هل نضجت لحظة سحب السلاح من “حزب الله”؟

إبراهيم الرز

عبَّرت نشأة “حزب الله”، في أوائل الثمانينيات، وبدعم إيراني مباشر، عن معادلة القوة للسيطرة على الساحة الشيعية. حينذاك، اتُخذ السلاح أداة ليصبح الآمر الناهي في ساحته. بدأ بتصفية القوى اللبنانية الأخرى التي تحمل لواء المقاومة من خلال اغتيال قيادات الحزب الشيوعي، ثم تحول إلى “حركة أمل” ليرسي معها موازين القوى، بالمواجهات العسكرية أولاً، ومن ثم بإرساء نوع من تفاهم اقتضى توزيع الأدوار واقتسام مغانم السلطة بموجب مقتضيات المحاصصة في التركيبة اللبنانية وقواعدها.

ولكن في موازاة هذه المسيرة، لا يمكن إنكار أن الحزب الذي استفرد بساحة المقاومة عن سابق تصور وتصميم، كان عنوان مواجهة للاحتلال الإسرائيلي، ليس على الصعيد اللبناني فحسب، وانما عربياً، وربما عالمياً. وقد تمكن من تكريس هذه الشرعية بموجب “تفاهم نيسان” الذي رعته الأمم المتحدة إثر حرب “عناقيد الغضب” و”مجزرة قانا”، وبفعل الجهود الدبلوماسية التي بذلها الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

لكن الحزب لم يكتفِ بدوره المقاوم، فهو دأب منذ لحظة انطلاقته على بناء عقيدة بنيوية داخل النظام السياسي اللبناني. فلم يعد الأمر مقتصرًا على وظيفة عسكرية، بل صار السلاح جزءًا من موازين القوى الداخلية وأداة لصياغة المعادلات السياسية والأمنية، ليتمدد إلى دور إقليمي يخدم الأجندة الإيرانية ومشاريعها التوسعية في المنطقة، بحيث بات أي نقاش حوله يتجاوز البعد العسكري إلى قدرة وجودية يمكن أن تزلزل بنيان الدولة. حتى إن المراقبين اعتبروا أن الحزب استخدم مسألة الحدود مع إسرائيل بعد انسحابها في 25 أيار 2000، وإعلان التحرير، ومن ضمنها “مزارع شبعا”، كـ”مسمار جحا” للاحتفاظ بسلاحه. كذلك افتعل حرب تموز 2006 للغاية نفسها، وسيطر بالسلاح على مفاصل الدولة اللبنانية.

واليوم، تُطرح مجددًا مسألة حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، مع عهد جوزاف عون الرئاسي، وحكومة نواف سلام. لكن وسط بيئة إقليمية ومحلية مغايرة جذريًا لما عرفته العقود الماضية.

من النشأة حتى الطائف: المقاومة كشرعية استثنائية

تأسس حزب الله عبر الحرس الثوري الإيراني الذي حضر إلى البقاع لتحقيق هذا الهدف، مستفيدًا من بيئة جنوبية يوجعها الاحتلال الإسرائيلي. وقد مكّنته هذه الظروف من بناء قوة قتالية منظمة، والأهم تأسيس خطاب يعتبر السلاح ضرورة وطنية مرتبطة بمشروع “المقاومة”.

ومع اتفاق الطائف في العام 1989، تحولت قضية السلاح إلى مساحة توافق سياسي ضمني، إذ نص الاتفاق على حلّ الميليشيات. ولم يمنح الحزب أي استثناء رسمي للاحتفاظ بسلاحه، بل استند إلى بند “مقاومة الاحتلال” كذريعة سياسية وفّر له غطاءً للاستمرار وتعزيز ترسانته.

الطائف حتى 2000: تثبيت الحضور خارج الدولة

في التسعينيات، ظلّ السلاح في منأى عن أي مواجهة سياسية فعلية، بفضل المظلة السورية وهيمنة معادلة “المقاومة” على المشهد. لم تكن هذه مرحلة توسع جغرافي بقدر ما كانت مرحلة ترسيخ لشرعية السلاح كأمر واقع. وأتاح التلاقي السوري – الإيراني للحزب أن يتمدد سياسيًا تحت غطاء المواجهة مع إسرائيل، مع الحفاظ على استقلالية قراره الأمني. وفي تلك المرحلة خاض مواجهات شرسة مع العدو الإسرائيلي، وشرعن وجوده من خلال هذه المواجهات، لا سيما بعد “عناقيد الغضب” و”مجزرة قانا” في العام 1996.

2000 – 2008: من التحرير إلى الصدام المفتوح

شكّل انسحاب إسرائيل من معظم الجنوب في العام 2000 لحظة اختبار للخطاب المقاوم. فقد زالت غالبية أسباب الوجود العسكري باستثناء مزارع شبعا، التي تحوّلت – رغم إشكالية هويتها – إلى مبرر استراتيجي لاستمرار السلاح. ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، انتقل النقاش حول السلاح إلى صلب الانقسام السياسي بين معسكري 14 و8 آذار.

ودعمت حرب تموز 2006  صورة الحزب كمقاومة لدى جزء من اللبنانيين وبعض العرب، لكنها أيضًا رسخت لدى خصومه اقتناعاً بأنه بات قوة فوق الدولة قادرة على جرّ البلاد إلى مواجهات كبرى من دون قرار وطني جامع. وذروة هذا المسار جاءت في 7 أيار 2008، حين رد الحزب بالقوة على قرار حكومة فؤاد السنيورة إزالة شبكة اتصالاته وإقالة مسؤول أمن المطار وفيق شقير. فخلال ساعات، سيطر مسلحوه على بيروت وتمددوا إلى الجبل، في مشهد وُصف بالانقلاب العسكري على الدولة.

اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة لم يكن مجرد تسوية سياسية، بل جاء تتويجًا لسيطرة الحزب على مفاصل القرار اللبناني، إذ ضمن له الثلث المعطل في الحكومات ورسّخ معادلة أن السلاح خارج أي نقاش داخلي.

2008 – 2024: السلاح في قلب الأزمات الإقليمية

بعد 2008، تمدد دور السلاح إلى ما هو أبعد من الساحة اللبنانية. فمشاركة الحزب في الحرب السورية منذ 2012 حوّلت ترسانته أداة تدخل إقليمي، أكسبته خبرات عسكرية متقدمة لكنها في المقابل عزلته عربيًا وكشفت بنيته أمام إسرائيل. داخليًا، ظل السلاح أداة ضغط سياسي في تشكيل الحكومات والملفات الأمنية، مع تعطيل أي مسار لنزعه. بقي المشهد قائمًا على معادلة توازن ردع داخلي: قدرة الحزب على منع أي مساس بسلاحه، مقابل عجز القوى الأخرى عن فرض حصره بيد الدولة.

2024 حتى اليوم: من فائض القوة إلى انكماش الخيارات

أحداث “حرب الإسناد” في العام 2024 وسقوط نظام الأسد ضربت العمق الاستراتيجي للحزب وقلّصت خطوط إمداده الرئيسية. الضربات الإسرائيلية – الأميركية للبنية العسكرية الإيرانية حدّت من قدرة طهران على تزويده بالسلاح النوعي. هذه التطورات خلقت بيئة جديدة لم يعد فيها استخدام السلاح داخليًا خيارًا بلا كلفة.

إقرار حكومة نواف سلام في آب 2025 خطة زمنية لحصر السلاح بيد الدولة شكّل اختبارًا لهذا الواقع الجديد. اللافت أن رد الحزب اقتصر على الرفض السياسي والإعلامي من دون تحرك عسكري، في مشهد قد يعكس إما تراجع قدرته على المواجهة كما في 7 أيار، أو تغيّر حساباته بفعل المستجدات الإقليمية.

وفي هذا الإطار، يرى الدكتور طلال عتريسي، الباحث في الشؤون الإقليمية، أنّ “معيار حزب الله في تحديد اللحظة المناسبة للانتقال بسلاحه من إطار الحزب إلى إطار الدولة يرتبط بأولويات واضحة أعلنها الحزب نفسه. المرحلة الأولى، وفق هذا المنطق، تقوم على استكمال انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، إطلاق الأسرى، وقف الاغتيالات والاعتداءات، عودة السكان إلى قراهم وبدء الإعمار. بعدها تأتي المرحلة الثانية: البحث في سلاح المقاومة ضمن رؤية لبنانية لاستراتيجية دفاعية، لا كقوة مستقلة خارجة عن مؤسسات الدولة.”

لكن، كما يشير عتريسي، “هذا النقاش حول “الاستراتيجية الدفاعية” لا يعني بالضرورة تسليم السلاح بالكامل، بل قد يكون جزءاً من صيغة تجعل مقاتلي الحزب قوة رديفة ضمن الجيش، تابعة لقيادته ولعقيدته القتالية، مع الإبقاء على خبرتهم ودورهم في مواجهة أي تهديد. هذه المسألة، برأيه، ليست نهائية، وتخضع لمداولات داخلية يحددها ميزان التهديدات، إذ إن وجود عدو فعلي وتهديد مستمر يفرضان التفكير بكيفية الاستفادة من قدرات المقاومة، لا التخلي عنها.”

وحول دور السلاح بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب الليطاني، يذكّر عتريسي بأن القرار 1701 أوجد مرحلة من الالتزام النسبي على الطرفين، لكن حزب الله اعاد انتشاره جنوب الليطاني على مراحل كما أن إسرائيل، منذ 2006، واصلت التحضير للحرب المقبلة.” بالنسبة إليه، “النقاش اليوم يدور حول سؤال جوهري: إذا انتفت الحاجة العسكرية للسلاح، هل يسلم فوراً إلى الدولة وتنتهي المسألة؟ أم إن سلوك إسرائيل، التي قد تلتزم شكلياً بالقرارات الدولية بينما تبحث عن ذرائع جديدة، يستدعي صيغة أخرى تحفظ عنصر الردع؟”

ويضيف: “هذا النقاش ليس سياسياً فقط، بل استراتيجي بامتياز: ماذا يحدث في اليوم التالي لتسليم السلاح؟ ومن يضمن ألّا يعود الاحتلال أو الاعتداء؟ بالنسبة إلى الحزب، هذا مرتبط بالحصول على ضمانات حقيقية، وهو ما يعتبره عتريسي حتى الآن “أشبه بسمك في البحر”، في ظل استمرار الخروق والاعتداءات الإسرائيلية رغم المواقف اللبنانية الرسمية الخجولة الرافضة لها. ويأتي هذا الرفض خصوصاً عند مهاجمة الضاحية الجنوبية لبيروت”.

في هذا السياق، يقول النائب عن حزب الكتائب إلياس حنكش لـ”المدن” إن الإصرار على تسليم السلاح اليوم ينبع من التزام بناء دولة قادرة على حماية جميع اللبنانيين، بما في ذلك حزب الله نفسه. كما يؤكد أن الاصرار من رئيس الجمهورية هو للحصول على ضمانات من الجانب الأميركي بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ما يشكل عامل طمأنة للحزب.

ويرى حنكش أن السلاح لم ينجح في ردع إسرائيل أو حماية قيادته ومناطقه، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه كضمانة مطلقة، مضيفًا: “اليوم، حزب الله مدعو إلى أن يكون وراء الشرعية اللبنانية”. ويؤكد أن القرار الحكومي اتُّخذ ولا رجوع عنه، وأن اللقاءات مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أظهرت أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح إذا توافرت الجدية في بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.

لكن عتريسي يعتبر “أن الحكومة اللبنانية، بتبنيها لأهداف ورقة براك، إضافة إلى ضربها الميثاقية عرض الحائط ، قلبت الأولويات، فبدل ألمطالبة بانسحاب الاسرائيلي اولاً، طالبت بحصرية السلاح من دون أي ضمانات، وهذا ما نقله براك بوضوح في زياراته. ” كما حذر من أن نتنياهو يعترف بسعيه إلى تحقيق إسرائيل الكبرى.

وعند سؤاله عن أن حزب الله اليوم هو الوحيد الذي يرفض حصرية السلاح وأن حلفاء البارحة أصبحوا في مكان آخر، ومن ضمنهم الوزير ياسين جابر  المحسوب على حركة أمل الذي أعلن دعمه حصرية السلاح في يد الدولة، اعتبر عتريسي “أن الوزير جابر لا يمثل حركة أمل بل هو قريب من فلكها، وأن قيادات حركة أمل ونوابها هم في مكان آخر، وتصريحاتهم متماهية مع تصريحات نواب حزب الله” وقياداته. وينهي عتريسي حديثه بالقول “إن ما يحدث اليوم يخلق شعوراً لدى طائفة كبيرة في البلد بالاستهداف، خصوصاً أن لا خطة إعادة إعمار تعيد المواطنين إلى بيوتهم وقراهم”.

ويذكّر حنكش بأن تجربة سحب السلاح الفلسطيني تعثرت سابقًا بسبب غياب التنسيق الكامل مع قيادة الجيش وتعدد الفصائل الفلسطينبية التي لا تتبع كلها بالضرورة لسلطة رام الله، لكن الوضع مع حزب الله مختلف بسبب وجود سلطة مركزية وقرار موحد في الحزب. ويختم أن الجيش ملتزم بقرارات الدولة، والقرار واضح وصريح”، ويستبعد أي انقسام داخلي في حال تطبيق القرار. فالجيش ولاؤه الأول والأخير للمؤسسة العسكرية. ويضيف حنكش: لا مجال لأنصاف الحلول. فالقانون سيطبق، وهيبة الدولة ستُفرض بالكامل، وحزب الله مدعو إلى الالتقاء مع الشرعية في منتصف الطريق”.

الخلاصة: مصير معلّق بين التجربة الفلسطينية والتسويات المؤجلة

تاريخ سلاح حزب الله هو مرآة لأزمة الدولة اللبنانية، حيث تلتقي هشاشة الداخل مع عمق التشابك الإقليمي. من شرعية المقاومة في الثمانينيات، إلى الصدامات الداخلية في 2008، وصولًا إلى التحديات الاستراتيجية بعد 2024، بقي السلاح عنصر قوة للحزب وضعف للدولة.

لكن اللحظة الراهنة قد تمثل منعطفًا: إما بداية مسار جدي لحصر السلاح بيد الدولة، أو فصلًا جديدًا من القرارات المؤجلة التي قد تنتهي كما انتهى ملف السلاح الفلسطيني، بخطط ثلاثية المراحل لم تُنفذ.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى