الأيام الأخيرة في معضمية الشام البطلة

زهراء الشيخ

لا أدري كيف سأحدثكم عن ذاك الوقت المحمل بالقهر والآلام والصراخ، جراء إجرام أسدي حاصر مدينتنا وقصف بيوتنا بحقد ماله مثيل. في ذاك التاريخ وفي هذا اليوم بالضبط. من الخمسة عشر يوماً الأخيرة، حيث الأجواء كانت متقلبة بين رياح الشتاء الباردة وشمس الصيف الدافئة.

 استيقظنا على أصوات القذائف، ومع ذلك ذهبنا مع أحد أقربائنا لرؤية الدمار الذي حل بالمدينة في غيابنا، كان حجم الدمار هائل، ومن المؤكد أنه في ذلك الوقت كان كل يومٍ يزيد عن سابقه.

قبل أن نكمل وجهتنا مررنا على منزل قريبنا لإلقاء التحية على والده، كان يجلس أمام دُكانه وفور وصولنا ذهبنا سوياً إلى منزلهم، لم أكن أعرفه حق المعرفة ولكنه بدأ بمحادثتي كما يحادثني جدي دائمًا (شو اسمك اليوم؟)  كانت مجرد محادثة بسيطة لكنها لامست قلبي كثيراً.  ثم أكملنا وجهتنا مع أحد الأشخاص الذين يتسمون بطيبة القلب وقربهم من الله!

ذهبنا نحو الكثير من الأماكن التي طالتها قذائف الدبابات والطائرات المتوحشة، وما ينفطر له القلب ألماً عندما يقول لنا قريبنا أن في تلك الضربة استشهدت عائلة. وفي ذاك المكان استشهد مجموعة من الشبان… وتلك الحجارة المتراكمة فوق بعضها أخذت أرواحاً لا تعد!!

عدنا أدراجنا قبل العصر تقريباً ولم نلبث أن وصلنا أمام المنزل إلا وجاءت طائرة (الميغ) بصوتها المرعب! صعدنا للشرفة وعيوننا إلى السماء تتبع الفقاعات الحرارية التي ترسمها الطائرة، مع أن هناك كثير من الناس في الطرقات فالأمر أصبح اعتياديًا!!

وما إن أغلقنا باب الشرفة إلا وجاء ذاك الصوت الذي صم آذاننا… علاه صوت الله أكبر من مآذن مساجدنا المدمرة في الثانية ذاتها!! تلفظنا بالشهادتين.. صرخنا.. تذكرنا.. الأطفال يلعبون في الخارج وكثير من الناس يجلسون أمام منازلهم في ثوانٍ فقط!!

الثواني كأنها دهر وتبعاتها ستبقى ترافقنا ما حيينا. قطع تلك الثواني صوت من بعيد (أنتو بخير)؟؟ (حدا صرلو شي)؟ (الدخنة عم تطلع من البيت حدا تأذى)؟

لا أحد يسعه قول شيء ولكن جميعنا بخير، ركضت مسرعة باتجاه الشرفة.. لأرى أمامي ناراً مشتعلة في الطريق المقابل وأصوات التكبيرات تصدح من حناجر مختنقة والسؤال الذي يردده الجميع من الذي استشهد في تلك الضربة؟؟

بدا الرعب يأكل ملامح الحارة بعد دقائق فقط من الضربة ونبرة التنبيهات كانت عالية، صاروخ عنقودي.. اي أن هنالك الكثير من القذائف الصغيرة التي لم تنفجر بعد، كما حصل في البناء الذي نقطن فيه نحن وأكثرَ من خمسين شخص.. اطفال، نساء، رجال، أصيب أيضًا بقذيفة عنقودية ولكنها لم تنفجر بأمر الله، ولو حصل ذلك لن يخرج منها أحدٌ بسلام! مرت ربع ساعة على الضربة ، اضطرت والدتي و خالتي للذهاب للمشفى الميداني و بالتالي ذهبت معهم..

إنها ليست المرة الأولى لكنها الأصعب! أناسٌ كثر.. دماء.. شهداء.. اشلاء.. أنينٌ وبكاء

هكذا كانت النظرة الأولى للمشفى الميداني، وسرعان ما كنت وحيدة مع المشاهد والأفكار والدموع..

إحداهن تقطع شرودي: (خذي الشاش وتعالي ساعديني) وفجأة وجدت نفسي بين المصابين وقصصهم التي تُدمي القلوب. الضربة خلفت الكثير من الشهداء والإصابات. فهناك أم حاولت حماية طفلها ولكن صغر حجم شظايا القذيفة العنقودية كانت أقوى وأسرع بالوصول لطفلها وأيضًا لها. كانت تسألهم عن طفلها كثيرا (بدي شوفوا.. امانة طمأنوني هو بخير ؟؟)

ماذا عساهم أن يخبروها!! جسده الغض الضعيف لم يتحمل قطعة حديدة صغيرة! بدأوا طمأنتها وأخبروها أنه بخير ويتلقى العلاج وهو أيضًا بانتظارها.. وبالفعل هذا ما حصل، غادرتنا كي لا تترك طفلها وحيداً حزينا!!  وها هي شهيدةٌ أخرى تضاف لحصيلة الشهداء.

كانوا يضعون الشهداء في منزلٍ مقابل للمشفى الميداني وهناك نرى مشاهد الوداع والرثاء تحرق قلوبنا ونحن أحياء كالأموات. ونسيت أن أخبركم أن العم الذي قابلته في الصباح وحديثه الذي حُفر في قلبي غادرنا إلى الأبد في ذلك اليوم واستشهد أمام دكانه وما زالت صورته عالقة في ذهني وهو يقول لنا من مكانه ذاك (السلام عليكم… ملوحاً بيده) لا تغيب عن ذهني أبدًا.. كلها صور ولحظات أبت أبدًا من أن تمحى أو تنسى من مخيلتنا، فهي أشبه بحالة (هولوكست) كنا قد شهدناها وعشنا فصولها ولا بد أن نخبر بها الأجيال القادمة عندما أراد هذا السفاح أن يركع أهلنا ومدننا ولم يستطع، بكل جبروته.. ظنًا بأن من الممكن أن نتخلى عن مطالبنا وأهداف طريقنا الذي سلكناه لتحقيق حريتنا من أولئك المجرمين الناهبين للوطن والخائنين لأهله والمرتكبين لأفظع الجرائم بحقه.. ربما سنعود يومًا رغمًا عن دمارهم وبالرغم من تهجيرنا قسريًا من هناك، ورغم كل هذه الدماء لنبني ذاك البلد الجميل الخالي منهم ومن شرهم وبؤسهم. فهل سنتمكن من ذلك يا ترى؟؟ يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى