّ محاولة لإنهائة من طريق وضع اشتراطات قطع التمويل عن السلطة إن توجّهت نحو مصالحة فلسطينية مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). والثانية، إنهاك الكيانية الفلسطينية المنقسمة وتدميرها، سواء في الضفة الغربية (السلطة الفلسطينية) أو في قطاع غزّة (“حماس”). تتواصل هاتان الآليّتان الآن وتحتلّان، قبل خطة ترامب التي تطلب تفكيك “حماس” في قطاع غزّة. ومعنى ذلك إنهاء أيّ كيانية موحّدة للقطاع، واستبدال ذلك بمجموعات وعصابات تسلّحها إسرائيل، وفي الوقت نفسه مواصلة إنهاك (وتفكيك) السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تحت شعار إيجاد “سلطة مُتجدّدة”. مآلات الحال في الجغرافيَّتَين، كما تريد الخطّة، تفتيت الفلسطينيين أكثر فأكثر، وتحويلهم مجموعاتٍ سكّانية لا هُويَّة وطنية لهم ولا كيان وطنياً يجمعهم.
توني بلير ربيب المؤسّسة الاستعمارية البريطانية والغربية يُناط به الآن الإشراف على تنفيذ الخطّة الاستعمارية الجديدة التي يُراد فرضها على غزّة وفلسطين، بموافقة دول الإقليم ودعمها ورعايتها. قبول ذلك يعني (بالفم الملآن) إهانة لفلسطين والفلسطينيين، وللدول العربية المنخرطة في الخطّة، ويجب أن يُرفض من دون أيّ تردّد. قبوله اليوم في فلسطين يعني قبوله غداً ربّما في لبنان أو سورية أو ليبيا، أو في العراق أو السودان، أو في غيرها. إنها قصّة الثور الأبيض المريرة لا غير.
المصدر: العربي الجديد






