طوال نحو عشر سنوات، ووسط كثير من التعرجات والانعطافات، شهدها المسار الطويل، راوحت القضية السورية بين الفشل الإقليمي والدولي في الوصول إلى حل سياسي لأسباب ومبررات كثيرة، وبين إصرار نظام الأسد وحلفائه على الاستمرار في الحل الأمني- العسكري لإعادة السيطرة على سوريا، وعودة السوريين إلى حظيرة النظام، مما أدى واقعياً الى تغليب بقاء الأسد ونظامه، وتكريس الهدف الذى يسعى وحلفاؤه إليه، رغم كل ما ارتكبوه من جرائم وبعضها كاف وحده لو أراد العالم محاسبتهم لاسقاط نظام الأسد، ومساعدة السوريين في اقامة نظام جديد، يوقف القتل والتهجير، ويطلق المعتقلين، ويعيد المهجرين واللاجئين الى بلدهم، ويضع سوريا على خط تطور نحو مستقبل مختلف.
إن أبرز نتائج صراع السنوات العشر الماضية في سوريا وحولها وفق الأرقام الشائعة، مقتل مئات الآلاف، ومثلهم من المعتقلين والمختفين قسراً، وثلاثة ملايين من الجرحى، أغلبهم من ذوي الإعاقات، يضاف الى ما سبق مغادرة نصف السكان بلدهم هرباً من الموت والاعتقال، أو بحثاً عن شرط أفضل للعيش، فاستقر أغلبهم في بلدان الجوار وسط ظروف صعبة، والقليل منهم وجد طريقه إلى بلدان، وفرت ظروفاً وشروطاً أفضل للعيش والحياة.
أما القسم الثاني من السوريين، فاستقر به العيش في ظل سلطات الأمر الواقع، التي تتمثل اليوم بثلاثة، اولها نظام الأسد، وتشاركه السيطرة إيران وميليشياتها والروس في مناطق الساحل وخط الوسط شاملاً حلب، حمص ودمشق الى درعا والسويداء في الجنوب، وجيوب محدودة في محافظتي دير الزور والحسكة، فيما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي(pyd) نواتها الصلبة على منطقة شرقي الفرات، وتحظى بحماية ودعم الولايات المتحدة، وتتشارك تركيا والجماعات المسلحة التابعة لها مع هيئة تحرير الشام (النصرة) وأنصارها من جماعات التطرف السيطرة على المنطقة الثالثة، التي تشمل مناطق في الشمال والشمال- الغربي وخاصة مدينة ادلب، والسمة العامة لمناطق السيطرة الثلاث، أن الحياة فيها أشد سوءاً من حياة سكان المخيمات في دول الجوار السوري.
إنَّ سوء حياة السوريين في بلدهم، لا ترتبط فقط بسياسات وممارسات سلطات الأمر الواقع، التي تدير شؤون حياتهم ومعاشهم فقط. إنما تتصل اصلاً بمحصلة حروب بدأها نظام الأسد في العام 2011، ثم انضم للحرب حلفاؤه، وجماعات من الجيش الحر، قبل ان تصفيها منظمات ارهابية وعصابات مسلحة من «داعش» الى «النصرة» و»جيش الإسلام»، وتصل بالصراع الى مقولة «حرب الجميع ضد الجميع»، والتي بلورت سلطات الامر الواقع على نحو ما تبدو عليه اليوم، وفي الطريق اليها تم تدمير أكثرية الممتلكات والمرافق والخدمات العامة والممتلكات الخاصة للمواطنين، وتعطلت غالبية الأنشطة الاقتصادية في كل القطاعات، وانهارت منظومات عيش أغلب السوريين، ولم يخفف الاستقرار الجزئي تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع، من تدهور الحياة فيها، بل زادها تدهوراً وسط شيوع الفلتان الأمني والتشبيح والفساد والتضليل اضافة الى خراب سياسي واقتصادي واجتماعي، قبل أن يضاف لما سبق تداعيات انهيار قيمة الليرة السورية من جهة، وانتشار فيروس كورونا من جهة اخرى، وسط انعدام أي قدرات يمكن أن تساهم في صد الوباء ومنع انتشاره والحد من اثره في قتل السوريين بسبب دمار المشافي وشركات انتاج الدواء ومغادرة الاطباء الى الخارج، وقد سجلت الأسابيع الثلاثة الاولى من أغسطس (آب) 2020 موت عشرات الأطباء والمهندسين والمحامين في دمشق وحدها، التي يقول الأطباء إن مشافيها، تحولت الى مراكز انتشار لفيروس كورونا، ومكاناً لنقل العدوى من المصابين الى الأصحاء. فإذا كانت الصورة على هذا النحو في أوساط نخبة المتعلمين وفي العاصمة، فكيف هو الحال وسط بسطاء الناس والفقراء والذين لا مأوى لهم وأبناء المدن النائية والقرى المعدمة.
وسط هذا المستوى من تدهور أحوال السوريين وبفعل سنوات الحرب ومجرياتها، وما كرسته من سلوكيات نهب وفساد وتشبيح وتعفيش، قامت بها اجهزة النظام وأغلب الجماعات المسلحة، ان لم نقل كلها، ووسط ظواهر الفقر والجوع الناتج عن تدمير القدرات والموارد والفقر والبطالة، وانخفاض المداخيل مع انهيار قيمة العملة المحلية، وعجز شبكات الدعم الاجتماعي التي جسدتها إرساليات المغتربين واللاجئين الى ذويهم ومعارفهم، صارت الحياة أصعب ما يمكن، وتردت الامور أكثر مع مجيء وانتشار فيروس كورونا وما يحمله من موت محقق، لا يطال الأفراد فقط، بل يهدد مجموعات بشرية كاملة وعلى وجه الخصوص مجموعتين، اولها مجموعة السجناء والمعتقلين في سجون ومعتقلات سلطات الامر الواقع.
ويقدر عدد المعتقلين والسجناء في سجون النظام بأكثر من مائة وعشرين الفاً، فيما يصل عدد من في معتقلات وسجون «قسد» في مناطق شرق الفرات عشرات آلاف، وهناك آلاف من المعتقلين والسجناء في سجون مناطق شمال غرب سوريا وادلب، حيث تسيطر تركيا وانصارها وهيئة تحرير الشام. والمجموعة الثانية التي يهددها انتشار فيروس كورونا، هي سكان المخيمات، والتي تشبه ما يسمونها في مناطق سيطرة النظام «مناطق الإيواء»، وتنتشر المخيمات ومناطق الايواء في جميع المناطق السورية، ويبلغ عددها المئات، لكن الاهم منها في الشمال الغربي قريباً من خط الحدود السورية – التركية وفيها مئات آلاف السوريين، وتفتقد لأدنى مقومات العيش والصمود في مواجهة كورونا.
محصلة ما هو عليه حال السوريين اليوم، أنهم في كارثة، لا يصنعها أعداؤهم من القتلة والمجرمين والفاسدين واللصوص الذين يتحكمون في مصائرهم ومستقبلهم فقط، بل يشاركهم في ذلك وباء طارئ، تبثه الطبيعة في حياتهم الضعيفة والهشة، لتجعل الكارثة أقوى وأشد فتكاً، تشكل جزءاً من صعوبات الحياة، التي تلقي بظلالها على السوريين، اما الجزء الآخر فتشكله السياسات والتصريحات الإقليمية والدولية حول سوريا، والتي تقول كل شيء، ما عدا الشيء المفهوم والمطلوب حول نهاية ممكنة ومرتقبة للكارثة السورية، التي طالت واستطالت من دون ان يتبيَّن ضوء في آخر النفق.
المصدر: الشرق الأوسط