اغتيال الحقيقة قبل الحلّ النهائي في غزّة

ولاء سعيد السامرائي

بدا مؤتمر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو أخيراً مقدّمةً للعملية العسكرية لاجتياح غزّة، أعلن فيه أنه يريد بتلك العملية حسم الحرب وتحقيق أهدافه (لم يتمكّن من تحقيق أيٍّ منها رغم مرور أكثر من 22 شهراً). مؤتمر عقده مجرم الحرب لتسويق أكاذيبه، وأكاذيب كيانه الهشّ، من جديد عن المجاعة ومنع المساعدات الإنسانية والسماح للإعلام الأجنبي بالتغطية الإخبارية لما يجري في غزّة. يشي مضمونه وتوقيته بأنه يحصل بعد اجتماع له، ولفريقه الذي وضع اللمسات الأخيرة لعملية اغتيال الصحافي أنس الشريف ومحمد قريقع وزملائهما في قناة الجزيرة. تحدّث نتنياهو في قاعة لا تضمّ إلا مجموعةً صغيرةً من الصحافيين الأجانب، بعضهم من قناة فوكس نيوز الأميركية (اليمينية)، وآخرون من أتباع اليمين الإسرائيلي في الإعلام الفرنسي والبريطاني والألماني، الذين يحملون جنسيات مزدوجة، لا يزالون، رغم مشاهد المجاعة التي طافت صورها العالم، ورغم تصريحات ساسة في العالم ومواقف المنظّمات الدولية والحقوقية والأمم المتحدة، يصرّون بشراسة على الدفاع عن سردية الاحتلال الكاذبة في الإعلام، غير عابئين حتى بمذكّرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بل يردّدون عبر الإعلام ادّعاءات الحكومة الإسرائيلية، ليستخدموها في برامج الحوار أو في نشرات الأخبار، مدافعين عنها بشراسة الصهاينة، وأحياناً أكثر.

بدأ نتنياهو مؤتمره بعرض ثلاث صور للمجاعة في غزّة، نشرتها “نيويورك تايمز”، قال إنها غير صحيحة، وأنها تسويق من الصحيفة الأميركية “لدعاية حماس الكاذبة”، وادّعى أنها لا تُظهر مجاعةً، بل يتعلّق الأمر بأمراضٍ جينية، داعياً الصحافيين إلى التمعّن بصورة الوالدة التي لا تمثّل أثراً لأيّ مجاعة وتبدو طبيعية. كذلك استشهد مجرم الحرب الكاذب بذراع الفلسطيني التي ظهرت في فيديو الأسير الإسرائيلي، الذي نشرته حركة حماس أخيراً، ليقول انظروا إلى رجال “حماس”، هم بصحّة جيّدة، وهم من يسرقون المساعدات ويجوّعون أهل غزّة، بينما نحن نُدخِل لهم ملايين أطنان المساعدات التي تهملها الأمم المتحدة ومنظّمات الإغاثة، ولا توزّعها، وهذه صورها. قائلاً: “ليس هناك مجاعة في غزّة”. ومن ثمّ بدأ الإدّعاء الكاذب إن حكومته تهتم بأمن الصحافيين وتخشى على حياتهم، ولا تريد التسبّب في قتلهم، بينما يعرف العالم أجمع، وفي مقدّمتهم الصحافيون والمؤسّسات الصحافية العالمية، أن جيش الاحتلال قتل أكثر من 230 صحافياً منذ بداية الحرب، وهذا عدد تاريخي لم يحصل في أيّ حرب مضت.

تحوّل اغتيال أنس الشريف موجة غضب عالمية ودعماً واسعاً للشعب الفلسطيني

أن يتصدّر رئيس وزراء الحكومة الفاشية بنفسه حملةً إعلاميةً هجوميةً لتجميل صورة جيشه وحربه، فذلك يعني أن الشهيد أنس الشريف قد أوجعه، وأوجعه بقوة، هو ورفاقه في “الجزيرة”، العاملين معه في تغطيتهم الإخبارية للقتل تجويعاً وفي مجازر الطحين، التي غرست مسماراً في نعش الدعاية الإسرائيلية في العالم، وأنه اتخذ قرار الاغتيال لفريق “الجزيرة”، لأنه مقبل على حرب طاحنة جديدة يحسم بها حربه على غزّة، يستخدم فيها هذه المرّة أسلحةً لم يستعملها سابقاً، ولا يرغب في وجود إعلاميين مثل أنس الشريف وزملائه يمكنهم تغطية الجريمة. فمنذ بداية تغطية أنس الشريف للمجاعة في غزّة، حصل تطوّر كبير ونوعي في الرأي العام العالمي، فبدل اعتياد الناس أخبار الحرب، وتعبهم من استمرارها ومتابعتها، وهو ما راهن عليه الاحتلال، والإعلام الغربي المتواطئ معه، أشعلت تغطية الشريف الذي يتابعه أكثر من نصف مليون شخص، مشاعر العالم في كلّ مكان، فأخرجت تغطيته الإخبارية المتميّزة عبر قناة الجزيرة، التي تنقل الواقع المأساوي للمجاعة بكلمات الحياة اليومية للغزّيين أطفالاً وكباراً، رجالاً ونساءً… أخرجت منذ بضعة أسابيع ملايين المتظاهرين والاحتجاجات القوية في شوارع دول لم تكن معتادةً على رؤية هذه الأعداد مثل شوارع اليابان وأستراليا، أرعبت الكيان، ورئيس وزرائه الذي يتابع بنفسه صورة بيته الهشّ في العالم.

مع هذا التحوّل النوعي المؤثّر، لم تنتكس حملات الإعلام الصهيونية فحسب، بل انتكس معها الإعلام الغربي المُهيِمن، الذي أصيب في مقتل، نجومه الفاشيّون هم بين هيستريا الدفاع الأعمى عن الاحتلال وانهيار المصداقية تماماً أمام ملايين المشاهدين والمتابعين. لكنّ السحر انقلب على الساحر، إذ إن الاغتيال المقرّر من مجرم الحرب نفسه تحوّل موجة غضب عالمية استنكارا للجريمة، ودعماً للشعب الفلسطيني وغزّة، ووقفةً قويةً ضدّ دولة الاحتلال، فرُفِعت صور أنس الشريف ومحمد قريقع في لندن وبرلين وباريس وطوكيو وروما ومدريد، مندّدةً بالقتلة، وعاهده عشرات المؤثّرين حول العالم بتنفيذ وصيته التي نشروها، بالاستمرار في تغطية ما يجري في غزّة، وفضح جرائم الاحتلال.

أظهر اغتيال أنس الشريف أنه أيقونة عالمية للإعلام الفلسطيني الصامد، ورفع من صاحب القضية الذي لم يغره بديل أمام الدفاع عن أرضه وشعبه، الشابّ العشريني المحبوب الذي حظي تلقائياً بودّ المؤسّسات النقابية والمهنية الصحافية الدولية واحترامها وتعاطفها، ودخل قلوب كلّ من عرفه وتابعه وأحبّه في الوطن العربي وفي الغرب، فرُفع إلى مرتبة لم يصل إليها أيّ صحافي في العالم. هو الذي منحته منظّمة العفو الدولية جائزة الدفاع عن حقوق الإنسان عام 2024 ، بل إن صحيفة لوموند الفرنسية لم تتردّد في نشر مقال رصين عنه، وكذلك فعلت صحيفة ليبراسيون، التي لم تجد لها مخرجاً أخلاقياً إلا مع تغطية فيديوهات الشريف عن المجاعة وانتشارها، وقد قوبلت بمصداقية عالية عالمياً، ليصبح مصدرها الإخباري حول الموضوع، فيما أشادت به صحف فرنسية كثيرة أخرى، مستنكرةً قتل الأصوات الصحافية التي تنقل ما لا يمكن نقله من أحداث بسبب الحصار التام الذي يمارسه الكيان على دخول الصحافة الأجنبية القطاع لتغطية الأحداث.

تراجعت أساطير الكيان الإسرائيلي أمام انكشاف جرائم الاحتلال الموثّقة في غزّة

انتصار السردية الفلسطينية عالمياً، وموجة الغضب والدعم التي تتزايد يوماً بعد يوم، لا ينفع معهما تدخّل نتنياهو شخصياً لتحسين بوصلة دعايته وتسويق أكاذيبه وأساليبه المعروفة في الخداع، وتقديم سردية يدّعي أنها “موثّقة” عبر خلية للشرعنة تابعة لمخابراته، ويتجاهل أن قتلى أطفال غزّة وصلوا إلى أعدادٍ مرعبةً لم يعد العالم قادراً على تكذيبها، كما يفعل هو وجنرالاته مجرمو الحرب، ولم تعد مسألة أرقام “حماس” الموصوفة عمداً بـ”المشكوك فيها” تُطرَح جانباً، بل أصبحت هي الأرقام المعتمدة ذات المصداقية رغماً عن الاحتلال وأبواقه الغربية، فيما تشهد أساطير الكيان وقصصه تراجعاً واسعاً وعميقاً لا رجعة فيه في أكثر المجتمعات الغربية التي ترسّخت فيها، كما لم يعد دعم جرائم الاحتلال مجدياً من الإعلام المتصهين السائد غربياً، الذي يحاول بكلّ ما أوتي من وسائل طمس حقائق ما يجري لشعبنا في غزّة، والكارثة الإنسانية المستمرّة منذ ما يقارب العامَين، لانكشاف هذه الجرائم بشكل واسع وموثّق.

وما المقابلة المفضوحة المرتّبة لنتنياهو حول مقولة قديمة عن “إسرائيل الكبرى”، إلا حملة إعلامية لنشر الضباب في المشهد، في محاولة منه لحرف أنظار العالم الغاضب عن عملية الاغتيال وما رافقها من موجة تضامن جديدة مع غزّة أشعلت مواقع التواصل حول العالم، وحشدت التظاهرات الغاضبة في كلّ عواصم الدول الغربية. عملية واضحة لطمس جريمة الاغتيال المقصودة لإسكات صوت الحقيقة وفضح جرائم جيشه الفاشي وإلهاء الإعلام بخبر قديم. وهي دليلٌ على أن عملية اغتيال أنس الشريف، ورفاقه، كانت عمليةً فاشلةً للمجرم، أساءت لصورة كيانه المحتل في العالم أكثر ممّا تصوَّر.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى