الجدل الإسرائيلي حول استئناف الحرب في غزّة

أحمد الجندي

تكشف مطالعات الصحافة الإسرائيلية، ومواقف المسؤولين في حكومة الاحتلال، واستطلاعات الرأي التي أُجريت في الأيام الأخيرة في الكيان الصهيوني، اتفاقاً عاماً حول استمرار الشعور بالخطر من المقاومة الفلسطينية في غزّة. بل إن اتفاق وقف الحرب، وما أعقبه من استعادة الأسرى الإسرائيليين الأحياء، وجثامين القتلى الذين تمكّنت المقاومة من استخراجهم، أظهرا حالة تربّص واضحة تنذر باحتمالية استئناف الحرب بمجرّد أن تستردّ إسرائيل أسراها الأحياء والقتلى.

ليس الحديث هنا عن نيّات بالطبع رغم أهميتها، خصوصاً عند التعامل مع كيان اعتاد انتهاك ما يوقّعه من اتفاقات، بل تصريحات مسؤولين ومقالات كتّاب. صحيح أن خسارة السردية الإسرائيلية تمثّل كارثةً استراتيجيةً لإسرائيل، عكستها مقولة الرئيس الأميركي لبنيامين نتنياهو: “أنت لا تستطيع أن تحارب العالم”، لكنّ تخوّف إسرائيل من استعادة حركة حماس وفصائل المقاومة عافيتها ربّما يقود إسرائيل إلى العودة للعدوان على القطاع. تدعم هذا التوجّه تهديدات المسؤولين في الحكومة، بدءاً من تأكيد نتنياهو احتفاظ إسرائيل بحرية العمل العسكري في غزّة، وإلزام حركة حماس بالتخلّي عن سلاحها، وإلا “فسيندلع غضب الربّ.. فإن لم يحدث ذلك بسرعة سيتم بالقوة والعنف”، ومروراً بقول وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “إن التحدّي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل بعد مرحلة استعادة الأسرى هو تدمير أنفاق الإرهاب التي تمتلكها حماس في غزّة بشكل مباشر على يد الجيش الإسرائيلي، وبمساعدة المؤسّسة الدولية… وقد أمرت الجيش أن يستعدّ لتنفيذ هذه المهمّة”، وصولاً إلى تلك الوعود التي أطلقها بتسلئيل سموتريتش حول الاستيطان في غزّة من جديد. ويضاف إلى ذلك كلّه انتهاك البنود الإنسانية، وتقليص عدد شاحنات المساعدات المتّفق عليها بعد استعادة إسرائيل أسراها الأحياء.

ممارسة الخداع أمر معتاد في العقيدة الفكرية والسياسية لدى الإسرائيليين

والواضح هنا أن ممارسة الخداع أمر معتاد في العقيدة الفكرية والسياسية لدى الإسرائيليين، وإطلاق سراح الأسرى كان خطوةً مطلوبةً في حدّ ذاتها. ويرى الصحافي في “يديعوت أحرونوت”، رون بن يشاي، أنه في ظلّ عدم وجود مؤشّرات على تنفيذ وعود الرئيس الأميركي، فيما يخصّ نزع سلاح “حماس”، وإبعادها عن إدارة القطاع، فإن احتمال العودة للحرب يبدو أقرب من استمرار وقفها. ويطغى الشعور باستئناف الحرب على الصحافة الإسرائيلية، لكن وفق طرحَين متفاوتَين، أحدهما يلبس ثوب العقلانية، والآخر يدعو للتنصّل من أيّ اتفاق بعد استعادة الجثامين، والعودة إلى الحرب.

وقد اعتبر الصحافي في “هآرتس”، جاكي حوري، أن الاتفاق “يعيد إسرائيل وحماس إلى المربّع الأول، لأنه يحتوي الصراع حتى يأتي الانفجار التالي. فوقف إطلاق النار ليس علامةً على نهاية الحرب، بل بداية مرحلة جديدة أكثر تعقيداً تتعلق باليوم التالي”. وهكذا يطرح حوري سؤاله عن جدوى التهدئة في ظلّ غياب خريطة طريق واضحة. ما أثاره حوري، طرحه الصحافي كذلك في “هآرتس”، تسفي هرئيل، بحديثه عن الفجوة بين قدرة ترامب على فرض وقف النار والقدرة على تنفيذ الشروط الأمنية والسياسية بشكل عملي، ما يترك مسافةً كبيرةً بين الإعلان والتطبيق.

وإذا كان بعضهم يعتبر هذا الطرح من بعض صحافيي “هآرتس” عقلانياً وهادئاً، على أساس أن القضايا الأكثر صعوبة مثل سلاح المقاومة، والقيادة في غزّة، وإعادة الأعمار، مؤجّلةٌ إلى المراحل المقبلة في أي اتفاق محتمل، فإن أصحاب الطرح الآخر يمثّلون التيار العام في الصحافة الإسرائيلية، ويُبدون تربّصاً واضحاً للتنصّل من الاتفاق بعد استعادة الأسرى. اللافت هنا أن نبرة هذا التيار لا تقلّ إجراماً عما يفعله المستوى السياسي الذي يمارس كل أشكال الابتزاز ضدّ المقاومة، مستغلّاً الانحياز الأميركي، وعدم قدرة الأطراف العربية والإسلامية المشاركة في التوقيع على اتفاق وقف الحرب على لجم إسرائيل عن التصعيد، أو عن انتهاك البنود التي التزمت بها.

تخوّف إسرائيل من استعادة حركة حماس وفصائل المقاومة عافيتها ربّما يقود إسرائيل إلى العودة للعدوان على القطاع

يظهر هذا المنطق في أكثر صوره انحطاطاً لدى كتّابٍ كثيرين؛ فلم يكن غريباً أن يغرّد الصحافي في “معاريف”، بن كسبيت، في حسابه في “إكس” عن ضرورة استئناف الحرب، لأن حركة حماس، وإن كانت تلقّت الضربة الأقسى في تاريخها، وانهارت قواها العسكرية، فهي ما زالت واقفةً على قدميها في غزّة. وطالما عاد الأسرى الأحياء، فعلى إسرائيل استكمال استعادة الجثامين، ثمّ تُستأنف الحرب على “حماس”، بكل الطرق الممكنة. أمّا بن يشاي فاعتبر إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين عملاً استراتيجياً حرّر المجتمع الإسرائيلي من المشكلة النفسية، ومن الشعور الجماعي بالذنب الذي خيّم على المجتمع منذ “7 أكتوبر” (2023)، لكن الأهم أنه يتيح للجيش الحرية كاملة في تنفيذ العمليات التي يريدها في القطاع من دون محاذير، فتحرير الأسرى يطلق يد القادة والجنود حال استئناف القتال. كما اعتبر أفي يساخروف في “معاريف” أن إعدام حركة حماس عملاء الاحتلال بعد بدء سريان وقف القتال، يُظهر أن الحركة تفرض حكمها، وتعيد سيطرتها على المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي. وهذا يبرهن أن الحركة، وإن كانت مستعدّةً للتخلّي عن حكم قطاع غزة إداريا، وهذا ما أعلنته منذ بدء الحرب، فلن تكون مستعدّةً لنزع سلاحها أبداً، بل ستجنّد الآلاف، وسينضمّ كثيرون إليها. وعلى هذا الأساس يطرح يساخروف سؤاله: هل ستحتفظ إسرائيل بحرية العمل، وتستمرّ في مهاجمة أهداف “حماس” مجدّداً، أم ستعود إلى وهم أن الحركة مرتدعة مثلما اعتقدت المؤسّسات الأمنية الإسرائيلية كلها قبل “7 أكتوبر”، بينما هي تستعدّ الآن للحملة المقبلة؟

وفي السياق نفسه، ترى الصحافية في “معاريف”، دانيال روث أفنيري، أن الحرب لم تنته بعد، ولن تنتهي أبداً، فما حدث كان البداية، فالحرب أكبر من ترامب ومبعوثي السلام، لأنها، حسب قولها، حرب دينية يخوضها الإسلام المتطرّف ضدّ العالم أجمع، ومن ثمّ فإن الحرب بهذا المعنى مستمرّة. وتعتقد أفنيري أن الأسرى الفلسطينيين المُفرَج عنهم سيواصلون الطريق الذي بدأه السنوار الذي كان هو نفسه أسيراً لدى إسرائيل في يوم ما. وترى الكاتبة أن من يظنّون الأمر انتهى ينظرون بعين أحادية، ويتجاهلون حقيقة ما جرى، ويدفنون رؤوسهم في الرمال، فالسابع من أكتوبر المقبل خُطط له مسبقاً، وحينما تتعافى حركة حماس قد يجد الإسرائيليون أنفسهم أمام هجوم آخر مباغت. ما قالته أفنيري تكرّر في أكثر من مقال؛ بعضها أكّد أن “المسؤولية الأولى والأسمى للدولة حماية مواطنيها، ولم يعد هناك مجال للأوهام، أو خرافات الهدوء، أو الآمال الزائفة بأن الزمن يمكن أن ينهي الكراهية.. أي تهديد ينشأ في غزّة أو لبنان أو إيران… يجب إخماده في بدايته”، مثلما كتب العميد احتياط، دادي سمحي. وبعضها رأى أن حركة حماس وأمثالها تجيد تحويل “كل أرهابي يموت” شهيداً، وتجنّد العشرات بعدها، وتخلق أبطالاً بين جمهورها، وتحوّل صورهم رموزاً تُحتذى، فلا تذهب الدماء سدىً، ولا يحدث الردع أبداً، حسب الصحافي في “معاريف”، موشيه نستلباوم.

يطالب تيار واسع في الإعلام الإسرائيلي بالعودة إلى الحرب بعد استعادة الجثامين

وهكذا يمكن القول إن التيار الغالب في إسرائيل يرى أن الاتفاق يحمل من الثغرات أكثر ممّا يحمل من حلول لإسرائيل، وخصوصاً فيما يتعلّق بنزع سلاح حركة حماس، وإبعادها عن أيّ إدارة للقطاع. وهذه الثغرات يمكن أن تقود إلى الحفاظ على قوة حركة حماس، فيما يرتبط بوضعها السياسي والتمويل المالي، وربما قوتها العسكرية، لكن تحت غطاء جديد، ومن ثمّ يمكن أن تعيد الحركة نفسها تحت السطح. ولذلك يعتقد هذا الفريق أن إسرائيل تقف عند مفترق طرق حرج؛ إذا لم تقم بإعادة تعريف قواعد اللعبة، وتضع خطوطاً حمراءَ واضحةً للتدخّل الخارجي، حتى لا يتحوّل هذا الاتفاق من رافعة لإعادة إعمار القطاع، إلى لغم سياسي ينفجر في وقت لاحق.

لا يقتصر الأمر هنا على الكتّاب، بل يمتدّ إلى الرأي العام أيضاً. ويعكس استطلاع رأي نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في ذكرى مرور عامين على السابع من أكتوبر، حول مدى قناعة يهود إسرائيل بأن يتكرّر الحدث في الأعوام المقبلة من ناحية حدود غزّة، أن 57.5% كانت لديهم درجة يقين أو اعتقاد أن يتكرّر الحدث مرة أخرى، مقابل 40% كانت لديهم درجة يقين أو اعتقاد بعدم تكراره. ورغم أن النتيجة تقرّ ضمناً بفشل الجيش في تحقيق أهدافه، فإنها تعني أيضاً أن المهمة لم تنته، لأن “حماس” ما زالت تشكّل خطراً على الكيان.

وهكذا يبدو الموقف الشعبي في الجانبَين، العربي والإسرائيلي، على قناعة كاملة أن ما حدث هو حلقة من حلقات صراع ممتدّ، وأن أيّ حديث دبلوماسي عن نهاية للصراع في ظلّ احتلال الأرض، ومئات آلاف الشهداء والجرحى، وإبادة لم تعرفها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، واحتقار للآخر، ورغبة في الهيمنة الاستعمارية، هو محض أوهام. غير أنه بينما يناضل طرف لاستعادة حقوقه، يتجهّز الآخر للغدر وانتهاك ما تعهّد باحترامه. ولهذا لم يعد السؤال مرتبطاً باحتمالية استئناف الحرب، بل متى يحدث ذلك؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى