خالد خليفة روائي سوري متميز، اغلب روايته وصلت الى قوائم جوائز الرواية العربية، له دفاتر القرباط، ومديح الكراهية، ولا سكاكين في مطابخ المدينة.
الموت عمل شاق رواية معاصرة لحدث الثورة السورية وتداعياته على كل المستويات، وذلك في السنوات الاولى للثورة، تدخل في التفاصيل تعايش حياة اشخاصها عبر عقود، تتغلغل بالخاص الفردي والنفسي والمجتمعي لكل الشخصيات وتطور حالاتهم عبر الزمن، كما لا تغيّب الواقع السوري العام الذي يعيشه أشخاص الرواية. ومنعكسه عليهم جميعا. تغوص الرواية بدأب في كل تفصيل، لتكون بحق شهادة عن مرحلة سورية تحتاج أن تبقى دائما تحت النور، انها سورية عقود الاستبداد الاخيرة والثورة على النظام المستبد وتداعيات ذلك، ووصول سورية الى ما هي عليه الآن، بلاد مدمرة ومحتلة، وشعب بين خانع ومقتول ومصاب ومهجر، ومستقبل يكتنفه الظلام.
تبدأ الرواية من حدث مميز في حياة اسرة عبد اللطيف المتواجد في دمشق وهو من بلدة العنابية التابعة الى ريف حلب، عبد اللطيف المدرس الذي يعيش منذ عقود في احدى بلدات ريف دمشق الثائرة على النظام، الثورة التي حصلت منذ مطلع عام ٢٠١١م، ومرّ عليها عدة سنوات، البلدة التي ثارت على النظام مع كل المدن والبلدات السورية، والتي لم تستكن لعنف النظام و قتله للمتظاهرين السلميين، ثم تصديها إلى اجتياحات النظام للبلدة، وتشكيلها مجموعات من الجيش الحر، وقدرتها على تحرير البلدة من النظام، وانعكاس ذلك عليها بحصار قاسي وقصف من الطيران والمدفعية والصواريخ، جعل الحياة فيها و لمن بقي من أهلها، -بعد سنوات- شبه مستحيلة. كان الأستاذ عبد اللطيف واحد من الآباء الروحيين للثوار، معهم في الميدان وفي كل المناشط، لكنه أحس ان منيته قد دنت، فطلب من شباب الجيش الحر تهريبه الى دمشق حيث اولاده وعائلته يعيشون هناك. ساعد الجيش الحر عبد اللطيف بالوصول إلى أولاده الذين استقبلوه وتبين انه مريض مرض الموت، أولاده ثلاثة حسين الكبير وابنته فاطمة والاخر نبيل الملقب بلبل، اهتموا به وادخلوه المشفى عالجوه، لكن الموت داهمه أخيرا، كانت وصيته ان يدفن في بلدته العنابية بجوار قبر زوجته واخته. توفي عبد اللطيف ووضع في براد المشفى، وفكر أولاده الثلاثة بوصية والدهم، وقرروا ان يحققوها له، رغم ان الوصول إلى العنابية في ظروف الحرب السورية بين النظام والثوار، وتقطع الطرق والحواجز والصعوبات الكثيرة، تجعل المهمة مستحيلة، لكن الاولاد قرروا أن ينفذوا وصية الوالد الاخيرة. احضر الاخ الاكبر حسين المكرو الذي يملكه ويعمل عليه ليكون وسيلة النقل ووضعت الجثة فيه بعد أن لفت ووضع بجوارها بعض ألواح البوظ، لتخفيف ظروف بلاءها وتفسخها، خاصة ان المشفى قد اخرجها من براده ووضع بدلا منها جثثا حديثة متراكمة لجنود النظام وضباطه وجثث المجموعات المساندة له من داخل سورية او خارجها، حزب الله والمرتزقة العراقيين والافغان والايرانيين. أخذ الاخوة جثة والدهم وتوجهوا بطريقهم من دمشق الى بلدتهم في ريف حلب. ستتابع الرواية أحداثها على نسقين متداخلين: الأول ما حصل معهم من لحظة خروجهم من المشفى الى وصولهم لبلدتهم بعد عدة ايام. والثاني الخوض عميقا بحياة الأب والابناء وما حصل معهم ومحيطهم وعلاقاتهم عبر عقود سابقة منورة حياتهم جميعا وكاشفة بمهارة ابداعية عوالم نفسية ومجتمعية وسياسية لهؤلاء الناس ومن ورائهم سورية ذاتها بلدا وشعبا.
سنبدأ بتقصي حياة أشخاص الرواية ونختم بالحديث عن مسار الرحلة ومتاعبها، مع ربط بين الحالتين لتكتمل الصورة والقراءة.
عبد اللطيف ابن قرية العنابية من ريف حلب تابع دراسته العلمية وكان من القلائل من بلدته من تابع دراسته، وأصبح معلما في مدرسة البلدة، كانت حياته عادية الى ان جاء من خطب اخته ورفضت الفتاة خطيبها، كانت تنتظر من تحب، لكن الاهل وافقوا وتجاوزوا رفضها، وفي ليلة عرسها، اشعلت في نفسها النار في ثوب زفافها، وماتت محروقة. لم يستطع عبد اللطيف العيش في القرية بعد هذه الفضيحة والعار الذي لحق به، غادر الى بلدة في ريف دمشق وعاش هناك كل حياته، كان عبد اللطيف بعثيا في ستينات القرن الماضي، اعتقد انه سيحقق الوحدة ويسترد حقوق الفلاحين والفقراء عبر الحزب ونضاله، لكن الحزب خان مبادئه بعد وصوله للسلطة ونكل بكثير من رفاقه، غادر عبد اللطيف الحزب واعتبر نفسه معارضا له. أحب عبد اللطيف نيفين فتاة مسيحية من دير الزور جاءت معلمة وكيلة في المدرسة التي يدرس فيها، لم يستطع مصارحتها بحبه، مع معرفته بأن اختلاف الدين بينهما سيشكل عائقا كبيرا دون الزواج بينهما. تزوجها رجل آخر. تزوج عبد اللطيف من فتاة من بلدته وعاشا حياة عادية، أنجبا ثلاثة أولاد حسين الكبير ونبيل الملقب بلبل والفتاة فاطمة، كبروا بين اهلهم، توفيت الوالدة مبكرا، وكذلك توفي زوج نيفين حبيبة عبد اللطيف. عاش عبد اللطيف عقودا في بلدته الجديدة في ريف دمشق، أصبح له حضوره ومكانته، وعندما قامت الثورة السورية، كانت البلدة سبّاقة فيها، وشارك عبد اللطيف في كل مناشطها، بجوار الشباب الذين وجدوه قدوة ومرجعا لهم. كان لموت زوجته و زوج حبيبته السابقة نيفين، و لحصار البلدة من النظام، ودوره بمساعدة الثوار، ومساعدة نيفين له في كل مناشطة، دورا في اعادة حب لم يمت بينهما، وادى لان يزوجهما أحد شيوخ البلدة المحاصرة، و يحصلوا على مباركة خوري البلدة قبل أن يخرج منها أوائل حصارها. وعندما مرض عبد اللطيف وأحس بقرب منيته تم توصيله الى مدينة دمشق الى أولاده ليموت هناك، ولتنفيذ وصيته بالدفن في قريته بجوار زوجته واخته.
٠ اولاد عبد اللطيف:
٠ حسين: الابن الاكبر لعبد اللطيف، نشأ حسين متمردا على سلطة والده وفي حياته، فما كاد يدخل في سن المراهقة حتى أصبح قريبا من أجواء الدعارة ونساء الليل، اوغل في طريق الخطأ، اصطدم مع والده، كان يرفض حياة الفقر والقلة والفاقة في بيت والده، كان يحلم أن يكون ثريا مثل كبار رجال المال والاعمال، وان يعيش حياة الترف واللهو، تعلم على المخدرات والمسكرات. غادر بيت والده الى غير رجعة، عمل مرافقا لراقصات روسيات يأخذهن ويعيدهن من الفندق الى الكباريه، مع ما يصاحب ذلك من ضياع اخلاقي وتصرفات خاطئة. علم والده بأنه في السجن بسبب تعاطيه وترويجه للمخدرات. خرج بعد فترة من السجن، لم يبتعد عن اجوائه السابقة لكنه أصبح أكثر حذرا، عندما توفي والده، قرر بشهامة من خذل والده سابقا، أن يرد له بعض الوفاء وأن يشارك اخوته رحلة توصيل جثمان والده الى القرية ليدفن هناك.
٠ نبيل الملقب بلبل:
اغلب السرد الروائي على لسان بلبل، انه الابن الثاني لعبد اللطيف، كان قليل الاندفاع يتصرف كل الوقت بحذر، تربى في بيئة مختلطة ريف ومدينة واختلاط ديني وطائفي، درس في المعهد الهندسي، وتوظف وعاش حياته بحيادية مطلقة، كان يدرك واقع الاستبداد والقمع في البلد، لذلك قرر أن يكون من موالي النظام، وضع في بيته في المدينة دمشق صورة كبيرة لرأس النظام، وواظب على إظهار ولائه وطاعته. وعندما حضر والده إلى دمشق، وقبل موته، حرص أن لا يجعله يختلط بأحد من جواره، الاب مع الثورة وواحد من رموزها في بلدته، كان موته السريع جيدا في محيط بلبل لكي لا ينعكس عليه أمنيا بالضرر. وعندما توفى والده وسمع وصيته، كان حريصا أن ينفذ له مطلبه بالدفن في بلدته.
اما اخته فاطمة فقد عاشت حياتها على الهامش، وكانت حياتها فارغة، تنصاع لما يريده أخوتها، ووجدت برحلة الذهاب لدفن والدها استعادة اللحمة العائلية التي تفتقدها وأخوتها.
٠ أما مسار رحلة اخذ جثة الوالد عبد اللطيف من دمشق الى ريف حلب، فقد كانت الجحيم نفسه، وفي هذه الرحلة سنعرف أين أصبحت سورية بعد سنوات من ثورتها.
كان الخروج من المشفى مع الجثة يتطلب بيانا وكشفا عن الجثة وصاحبة وكل الأوراق الثبوتية. في حواجز دمشق كان التعسير حاضرا، وكانت الرشاوى هي الحل في كثير من الأحيان. فتارة يوقفونهم بحجة ان الوالد الميت مطلوب لجهات امنية لكونه يدعم الثوار، ولا يشفع له انه ميت. وأن من يطلبه من الأمن هو من سيقرر مصيره حتى لو كان جثة. كانت رحلة العذاب هذه تتكرر عند كل حاجز، وكانت تحل بالرشاوى، كان البعض يتصرف بقسوة واساءة، رغم انهم ارتشوا، كانت رحلة الطريق صعبة وطويلة ومملة، وبدأت الجثة بعد مضي وقت بالتحليل والتفسخ، وكان بلبل وأخته فاطمة يجلسون بجواره ويعانون من كل ما يحدث معهم ومع والدهم كجثة تحتاج أن تدفن وتكرّم.
كانت بعض المناطق تحت سيطرة من النظام وكانت ضحية قناصين، كانت الجثث على الطرقات، وكذلك مظاهر الحرب المستعرة. مدن مدمرة وبلدات لم يتبقى من أهلها أحد، كلهم هربوا، والبعض ميت تحت أنقاض البيوت المهدمة من قصف طيران النظام وصواريخه. أدت التوقيفات على الطريق من قبل الحواجز الامنية والجيش، وكذلك هروبهم لشوارع وطرق فرعية، ادت الى ان تستمر رحلتهم لعدة أيام، مما انعكس على حالة الجثة التي تفسخت وظهر عليها الدود، وبدأت الكلاب الشاردة تهاجم السيارة باحثة عن الجثة، متابعين الرائحة ليأكلوها. أصاب الأخوة خوف وارتياب وقلق. ندموا كثيرا من المرات على عدم دفن والدهم في دمشق او في ريف دمشق حيث عاش أغلب عمره. تمنوا في لحظات لو يرموا الجثة في العراء ويهربوا من رائحتها ومسؤوليتها. كان لوصولهم الى بدايات حلب والانتقال الى مناطق الثوار والجيش الحر، بداية راحة عند الاخوة، لكن تبين لهم بعد ذلك ان سلطة اي فريق لا تتجاوز بلدته او حيه او جماعته، والجماعات كثر. كان الاسوأ انهم وصلوا الى مناطق داعش التي لم يسمها الكاتب، لكنها هي بالإيحاء، حيث أوقفوهم لساعات، اعتقل بلبل ليتعلم أمر دينه بعد تحقيق معه تبين من خلاله أنه جاهل بتعاليم دين الإسلام. وكيف وصل الاخ حسين وأخته فاطمة إلى القرية ودفن الأب بعد ان تفسخت جثته وبدأ الدود بأكله وبدأ ينتشر بمحيطه داخل السيارة. الاخت فاطمة أصيبت بالخرس. وكان الاخوة قد فقد سيطرتهم على اعصابهم وتضاربوا انتقاما من جثة ابيهم عبر عنف ذاتي قاسي. عاد اقرباء بلبل الى داعش واخرجوه من عندهم بضمان أن يتعلم أمور دينه. فكر بلبل أن يهرب باتجاه تركيا لكنه لم يستطع. وعاد مجددا الى دمشق مع اخوته. ليعيش في ذات دوامة حياته السابقة.
هنا تنتهي الرواية .
نحن أمام رواية متميزة جدا في الحديث عن الإنسان والشعب والسلطة والثورة السورية عبر فترة زمنية معينة، وهي السنوات الاولى للثورة، راجعة بالعمق السياسي الى عقود مضت، وبالعمق النفسي الى ذات كل فرد بكل ما عاشه وما تمنى ان يعيشه، انها سجل تنويري بامتياز عن واقع كان ينتظر أن تحصل الثورة ليكشف حقيقته القاسية والسيئة.
الوطن الجثة والرجل الجثة، الوطن المصاب الذي يحتاج أن يدفن، ليخلق من ثناياه بلدا آخر حرا عادلا ديمقراطيا. منتصرا إلى انسانية ناسه، وليس وطنا يأكل أبناءه ويذلهم ويدفنهم في الفاقة والتخلف والانتهازية والجوع والحرمان.
الرواية تحتاج أن تُقرأ وأن تتحول لحكايا يتداولها الناس لكي لا ينسوا ما يعيشوا هذه الأيام. ولكي يتمسكوا بالوعد القادم ببناء دولتهم الديمقراطية العادلة، بكل طاقتهم ولا يتنازلوا عنها ابدا. يكفيهم ما عاشوا من مأساة. إننا الآن في رحم حالة الانتقال هذه. بين موت الجسد المتفسخ للوطن ودفنه. وولادة وطن جديد وشعب حر حاصل على كل حقوقه.