
يقول محمود درويش: “مليون انفجار في المدينة/ وحدنا نصغي إلى رعد الحجارة/ وحدنا نصغي لما في الروح من عبث/ ومن جدوى”…
اتجه الغرب الأوروبي، نهاية القرن التاسع عشر، وهو في أوج صعوده الرأسمالي، إلى إعلان مبدأ حماية تركة رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية). وهكذا… ركّبتْ واقتسمت الخرائط الجديدة لبلدان المشرق والمغرب العربيَّين. وارتبطت هذه العملية كما نتعلّم من التاريخ بمقتضيات وشروط الزمن الإمبريالي، زمن تصاعد قوة الغرب المرتبطة بتطوّر اقتصاداته، وسعيه إلى البحث عن موارد وأسواق جديدة. ولم يتمكّن العربُ من إدراك (ومواجهة) ما حصل إلا في منتصف القرن الماضي، حين نشأت بدايات حركات التحرّر والتحرير في أغلب البلدان العربية، وساهمت في التأسيس لحركات التحرير والاستقلال.
كانت المعارك في أغلب البلدان العربية من أجل التحرير والاستقلال، ثمّ التنمية، تجمع بين البُعد السياسي والأبعاد الثقافية والاقتصادية. وتمكّنت معظم البلدان العربية من الحصول على استقلالها السياسي، وبدأت نخبها تتطلّع إلى بناء مجتمعاتٍ جديدةٍ بطموحات أخرى، مرتبطة بالدروس التاريخية والسياسية التي تعلّمت من تجربتها مع الغرب، زمن الاستعمار وما بعده. والإشارة هنا إلى المعارك المرتبطة بالإصلاح السياسي والثقافي، والمعارك المرتبطة، في الوقت نفسه، بمشروع النهضة العربية، ومشاريع التعاون الإقليمي والوحدة القومية. وقد سعت أغلب البلدان العربية طوال النصف الثاني من القرن الماضي إلى رسم معالم خيارات جديدة في السياسة والاقتصاد، إلا أنها لم تنتج ما يسمح لها ببناء نقط الارتكاز التاريخية والسياسية، التي توقف إمكانية الرجوع إلى الوراء.
تعثّر مشروع تحرير أرض فلسطين وبعض الثغور بالمغرب، بحكم المخطّطات الجديدة للغرب الإمبريالي، وهي مخطّطات ترتبط بالمشروع الإمبريالي في صوره الجديدة، المرتبطة بصراع القوى الكبرى في عالمٍ استأنس الغرب بقوته، وهو يُواجه مستعمراته القديمة وباقي القِوى العالمية. ورغم أن العالم تجاوز، في العقد الماضي من القرن العشرين، ما كان يُعرف بالثنائية القطبية، إلا أنه لم يتمكّن، وسط مختلف مظاهر الصراع السائدة في العالم، وبعضها يرتبط بالتركة الاستعمارية، وانعكاس كل ذلك في أعمال (وقرارات) المنظّمات الدولية التي لا تزال تحتكم إلى منطقِ قوة من رتّب مبادئها في نهاية الحرب العالمية الثانية… نقول، لم يتمكّن من التخلّص من إرادة القوة التي تهيمن على قراراته ومواقفه في الاقتصاد والسياسة، وفي العلاقات بين الدول في الشمال والجنوب، وفي الشرق والغرب.
منذ “7 أكتوبر” (2023)، يقوم الغرب الإمبريالي بالدعم المكشوف لمشروع الكيان الصهيوني الهادف إلى إبادة الفلسطينيين والتبشير بـ”إسرائيل الكبرى“
نواجه في الراهن العربي مجموعةً من العلامات، التي تضعنا مجدّداً أمام عهد انتداب جديد، لا يتعلّق الأمر هنا بتشابه الأحوال العربية العامة في نهاية القرن التاسع عشر، مع أوضاع بدايات العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، بقدر ما يتعلّق بصور الذهول والتيه، التي أصبحت تلفّ الأوضاع العربية العامة في العقود الثلاثة الماضية، إذ يمكن أن نلاحظ أن معطياتٍ كثيرة مرتبطة اليوم بالحاضر العربي تفيد بأننا على أبواب زمن تُصفّى فيه مختلف الطموحات العربية في الاستقلال والوحدة والتقدّم، وبناء الذات مجدّداً في عالم جديد. لا يتعلّق الأمر في ما نحن بصدد التفكير فيه بأيّ نوع من المطابقة بين الزمنَين، بل إنه يتعلّق أساساً بالنتيجة المتوقّعة من كل منهما، أي عودة الاستعمار في صوره (وأدواته) الجديدة، ولعلّه اليوم قريب منّا وعلى أبوابنا. فمنذ سنتين، أي منذ “7 أكتوبر” (2023)، يقوم الغرب الإمبريالي بالدعم المكشوف لمشروع الكيان الصهيوني الهادف إلى إبادة الفلسطينيين والتبشير بـ”إسرائيل الكبرى”، بعد إكماله مشروع ضمّ (واستيطان) ما تبقّى من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزّة، وبعد تخريب غزّة وتهجير أهلها، يقوم بكل هذا أمام العالم أجمع، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل ضرب سورية ولبنان واليمن، ثمّ يضيف بلدان الخليج بضربه الدوحة، من دون مراعاة دبلوماسية الصداقة ومعاهدات التعاون والتضامن القائمة بين دول الغرب والخليج العربي. ولا يتحرّك أحدٌ من العرب لوقف ما جرى وما يجري الإعداد له في المستقبل القريب. وبيان القمّة العربية الإسلامية الْمُعَدّ والمكتوب بلغةٍ تنتمي إلى زمن آخر يُبرز أننا بصدد الإعداد لخرائط “الشرق الأوسط الجديد”، فقد أصبحنا أمام وضع يسمح بالقيام بالخطوات المُماثِلة لخطوات زمن الانتداب والحماية، ضمن شروط وسياقات أخرى، إلا أنها تماثل الشروط التي وسمت ميلاد الزمن الاستعماري.
يواجه العرب مخطّطات صهيونية جديدة، أبرزها التلويح بخرائط جديدة مماثلة لخرائط آباء الصهيونية
نقرأ في فقرات بيان القمّة ما يُبرز عدم قدرة العرب والمسلمين على التفكير في حاضرهم ومستقبلهم. يُركِّب البيان فقرات تستوعب مفردات ومعطيات لا علاقة لها بواقع أحوالهم، ومختلف التحدّيات التي تواجههم، ولا علاقة لها أيضاً بما عُقدت القمة من أجله. وقد تميّز البيان بمعاداته لكل بيان، ولهذا لم يُفصح إلا عن شيء واحد. يتعلّق الأمر بالحدود القصوى للوهن العربي، الوهن المُفضِي إلى الهاوية. كان الصهاينة بدعم أميركي يعرفون أن دول الخليج المُطبِّعة معهم تقف في جانبهم، في الوقت الذي لم ينتبه العرب إلى حدود الساعة ألّا أحد معهم، لا من يقيمون قواعد عسكرية فوق أراضيهم ويرفعون شعار حمايتهم، ولا من أعدائهم. وعندما نقترب من هذا المآل أو نلج أبوابه، تكون الساعة قد أزفت لميلاد زمن الخرائط الجديدة، “إسرائيل الكبرى” و”الشرق الأوسط الجديد”، مزيّناً “بريفييرا” غزّة. تربح الصهيونية من آليات التطبيع القائمة، ما يشجّعها ليس فقط على استكمال مشروع إبادة الفلسطينيين، بل على ترتيب آليات اختراق شامل لبنيات أغلب المجتمعات العربية.
يستوعب مجمل ما أشرنا إليه علامات دالّة على أننا على أبواب وجه جديد من أوجه الزمن الإمبريالي، ومن هنا نعتبر أن العدوان الصهيوني أخيراً على الفلسطينيين في الدوحة، ليس مجرّد انتهاك للقانون الدولي، أو مجرّد تصعيد عسكري عارض، إنه اعتداء يدفعنا إلى البحث مجدّداً في بعض أبعاد الصراع العربي الصهيوني على فلسطين وباقي الأراضي العربية. اليوم يستهدف الخليج العربي بعد اختراق الصهاينة المتواصل الأرض العربية في فلسطين وسورية ولبنان، واستهداف إسرائيل المتواصل لليمن. يواجه العرب مخطّطات صهيونية جديدة، أبرز علاماتها التلويح بخرائط جديدة مماثلة لخرائط آباء الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر. وهي تُعادل كل ما قام به الصهاينة من جرائم حرب طوال القرن العشرين، فمتى يُدرِك العرب ذلك؟
المصدر: العربي الجديد