
هل القرار الإسرائيلي المعلن والرسمي “السيطرة” على قطاع غزّة، وهو الاستخدام الموارِب لإعادة احتلالها، ناتج من إخفاق التفاوض مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أم هو ناتج من إخفاق آخر؟ … مِن شبه المؤكَّد أن الشروع في عملية عسكرية واسعة في غزّة سيقلِّل فرص استنقاذ الأسرى من جنود الاحتلال، وأنه لن يقضي قضاء تامّاً على “حماس”، وحركات المقاومة الأخرى. مع أن نتنياهو لا ينفكُّ يكرِّر أنه إنما يعمل على الاحتفاظ بما أُنجِز، (خلال ما يقارب السنتين من حرب الإبادة)، وكأن القطاع الذي دُمِّرت فيه شروط الحياة، راهنا، وإلى مستقبل غير قريب، يسمح بتشكُّل حالة قتالية، كما قبل عملية طوفان الأقصى.
ومع أن ثمّة ضمانات أخرى، بعضها بيد دولة الاحتلال، من حيث السيطرة على الحدود، والمراقبة الأمنية الحثيثة والمباشرة، وبعضها بيد دولٍ ذات علاقة؛ لجهة التحكّم في عملية إعادة الإعمار، والتعاون الضروري مع الجهة التي ستتولّى إدارة القطاع، وتلك الضمانات والتدابير يمكن أن تكبح أي تهديد جدّي لأمن إسرائيل. إن وراء إصرار نتنياهو بائتلافه الحكومي الأكثر تطرفا، على استغلال الفرصة الراهنة لتمرير هدف مبيَّت، وهو إعادة احتلال قطاع غزّة؛ في تقاطع عميق مع فكر أحزاب دينية قومية استئصالية، يتجاوز مسألة “حماس” وتهديدها، إلى تقرير مصير الأراضي المحتلة عام 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وهذا ما نطق به وزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، أنهم إنما يهدفون بهذه الخطوة، أي السيطرة على القطاع، أو احتلاله، إلى منْع قيام دولة فلسطينية، أو هدم أي عنصر يسمح بقيامها، وكما كان الانفصال بين غزّة والضفة الغربية يحول دون هدف الدولة الفلسطينية، فإن زوال حكم “حماس” يعيد السؤال عن موانع عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم القطاع، وهي السلطة المعترف بها دوليا، وعربيا، ولا يزال لها صلات إدارة في القطاع.
وما يؤشّر إلى دوافع حزبية يمينية وراء هذا القرار أن معارضة عميقة وقوية داخل إسرائيل شرعت تحذِّر من عواقبه الخطيرة، سواء على حياة الجنود المقاتلين، أو لجهة متطلبات الإنفاق المالي الكبير، أو لجهة معارضة دول العالم التي قد تُضاعِف عزلة دولة الاحتلال، فضلا عن تهديد خطير، لحياة المحتجزين، يكاد يصل إلى المؤكَّد.
في الضفة الغربية يجري تجريف الحياة، وتحديداً معاني السيادة الفلسطينية، على قدم وساق
ولا نعرف سببا يمكن أن يمضي، مستخفّاً بكل تلك المعارَضات، خارجياً وداخلياً، وحتى في مؤسّسة جيش الاحتلال، بوصفها مؤسّسة غير حزبية، إلا أن يكون سبباً أيديولوجيا، منغلقاً على نفسه، كما عقلية وزراء أمثال سموتريتش، وإيتمار بن غفير، حيث تكشف الضفة الغربية، المغايرة تماماً أوضاعها عن قطاع غزّة، لجهة انعدام التهديدات الأمنية الجدّية، تكشف عن أهداف منطلقات هذا الفكر الصهيوني ومآربه.
وفي الضفة، يجري تجريف الحياة، وتحديداً معاني السيادة الفلسطينية، على قدم وساق، في تسارع يؤثر مباشرة على مجريات الحياة اليومية والمستقبلية للفلسطينيين، ليس فقط كجماعة أصلانية، ولكن حتى كأفراد، في أمور حياتهم الأساسية، في أمنهم، وفي معاشهم، وفي حرية تنقلاتهم.
وقد كان قرار اعتراف عدة دول، منها دول مهمة، كفرنسا، ما ألهب هذه العقلية المسعورة، لجهة استباق مزيد من الاعترافات بوقائع لا يمكن تجاهلها، هي عقباتٌ حقيقية، تترك مسألة الدولة الفلسطينية، بلا أي معنى حقيقي، وبلا أي تمثيلٍ على الأرض، خصوصا إذا تذكّرنا أن هذا العمل جار على مسار السلطة الفلسطينية أيضا، لتحجيم وجودها، والاستمرار في إضعافها، ماليا، ما يقرب وزارتها وخدماتها الصحية والتعليمية وغيرها إلى الشلل، ولجهة تهميش وجودها، وهذا يظهر بتكريس الوجود العسكري الاحتلالي في مناطق السلطة، ولجهة تحجيم أثر السلطة في المناطق المصنفة ج، فضلا عن تقطيع أوصال الضفة الغربية، وعزل الفلسطينيين، وقتما يشاء الاحتلال، ببواباتٍ على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية.
إسرائيل تفتح الباب على مصراعيه للاستفراد بكامل فلسطين، من دون أن تبقي أي بارقة أملٍ للفلسطينيين
لذلك، ولغيره، كانت ردّة فعل الدول نتيجة هذا القرار الصاعق، أشبه بإعلان أنَّ الموضوع ليس موضوع “حماس”، أو أنه لم يعد هكذا، إسرائيل تفتح الباب على مصراعيه للاستفراد بكامل فلسطين، من دون أن تبقي أي بارقة أملٍ للفلسطينيين، لا في غزّة فقط، بل في كل فلسطين المحتلة، ولهذا تداعيات على أمن المنطقة برمتها، بل وعلى العالم؛ إنه استجابة قصوى لمطالب أشد أقطاب السياسة الإسرائيلية تطرّفاً، وعلى نتنياهو الآن، وقد أصبح ممثلها، أن يقبل سقوط قناع العقلانية الذي كان يخادع به الدول. لا تنطلق تلك الدول، والأوروبية بالذات، في موقفها الرافض فقط من خشيتها من آثاره الخطيرة على حياة عشرات الألوف من أهل القطاع، ولكنها تخشى تضرُّر مصالحها، ووجودها، فيما تبقَّى من فلسطين، وهي ليست فقط بالضرورة مصالح اقتصادية، فهذا الاستفراد الإسرائيلي بقطاع غزّة؛ بموقعه المهم، والمميَّز، وهذا الطموح المتعالي والمتسارع بالسيطرة على القدس الشرقية إلى الأبد، وصولاً إلى تهويدها، والتحكّم بالأماكن المقدَّسة فيها، هذه الوقائع بعض مفردات هذه الانعطافة الخطيرة في المشروع الصهيوني، قومياً ودينيا.
وتُسدل هذه النقلة النوعية بالتأكيد الستار على كل التفاهمات العربية الإسرائيلية، أو المرجعيات المأمولة، وهي تؤشّر إلى طبيعة التفكير الأُحادي في هذه الحكومة، ولعل أهمَّ ملمح فيه استخفافُه بردود الفعل الرافضة، دوليا وعربيا، حتى استخفافه، بانعكاساته على اتفاقات السلام المبرمة مع دول عربية، وأولها، مصر، ثم الأردن، فكأن المنطق القائم الآن: هذا ما نريد، أحببتم ذلك، أم كرهتم.
ويبقى السؤال: هل ترتقي الحالة العربية إلى منعطف مقابل؟ للأسف، الراجح أن موقف الولايات المتحدة، بهذه الإدارة الطائشة، وفادحة الانحياز، سيحد من أي مواقف عربية رسمية ذات جدوى وأثر، هذا فضلا عن عمق العلاقات العربية مع دولة الاحتلال، فكأنها في منأى، من أي تطورات، حتى لو كانت تلك التطورات تعكس نظرة إسرائيلية جديدة، إلى نفسها، ولكل محيطها، تتطلب على الأقل إعادة نظر صادقة فيما يلزم من تعامل مستقبلي.
المصدر: العربي الجديد