من التجانس الفصائلي إلى التجانس الوطني

عدنان علي

تشير التطورات الأخيرة المرتبطة بالسويداء إلى أزمة عميقة في المجتمع السوري تتعلق بالهوية والانتماء، وتضخم في العصبيات الضيقة مقابل هشاشة لفكرة الوطن الجامع.

يحمل البعض تلبيس السلطة الحالية مسؤولية انفجار هذه الأزمة بسبب احتكارها السلطة منذ ثمانية أشهر، وإهمالها للشركاء الآخرين في الوطن، بمن فيهم حتى الحاضنة السنية، ما لم تكن مرتبطة بالمجموعة الحاكمة القادمة من إدلب.

والواقع، أن هذا تشخيص يحمل قدراً من الصحة، لكنه وحده لا يفسر ما نحن بصدده اليوم، حيث نشهد تشظيا للمجتمع السوري، وارتداداً قوياً باتجاه العصبيات الضيقة المذهبية والعشائرية والعرقية والمناطقية، فيما يبدو مفهوم الوطن يتيماً يُنظر له بعض المثقفين الذين يوصفون بأنهم منفصلون عن الواقع، ومثله مفهوم الدولة الذي يردده المسؤولون في الحكم كمرادف للسلطة الحاكمة، وهو ما لا يحظى باعتراف بقية المكونات كما يبدو حتى الآن.

لا شك أن التناقضات المجتمعية المتراكمة منذ عقود، والمغيبة بالقوة خلال الحقبة الأسدية، تحتاج إلى دراسة جدية، وهي تشير إلى جهل واضح، وتنميط كبير في نظرة المكونات المحلية لبعضها البعض، وهو ما يفسر مقدار التحامل والتجييش الداخلي الحاصل اليوم.

لكن في الجانب السياسي، يمكن القول إن الحكاية بدأت منذ انعقاد “مؤتمر النصر” مطلع العام الجاري والذي دُعيت إليه فقط الفصائل العسكرية المشاركة في معركة “ردع العدوان” وانتهت بإطاحة نظام الأسد. منذ تلك اللحظة، شعرت المكونات الأخرى أنها مستبعدة عن المشاركة في النصر، وأن هذا النصر ليس نصرها، بل يعني مجموعة محددة بعينها. وجاءت القرارات الصادرة عن المؤتمر، والمتمثلة في تولية أحمد الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، وحل الأحزاب، وكذلك الأجهزة الأمنية والجيش، ومجلس الشعب، ليكرس هذا الشعور بالاغتراب عن السلطة الجديدة لدى تلك المكونات. ثم جاء مؤتمر “الحوار الوطني” المسلوق على عجل، ومن بعده “الإعلان الدستوري” ليصبا في الاتجاه ذاته، بأن السلطة الحاكمة تهندس الدولة على مقاسها، دون اكتراث بالاعتراضات والانتقادات الصادرة عن جهات، بمن فيها شخصيات ومثقفون من العرب السنة الذين وجدوا أنفسهم أيضا خارج سياق السلطة الحالية التي اعتمدت بشكل كبير على كوادرها العسكرية والإدارية حين كانت تحكم في إدلب، مستبعدة أية خبرات أخرى، حتى لو كانت معارضة للنظام السابق.

ومن هنا، يرى بعضهم، أن “الأخطاء” التي وقعت فيها السلطة، والناجمة أساساً عن سوء تقدير للموقف، سببها الأساسي قلة الخبرة لدى الفاعلين في هذه السلطة، خصوصاً إزاء ملفات جديدة لم يسبق لهم التعامل معها على نطاق واسع، مثل كيفية إدارة خلافات المجتمع المحلي، سيما مع المكونات الأخرى (الأقليات) وسوء إدارة الاعلام الذي تولاه عموما ناشطون متحمسون يفتقدون للخبرة والوعي السياسي والمجتمعي، وكيفية إدارة العلاقة مع إسرائيل، وعدم تشغيل السفارات السورية المعطلة في الخارج، بينما اتكأت السلطة في علاقاتها الدولية على الرافعة التركية- الخليجية، والتي أمكن بفضلها الرفع الجزئي للعقوبات الأميركية والأوروبية عن البلاد.

لو كان لدينا “مجلس إدارة الدولة” فيه ممثلون عن كل المكونات برئاسة الرئيس الشرع، هو من يتولى التعامل مع الملفات الداخلية، لكان أمكن إلى حد كبير الخروج من الثنائية الطائفية القاتلة: حكومة من لون واحد مقابل طائفة معينة، وهذه الثنائية تسهل توجيه مختلف أشكال الاتهامات للحكومة، فقط لأنه ينظر إليها على أنها من لون واحد.

ثم جاءت أحداث الساحل، والانتهاكات التي رافقتها بسبب عدم السيطرة الكافية على القوات المشاركة، لتشير إلى قدر من الارتجالية في التعامل مع قضايا حساسة، وهو ما يؤكد أيضا على فكرة ضعف الخبرة. وتلاها أحداث صحنايا وجرمانا وصولا إلى السويداء، لتتكرر الأخطاء ذاتها، وبشكل شبه حرفي، ما يعني الافتقاد إلى المؤسساتية التي من خلالها يتم استخلاص العبر، ووضع خطط لتلافي الأخطاء، مقابل هيمنة عقلية الفصيل وأسلوب الارتجال في القرارات، بينما كانت قوى في الداخل، وأخرى في الخارج (إسرائيل) تنتظر هذه “الأخطاء”، بل ربما تستدرج السلطة إليها، لتوريطها أكثر في المواجهة مع المجتمعات المحلية، بهدف محاصرتها وإضعافها، وصولاً إلى تهيئة الظروف للمطالب الانفصالية، على نحو ما حدث أخيرا في السويداء.

هل ضاعت الفرصة لتدارك أخطاء الشهور الماضية؟ أعتقد ما زال الوقت متاحاً لاستعادة زمام المبادرة، واتخاذ خطوات جدية للانفتاح على المجتمع، وإشراكه بشكل حقيقي في تحمل المسؤولية، وطرح الحلول، ومواجهة المشكلات، وهذا لا يضعف من السلطة، بل يقويها. وعلى سيبل المثال، لو كان لدينا “مجلس إدارة الدولة” فيه ممثلون عن كل المكونات برئاسة الرئيس الشرع، هو من يتولى التعامل مع الملفات الداخلية، لكان أمكن إلى حد كبير الخروج من الثنائية الطائفية القاتلة: حكومة من لون واحد مقابل طائفة معينة، وهذه الثنائية تسهل توجيه مختلف أشكال الاتهامات للحكومة، فقط لأنه ينظر إليها على أنها من لون واحد. ماذا لو كان لدينا وزير دفاع مسيحي؟ هذا ليس قفزاً عن الواقع، بل يجب أن تدرك المكونات الفصائلية التي تقوم عليها السلطة أن نجاح التجربة يتطلب بالضرورة مشاركة من هذا النوع، ليس كديكور سياسي، بل مشاركة فعلية، وقد يكون لدى وزير الدفاع المسيحي أو أي مكون آخر، مقاربة مختلفة للتعامل مع أزمات على نحو ما حصل في الساحل والسويداء.

السلطة الحالية بحاجة ماسة لتطعيم كوادرها الفاعلية بألوان أخرى، وتوسيع مفهوم “الحكومة المتجانسة” التي تحدث عنها الرئيس الشرع في الأشهر الأولى، لتشمل قوى وشخصيات من خارج “دويلة إدلب” التي كانت، والانتقال من وضع التجانس الفصائلي إلى التجانس الوطني.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى