
يتبدّى المشهد السوري، في اللحظة الراهنة، بوصفه نفياً متدرّجاً لصورة الإنسان لا خلافاً عارضاً بين سلطة حكم ومعارضيها، فالمعنى الجامع للمواطنة انحلّ، والفاعل الفردي تلاشى بوصفه “شخصاً سورياً بحكم الروابط القانونية والدستورية مع جغرافيا محددة يتمتع بها بحقوق ويلتزم بواجبات”، وصار السوري يُرى إمّا عضواً في جماعة متخيَّلة تشدّه إلى هوياتٍ ضيّقة.
وإمّا جسداً يُدار بميزان القوّة ويُقاس بجدول الولاء، ورغم اختلاف السوريين اليوم على كل شيء تقريباً، من رموز الدولة إلى تعريف ذواتهم، ووصول هذا الخلاف إلى حد الوحشية في بعض الأحيان، كما حدث في أحداث السويداء والساحل، من عنف وعنف مضاد، واشتراك جماعاتٍ أهليّةٍ، سواء مع السلطة أو ضدها في عمليات القتل وممارسة أشكال فظيعة من الوحشية، والمخيف في الأمر هو تحول العنفِ بشكليه المادي المجرد، أو المعنوي الذي يمارسه الجميع ضد الجميع، إلى سياق يتم الدفاع عنه والتبشير به من قبل أصوات ليست بالقليلة، وإسناده عبر وسائل الإعلام المختلفة، والجهر به في الساحات والتجمعات في المدن السورية المختلفة من حلب إلى السويداء، ورغم هذا الخلاف الذي يتجلى في أغلب خطابات الفاعلين فيه، إلا أنهم يتواطؤون جميعاً على حجب وتغييب أمرين اثنين، وهما: أساسيات المرحلة الانتقالية، ومفهوم المواطنة باعتبارها التعاقد الفردي بين الإنسان القانوني المعرف كذات في القانون والدولة، وهذا التواطؤ بما يحمل من معنى القصدية، تمارسه السلطة والجماعات المختلفة على حد سواء، ولكلٍ أسبابه.
التمزيق المتعمد لكل المنظومة القانونية التي تؤطر عمليات استخدام العنف والذي تمارسه السلطات والجماعات المعارضة لها، ليس مجرد أمرٍ شكلي يتعلق بضرورة احترام الجميع للقانون كمفهوم، بل هو مساسٌ بالبنية الرمزية التي تنهض عليها الدولة.
فالسلطة حجبت هندسة الانتقال عن كل خطاباتها وسلوكها السياسي لتبني هيمنتها السلطوية المتحررة من كل قيد قانوني في ظل عدم وضوح مفهوم الدولة وضوابطها القانونية والدستورية في عقل من يدير هذه المرحلة، والجماعات “القومية والطائفية” -أو الذين يزعمون أنهم يتحدثون باسمها- حجبتها لتبرّر انفكاكها عن الاجتماع السياسي السوري تحت لافتات طائفية أو قومية، وبين الحجبين أُزيحت المواطنة -بما هي عقدٌ فرديّ بين الإنسان والدولة- إلى هامش الشعارات، وتحول الفضاء العام إلى مجرد ساحة لإدارة توازنات الدم، لا إلى نظامٍ لحقوقٍ متكافئة تُقيِّد العنف، وتَسِمُه بالحدّ والمشروعية.
هذا التمزيق المتعمد لكل المنظومة القانونية التي تؤطر عمليات استخدام العنف والذي تمارسه السلطات والجماعات المعارضة لها، ليس مجرد أمرٍ شكلي يتعلق بضرورة احترام الجميع للقانون كمفهوم، بل هو مساسٌ بالبنية الرمزية التي تنهض عليها الدولة وينبني عليها الاجتماع السياسي السوري، فاستخدام السلاح والعنف كوسيلة لحل الخلافات ليس عملاً بدائياً بحد ذاته، بل هو فضلاً عن ذلك إعلانٌ لنهاية المرحلة الانتقالية، التي كان من المفترض أن تقود عملية العبور إلى الدولة المنشودة التي تقوم على أساس البنية القانونية للإنسان الفرد، بصفته مواطناً وليس بصفته عضواً في جماعة دينية أو قومية، والخروج المزدوج على حدود الشرعية والقانون، الذي تمارسه الدولة عبر عمليات عدم تقييد استخدام السلاح، أو الذي تستخدمه الجماعات عبر عمليات الاستقواء بالسلاح سواء المحلي أو الأجنبي لفرض قرارها ورؤيتها في شكل الدولة، أو في المطالبة بالانفصال، هو إهدارٌ كاملٌ لكل تضحيات السوريين منذ بداية المقتلة السورية عام 2011، والتي كان عنوانها محاولات السوريين في الحلم بدولة تنظر إليهم كذوات فاعلة، لها حقوق يجب أن تُحترم وتصان دستورياً وأن لا تُمس إلا وفقاً لآليات قانونية متوافق عليها.
وإهدار البعد الدستوري والقانوني في عملية إعادة بناء النظام السياسي السوري، وحجب أساسيات المرحلة الانتقالية عن الفضاء العام، هو إلغاء للإنسان السوري نفسه، الأمر الذي يتيح تشييئه واستبعاده من الفاعلية السياسية، القادرة على فرض مجموعة من الحقوق العامة المتكافئة التي تنطبق على الجميع.
والمواطنة هي الترجمة السياسية المباشرة لهذه الحقوق، وليست بطاقةً أو قيداً، ولا نِسبةً تُلصق بالفرد، بل تعهّداً عمومياً بأن يُنظر إلى كلّ إنسان على أنّه غايةٌ في ذاته، صاحب ذمّة وحرمة ومسؤولية، لا وسيلة لتدبير غلبةٍ أو ترميم عصبية، وهي الصيغة التي تُقيم العلاقة بين الفرد والدولة، على قاعدة المساواة المستمدّة من الكرامة، لا من الولاءات الأولى، ولا من المقايضات الفئوية، ولهذا فإن تغييب المواطنة في سورية ليس عرضاً جانبياً، بل هو في جوهره تغييبٌ للإنسان السوري بوصفه بنية قانونية تكتنز مجموعة من الحقوق، والتي يشكل احترامها شرطاً للشرعية الأخلاقية، وهي القيد الذي يكفّ يد السلطة والعصبية معاً عن ابتلاع الفرد، وهذا التغييب المتعمد هو إنهاءٌ فعلي للمرحلة الانتقالية، بحيث يبدو المشهد والآن وكأننا تجاوزنا كل ما تتطلبه هذه المرحلة من استحقاقات.
والمرحلة الانتقالية، متى أُريد لها أن تكون انتقالاً حقّاً، ليست حزمةَ ملفاتٍ تُدار بالتجزئة، بل هندسةٌ رمزية لإعادة تأسيس الشرعية على صورة الإنسان، فإعادة بناء النظام السياسي، وترسيخ السلم الأهلي مقترناً بالعدالة والمحاسبة وإصلاح مؤسستي الجيش والأمن، وإعادة الإعمار، وإعادة صوغ العلاقات الخارجية، كل ذلك حلقاتٌ متشابكة لا تقوم إحداها دون الأخرى، لأن غايتها الواحدة بعينها إحياء مقام الشخص ” المواطن” في قلب البنية الدستورية والإدارية، وحين تُحجب هذه الهندسة، تستعيد العصبياتُ قديمَ سلطتها، وتُعاد صياغة الخطاب العام لخدمة الجماعة المتخيّلة، لا لصون الفرد، ويتحوّل الحقل العمومي إلى منطق غلبةٍ يَسِمُه الدم، لا معيار الحقّ وتكافؤ المراكز القانونية.
الطريق الوحيد للخلاص هو في إعادة تثبيت الصورة: شرعيةٌ تُفهَم على أنّها تعهّدٌ بحراسة الكرامة البشرية، لا آلة حكم، ووسائل فعلٍ سلميّة، تُعيد بناء الثقة وتتيح للناس الكلام باسم الحقّ لا باسم العصبية.
على أن الخطر الأشد حدّة لا يتأتّى من انحراف السلطة أو جنوحها نحو بناء نظام سلطوي وحسب، بل من استبدادٍ عصبيٍّ، يتكلم باسم “هويةٍ مشتركة” تُقدَّم كقَدَرٍ مفروض، فالقومية الشوفينية والطائفية الدينية، سواءٌ في تنزيل الفرد من مقامه كذاتٍ قانونية عليا بالتعريف الدستوري، إلى مجرّد خليةٍ في جسدٍ جمعيٍّ أسطوريٍ مُتخيّل، تُحوّلان الإنسان إلى وقودٍ لوحدةٍ موهومة، أو لشعارٍ يتعالى على واقعه الشخصي، وهنا يُنفى الإنسان مرّتين: مرةً حين يُجرّد من استقلاله وفرديته وخياراته الشخصية وكرامته الإنسانية، وأخرى حين يُستنزف لإدامة هذه الجماعة المتخيّلة، التي تبني مشروعية متعالية على الواقع التاريخي، وتوهم الناس أنهم ليسوا أفراداً لهم حقوق وكرامة، بل أعضاءٌ في جسدٍ أسطوريّ، يتطلب التضحية المطلقة لديمومته، وهكذا تتحول الجماعة إلى معبودٍ رمزيٍ جديدٍ يبتلع ذوات أعضائها، ويُعيد إنتاج منطق الشمولية باسم الوحدة والانتماء.
وعلى الضفة الأخرى، إذ يُختزل إعادة بناء النظام السياسي، إلى محضِ عددٍ، تنفصل الشرعية عن رمز العدالة والمصلحة العامة، فتغدو الغلبة العددية معياراً وحيداً، وتُفرغ المرحلة الانتقالية من كونها أداة لتجاوز العقود السبعة الماضية من تاريخ السوريين، ووسيلة لإعادة بناء ذواتهم كأفراد أحرار، وتتحول هذه المرحلة إلى مجرد بناء سلطة تحول المواطن إلى مجرد صوت بلا كرامة.
والطريق الوحيد للخلاص هو في إعادة تثبيت الصورة: شرعيةٌ تُفهَم على أنّها تعهّدٌ بحراسة الكرامة البشرية، لا آلة حكم، ووسائل فعلٍ سلميّة، تُعيد بناء الثقة وتتيح للناس الكلام باسم الحقّ لا باسم العصبية، وممنوعاتٌ مُؤسِّسة تحدّد ما لا يُباح ولو تحت ضغط الأكثرية وذرائع الأمن، لأن المنع في هذه المَواطن شرطُ حريةٍ لا نقيضُها، ومعها اجتهادٌ في بناء مفهوم الحقّ، يَحُولُ دون تسليع الإنسان، ويُعيد ترتيب الفضاء العمومي بوصفه موازينَ متكافئة للمراكز القانونية للذوات الفردية، لا ساحةً لصفقات العنف.
بهذا المعنى تكون “المواطنة” وحدها أفق الدولة الممكن: مواطنةٌ تُشتقّ شرعيتها من كون كلّ فردٍ شخصاً قانونياً مستقلاً بذاته، لا تأطير إثنيا أو دينيا أو مذهبيا له، فتكون الدولةُ حراسةً لصورة الإنسان، لا رعايةً لجماعاتٍ متنازعة، وتكفّ يد السلطة عن الاستبداد، ويد العصبية عن الافتراس، وتستردّ العنف إلى حدوده المقيدة بقواعدٍ مشتركة، وإذا استُعيدت هذه المواطنة على هيئتها الرمزية انفتح طريقُ الحكم الرشيد -شرعيةً ومساءلةً ومساواةً- وغدا السلم الأهلي أكثر من هدنةٍ هشة، وأضحت إعادة الإعمار مشروعاً لإحياء الشخص قبل الحجر، أمّا إن ضاعت، فسيظلّ السوري أسير الثنائية القاتلة: عنف السلطة وسطوة الجماعة، لا يُرى إلا رقماً في معادلةٍ، أو عضواً في قطيع.
وعند هذا الحدّ يستبين السؤال المؤسِّس: ليس “مَن يحكم؟” بل “أيُّ صورةٍ للإنسان يحرسها الحكم؟”، فكلّ ترتيبٍ يُختبر بقدرته على إبقاء الكرامة أصلاً لا عَرضاً أو شعاراً وذخيرةً لاستنهاض العنف والعنف المقابل، وهذا الترتيب هو القادر على تحويل القوّة من قهرٍ يُشرعن بحكم الواقع أو الغلبة، إلى مؤسّسةٍ تُسأل، هنا فقط يستعيد السوري إنسانيته، “شخصاً” لا “شيئاً”، و”غاية” لا “وسيلة”.
المصدر: تلفزيون سوريا