
من بديهيات السياسة الغربية أن القرار السياسي، وتحديداً في السياسة الخارجية، غالباً ما يكون ثمرة مسار من التفاعلات، تتدخّل فيه مواقع السلطة والقوة والنفوذ، وجماعات الضغط والمصالح، ومراكز البحث والتفكير، وغيره. وينطبق ذلك (بقدرٍ ما) على الاعترافات الأوروبية بفلسطين، بعد نحو عامَين من حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزّة.
بالطبع، لا ينبغي التقليل من أهمية هذه الاعترافات، خصوصاً عندما تصدر عن دولتَين بحجم بريطانيا وفرنسا، معروفتين تاريخياً بدعمهما إسرائيل. كما أنها تمثل بارقة أمل عند الفلسطينيين في استعادة جزء (ولو يسير) من حقوقهم. زيادة على ذلك، قد يُنظر إلى اعتراف بريطانيا بفلسطين تكفيراً عن الجريمة التاريخية التي اقترفتها بحقّ الفلسطينيين قبل أكثر من مائة عام، حين أصدرت وعد بلفور المشؤوم (1917). غير أن ذلك لا يمنع من وضع هذه الاعترافات في سياقيها، الإقليمي والدولي، إنها تعكس قلقاً أوروبياً وغربياً، مما قد تؤول إليه الأوضاع في الشرق الأوسط، فاستمرار انفلات الوحش الإسرائيلي من عقاله، بهذا الشكل المروّع، قد يكون بداية تفكّك المشروع الاستيطاني الصهيوني، الابن الشرعي للاستعمار الغربي الذي تصدّرت الهيمنةُ على ثروات المنطقة العربية ومقدراتها، ولا تزال، سلّمَ أولوياته. هناك قلق متنام في الغرب على مستقبل دولة الاحتلال، مع تغوّل اليمين الديني المتطرّف وإحكام قبضته على مفاصل السلطة، وغياب أيّ أفق لحلّ القضية الفلسطينية أمام إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على اجتثاث الوجود الفلسطيني، بمواصلتها حرب الإبادة والتطهير العرقي والتجويع والتهجير في قطاع غزّة، وسياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة في الضفة الغربية، بما يعوق أيَّ إمكانيةٍ لقيام دولة فلسطينية قابلةٍ للحياة، هذا فضلاً عن احتلال أراضٍ جديدة في جنوب لبنان وسورية وبثّ الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم. وجاء الهجوم على الدوحة، في 9 سبتمبر/ أيلول الجاري، ليضع أوروبا والغرب أمام حقائق جديدة بدأ يُفرزها التوحّش غير المسبوق لدولة الاحتلال.
لا تعكس موجة الاعتراف بفلسطين موقفاً أخلاقياً واضحاً بقدر ما تعكس محاولةً متأخّرةً لترويض الوحش الإسرائيلي قبل فوات الأوان، وإلا فلماذا تأخّرت أكثر من ثلاثة عقود لتعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية، التي أعلن الراحل ياسر عرفات قيامها في الجزائر (1988)؟ بالموازاة مع ذلك، تُدرك الحكومات الغربية أن الرأي العام يعرف تحوّلات عميقة تجاه القضية الفلسطينية، بشكل قد يُفضي إلى إعادة تركيب السردية الإسرائيلية بكل ثقوبها المعلومة في وعيه، ويدفعه إلى فهمٍ أكثر موضوعية للصراع. لم يكن ما حدث خلال السنتَين المنصرمتَين في غزّة حرباً تقليدية، بل كانت حربَ إبادة جماعية ممنهجة بتواطؤ أوروبي وغربي. واستمرارها في ظلّ رفض نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف وقفَها، يرفع تكاليفها الأخلاقية والسياسية إلى مستوى لم يعد بوسع هذه الحكومات تحمّله. صحيح أن الاحتجاجات الشعبية في أوروبا والغرب ضدّ حرب غزّة لم تصل بعد إلى درجة تُهدّد النظام العام، لكنّها في الوقت نفسه مؤشّر على ارتجاج أخلاقي ستكون له تداعياته في المدى البعيد.
يمنح الاعتراف الدولي الواسع بفلسطين متنفساً آخرَ لاختبار مدى قدرة السردية الفلسطينية على الانتقال إلى أطوار جديدة في التعبئة والتحشيد. بيد أن غياب خريطة طريق واضحة ومفصّلة لكيفية تنزيل ”حلّ الدولتين” في أرض الواقع، يُبقي هذا الاعتراف ضمن حدوده الرمزية لا أكثر، خاصّة أمام رفض دولة الاحتلال وقف الحرب في غزّة ومُضيّها في مشاريعها الاستيطانية في الضفة الغربية. وقف حكوماتٍ أوروبية الدعمَين العسكري واللوجيستي اللذين تقدمانه لدولة الاحتلال، وتعليق مختلف أشكال التعاون الاقتصادي والتجاري والأمني والأكاديمي معها، وفرض عقوبات صارمة عليها… ذلك كلّه من شأنه أن يضفي المصداقية السياسية على اعترافاتها بفلسطين، ويفتح أفقاً لحلٍّ عادلٍ للصراع يُنهي المأساة الفلسطينية. وقبل ذلك، يقع على عاتق هذه الحكومات التحرّك لأجل وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في غزّة، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، ووقف حرب التجويع القذرة على الشعب الفلسطيني هناك.
المصدر: العربي الجديد