
إذا لم تعِ الدول العربية، والإسلامية، بعد العدوان غير المسبوق على قطر، أن إسرائيل تهديدٌ استراتيجي لها ولشعوب المنطقة، وأن أميركا غير معنية إلا بحماية إسرائيل وإبقائها الأقوى في المنطقة، فلا فائدة من قمم عربية وإسلامية وخطابات قوية دون رؤية عمل مشترك في مواجهة الاستباحة الإسرائيلية.
كان خطر إسرائيل ماثلاً بوضوح، لكن الدول العربية اختارت الخضوع لأميركا، أملاً بإنقاذ الأنظمة، ولو على حساب شلال الدم الفلسطيني وشهداء القصف المستمر في لبنان وسورية واليمن، وكأن ما يحدُث من اعتداءاتٍ حوادث متفرّقة يمكن غض النظر عنها.
استقوت إسرائيل بالشلل العربي، بل والتواطؤ معها، فازدادت شراسةً وتوحّشاً في حرب الإبادة والتجويع ضد الشعب الفلسطيني، وبدا الجميع ينتظر “اليوم التالي” لتدمير غزّة لتسيير أمور الأنظمة حلماً بالرخاء والازدهار. ونحن الآن نرى النتيجة في لبنان وسورية واليمن، وأخيراً، وقد لا تكون الأخيرة، قطر.
كان خطر إسرائيل ماثلاً بوضوح، لكن الدول العربية اختارت الخضوع لأميركا، أملاً بإنقاذ الأنظمة
لا نعرف إذا كنا نستطيع أن نأمل كثيراً في القمّة العربية الإسلامية الطارئة التي تعقد في الدوحة اليوم الأحد وغداً الاثنين، لكنها قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ المنطقة العربية من الاستباحة الصهيونية، التي لا تردعها معاهدات “سلام” ولا تعهّدات أميركية. ما تحتاجه المنطقة تغيير مفاهيم الأمن، والتخلّي عن أوهام السلام الأميركي و”ثقافة السلام”، التي ما هي إلا استسلام للهيمنة الإسرائيلية، وأن نعيد وضع أسسٍ حقيقيةٍ للأمن القومي العربي، وتذكُّر أن قضية فلسطين هي القضية المركزية، فالتخلّي عن شعب فلسطين لن يحمي أي دولة أو نظام عربي من الأطماع الإسرائيلية المعلنة.
من الصعب أن نأمل مجدّداً، ولكن ليس أمامنا سوى الأمل أن تفهم الدول العربية جميعها أن مواثيق “الدفاع المشترك مع أميركا” ليست إلا أدوات وبنية تحتية لضمان الأمن القومي الإسرائيلي وتدمير الأمن القومي العربي، والأمن الوطني لكل دولة على حدة. ومهم أيضاً أن تستفيق الدول العربية من أكذوبة أن الحماية الأميركية مهمّة لردع إيران وطموحاتها في المنطقة، بل ما نراه حالة انهيار أخرجت النظام من أي دور مأمول.
فالدول القوية في المنطقة، إسرائيل وتركيا وإيران، هي التي تحدّد التوازنات الإقليمية، فيما قُلِّصَت أدوارنا إلى تنفيذ الأجندة الأميركية، التي لا ترى إلا إسرائيل حليفاً استراتيجياً وازناً لها، فأميركا معنية فقط بحماية إسرائيل وضمان تفوقها العسكري والاستراتيجي، ولو كان الثمن إبادة أهل غزّة وإنشاء مناطق أمنية تحت سيطرتها في كل الدول المجاورة لها.
وعليه، قمّة الدوحة العربية الإسلامية مطالبة بخطّة عمل، وليس بيانات، واتخاذ موقفٍ حاسم حيال إسرائيل، فمن غير المعقول استمرار العلاقات العربية الاسرائيلية، وكأن شيئاً لم يحدث، إذ من المشين أن تبدأ دول بعيدة بمقاطعة إسرائيل والمطالبة بفرض عقوبات عليها، فيما دول عربية ماضية في تنفيذ اتفاقيات أمنية واقتصادية معها. ولمقاطعة إسرائيل غطاء قانوني، ولا ينقص الدول العربية الأموال بالاستعانة بالقانونيين العرب والدوليين لوضع مسوّغات حقوقية لوقف العلاقات والاتفاقيات، على أن يكون ذلك قراراً يشمل كل الدول المرتبطة باتفاقيات مع إسرائيل، فدول مثل مصر والأردن لا تستطيع القيام بذلك منفردة، فهي بحاجة إلى غطاء وحماية عربية، بشرط أن تتوفر الإرادة السياسية، التي من دونها لن تساوي قرارات القمة شيئاً حتى لو كانت خارقة في حسمها.
تعتبر إسرائيل كل الدول العربية ومواطنيها أعداءً لا بد من ترويضهم بالترهيب والدم
كنّا نعتقد، ونأمل، أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وعمل إسرائيل على تصفية القضية الفلسطينية، ومشاهد الجرائم الإسرائيلية التي أيقظت الضمائر وغيرت المواقف في جميع أنحاء العالم، تكفي للدفع إلى موقف عربي مشترك. ولكن، بدا وكأن الضمير مات في أروقة أنظمة العالم العربي، فيما صمّت آذان الحكام عن صرخات الأطفال الفلسطينيين الذين يموتون احتراقاً وجوعاً ومن تمزيق أجسادهم بالرصاص والصواريخ والمتفجّرات، وأغمضت دوائر الحكم عيونها عن الأمواج البشرية التي اجتاحت شوارع العالم نصرة لفلسطين والمشاهد غير المسبوقة لأسطول الصمود والحرية الذي انطلق من موانئ عربية وأوروبية لكسر الحصار على غزّة.
هي فرصة العرب، ولربما كانت الأخيرة، بعد أن ثبت أن لا بلد عربياً آمن من وحشية إسرائيل، حتى الدولة التي تقوم بدور الوساطة، وتجمع المفاوضين لإنهاء الحرب ووقف المقتلة، أضحت هدفاً للقصف. وإذا لم تصل الرسالة بعد الاعتداء الإسرائيلي على قطر، فلن تصل أبداً، فإسرائيل استهدفت قطر دون احترام لسيادة ولا لحرمة أمن الشعب القطري وأمانه، لا لأنها لا تريد مفاوضاتٍ ولا وسطاء، بل لأنها تريد فرض إملاءاتها بالبارود والنار. واستهداف المفاوضين من قادة حركة حماس رسالة واضحة؛ فلا حل لدى إسرائيل سوى عمليات الاغتيال والقتل والإعدام خارج القانون وترهيب أهل قطر، والتبجّح بالقول للجميع إنه لا يوجد دولة عربية آمنة من نار إسرائيل.
الخشية أن تستنتج بعض الدول العربية بإيحاء من واشنطن، وتحت ضغوط أميركية، أنه لا يمكن أن تأمن من جرائم إسرائيل إلا بتسليمها من تريده من الفلسطينيين. وقد عبّرت إسرائيل بوضوح عن شرط تسليمها قيادات “حماس” الموجودة في الدوحة، وإلا عاودت الاعتداءات على قطر، وفي المستقبل القريب. أيْ تسليم أيِّ فلسطيني تختار في أي دولة عربية لها، وإلا تشن حرباً عليها. وتحاول إسرائيل بهذا بثّ الخوف بين الشعوب العربية من أن الوجود الفلسطيني وباء عليها، وأن الحل في معاقبة الفلسطينيين أو طردهم من دول عربية وفقاً لمزاج إسرائيل.
قمّة الدوحة مطالبة بموقف عربي وإسلامي واضح من القضية الفلسطينية وحرب الإبادة والاحتلال الإسرائيلي
قمّة الدوحة مطالبة بموقف عربي وإسلامي واضح من القضية الفلسطينية وحرب الإبادة والاحتلال الإسرائيلي. فالقمّة باعتبارها ممثلة لنظام عربي يغرق، مسؤولة عن حماية شعوبها، بما فيها الشعب الفلسطيني، فخلاصها ليس في التخلي عن الفلسطينيين، لأن إسرائيل تعتبر كل الدول العربية ومواطنيها أعداءً لا بد من ترويضهم بالترهيب والدم. ولكن يجب التشديد مجدّداً على مراجعة مفهوم الأمن لدى الدول العربية والتزام الأمن القومي العربي، بما يتطلبه ذلك من مراجعة علاقات الدول العربية مع أميركا وقطع التنسيق الأمني مع إسرائيل، الذي أوشك أن يصبح تحالفاً أمنياً، فإسرائيل تعتبر كل الدول العربية ساحة لعب لها ولنفوذها، وهذا ما نشهده حالياً ويجب أن يتوقف.
في كلمته القوية أمام مجلس الأمن، وصف وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إسرائيل بالمارقة، والدول المارقة لا تحترم القانون ولا الأخلاق، وليس لديها أي رادع، وبالتالي يجب عزلها ومعاقبتها. أي إن على الدول العربية، مجتمعة وفرادى، أن تعلن خطّة وخطوات لعزل “الدولة المارقة”، لكبح توحّشها، وإلا فإنها كلمات تفقد مضمونها، خصوصاً أن العالم بحاجة إلى موقف عربي قوي، يدعم زخم الثورة العالمية ضد إسرائيل ومع القضية الفلسطينية، وجعله قوة فاعلة لعزل إسرائيل وحماية العالم منها. … غير ذلك، أي تقصير يقترب من الخطيئة… أو أعظم.
المصدر: العربي الجديد