
تصاعد الخلاف بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل، في ظلّ حالة من الشعور بالاستهداف، التي عبّرت عنها قيادات في المركزية النقابية، خاصّة بعد التحرّك الذي جرى أمام المقرّ المركزي للمنظّمة، واعتبره الاتحاد “اعتداءً همجياً من أنصار السلطة”، و”يندرج ضمن سلسلة التضييقات التي تمارسها السلطة على الحقّ النقابي”، كما ورد في بيان الاتحاد بتاريخ 11 أغسطس/ آب 2025. وقرّرت المركزية النقابية تنظيم تجمّع عمّالي وطني ومسيرة يوم 21 أغسطس المُقبل، مع التهديد بإمكانية تنظيم إضرابٍ عامٍّ “في حالة استمرار ضرب الحوار الاجتماعي وعدم تطبيق الاتفاقات الممضاة، وتواصل سياسة انتهاك الحقّ النقابي”، كما في بيان الاتحاد. لم تكن المنظّمة النقابية في ضيق يشبه ما هي عليه اليوم، ويبدو أن فشلها في التعامل مع التحوّلات السياسية المتسارعة في البلاد أفقدها كثيراً من الفاعلية ومن القدرة على التأثير. فمن دور الشريك الفاعل القادر على فرض أجنداته زمن العشرية الديمقراطية إلى طرف متّهم بالفساد ويتوسّل الحوار مع السلطة القائمة منذ 25 يوليو/ تموز 2021، هناك مسافة فاصلة، وأكثر من سؤال مطروح، حول طبيعة العلاقة مع السلطة، بل حتى عن علاقة النقابة بالعمل السياسي.
من المهم أوّلاً توضيح أن النقابات تعتبر هنا جهات اجتماعية فاعلة منذ مرحلة الاحتلال الفرنسي مروراً بتشكّل الدولة الوطنية الحديثة. ويقع عمل النقابات على ثلاثة مستويات مختلفة، أول هذه المستويات هو العمل اليومي، إذ يتعلّق الأمر بتنظيم الخدمات وأنشطة التفاوض مع أرباب العمل وتطبيق الاتفاقات الاجتماعية وممارسة الضغط والتعبئة، التي يمكن أن تشمل تنظيم الإضرابات. هذا هو الجانب الاستراتيجي الصارم للعمل النقابي. ثانياً، هناك المستوى المؤسّسي، فتنفّذ قواعد تقاسم النفوذ بين الجهات الفاعلة، أي بين أصحاب العمل والنقابات، ولكن أيضاً الدولة، من خلال التسويات والنضالات توضع قواعد الاعتراف بالنقابات والمشاركة في القرارات والحقّ في التفاوض وما إلى ذلك. بالإضافة إلى هذه الخطط التي تتعلّق بالجوانب التنظيمية للعمل النقابي، هناك مستوى ثالث، وهو الحركة الاجتماعية، أعني تلك التي تقع في قلب الصراعات السياسية والعلاقات الطبقية والتضامن والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.
من المتوقّع أن تتناغم هذه المستويات الثلاثة. ولكن لا عجب أن تتعارض أحياناً وتنشأ عنها توتّرات، لا سيّما في أوقات الأزمات. فقد ظلّت العلاقة بين الاتحاد العام للشغل والسلطة تتراوح دوماً بين الصراع أو خضوع المنظّمة للسلطة، وإذا استثنينا العشرية الديمقراطية، حين تحوّلت المركزية النقابية شريكاً فعلياً وصانعاً للقرار، بل أفضى حضورها السياسي إلى حصولها على جائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع منظّمات أخرى، فإنها اليوم في أزمة حقيقية سببها حالة التنازع بين رغبتها في الاستمرار شريكاً فاعلاً من الناحية النظرية وتحوّلها إلى طرفٍ لا ترغب السلطة في محاورته واقعاً، بل تسعى إلى إعادته إلى مربّع الخضوع الذي كان عليه زمن حكم زين العابدين بن علي.
لم يعد الاتحاد قادراً على التعبئة فقد خسر سمته النقابية الصرفة منذ تحوّل إلى مجال نفوذ للفصائل السياسية المتنازعة
لم تتصوّر قيادة الاتحاد أنها ستجد نفسها في طريق مسدود بين رفض السلطة الحوار معها وحالة الانشقاق الداخلي التي تتوسّع وتغذّيها أطراف في السلطة للتخلّص من بعض القيادات الحالية. وهذه الوضعية الصعبة جعلت بعض قيادات المنظّمة تشعر وكأنها قد حُشرت في الزاوية في ظلّ انعدام الخيارات بين الخضوع للسلطة أو خوض مواجهة غير متكافئة. وحتى المواجهات التاريخية التي خاضها الاتحاد ضدّ السلطة سنة 1978 وسنة 1985، كانت مغايرةً تماماً للوضع الحالي، ففي تلك المواجهات كان الاتحاد يلعب دوره الاجتماعي بقيادة تاريخية وازنة مثّلها الحبيب عاشور الذي كان يمثّل صوت الطبقة الشغلية قولاً وفعلاً، وقد اعتُبرت المركزية النقابية حينها التعبير الأمثل عن “الحركة العمّالية” أو “العمّال” أو حتى عن “الشعب”. واعتُبرت شرطاً لإمكانية “التقدّم الاجتماعي” و”مكافحة استغلال رأس المال للعمّال”، وكذلك محاوراً شرعياً للسلطة خلال المفاوضات الاجتماعية الكبرى. أمّا الآن فلم يعد الاتحاد قادراً على التعبئة فقد خسر سمته النقابية الصرفة منذ تحوّل إلى مجال نفوذ للفصائل السياسية المتنازعة، وتراجع التيّار النقابي الذي يُصطلَح عليه “بالتيّار العاشوري” (نسبة إلى القيادي المؤسّس المرحوم الحبيب عاشور).
هل المنظّمة النقابية مريضة بالسياسة؟ هذا شائع في النقابات على الطريقة التونسية. يرى بعضهم أن تسييس الاتحاد يُفسّر ضعفه الحالي، وهو أحد الأسباب الرئيسة لأزمته: المواقف الأيديولوجية المفرطة لجزء كبير من القيادات في أثناء العشرية الديمقراطية، وعدم وضوح مواقفهم ما بعد “مسار يوليو” (2021)، تُفسّر استياء الموظّفين من الاتحاد. في المقابل، يُمكننا القول إن النقابات لا يُمكنها تجاهل السياسة. سواء نظرنا إلى الدور المركزي الذي تلعبه النقابات في إنتاج السياسات العامّة ومراقبتها، أو قدرتها، من خلال خطابها وممارساتها، على نقل رؤى العالم، فإن السعي إلى الحياد السياسي قد يبدو وهماً يُخفي وراءه التزاماً بالنظام القائم.
المصدر: العربي الجديد