
يتجدّد الجدال بعد كلّ تصريح يدلي به الرئيس اللبناني جوزاف عون، أو رئيس الحكومة نوّاف سلام، ويتفعّل السجال بعد كلّ ذكر لمسألة بسط الدولة سلطتها في الأراضي اللبنانية، وما يستدعيه ذلك من حصر امتلاك السلاح استكمالاً لمعنى مفهوم السيادة. يترافق السجال مع أجواء المزايدة من حزب الله وجمهوره، لجهة عدم قدرة عون وسلام، ولا الدولة وأجهزتها وقواها العسكرية، على كبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووقف الخروق المستمرّة منذ اتفاق الهدنة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. فمن نافل القول أنّ حزب الله بعد حرب الإسناد، لم يعد كما كان قبلها، سواء على مستوى صورته أو على مستوى قدراته القتالية، فقد ظهر للعلن، أن القدرات التي كانت تتغنّى بها قيادات الحزب وجمهوره لم تؤدِّ المهام المطلوبة منها، ولم تحقّق الآمال التي كانت معقودة عليها. فهي لم تستطع الدفاع عن الحزب ولا عن سلاحه، ولا عن قرى الجنوب والبقاع، ولا عن معقله في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، كما أنها عجزت عن ردع الغارات والاستهدافات التي احتدمت بين سبتمبر/ أيلول ونوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2024.
ففي هذه الحرب، حقّق العدو السيناريو، الذي سخر أمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله منه، حين تطرّق قبل سنوات إلى مقال كتبه صحافي إسرائيلي يقول فيه إن خطّة تصفية قيادات الصفوف، الأول والثاني والثالث، من حزب الله باتت جاهزة. فما كان من نصر الله إلّا أن اعتبر أن كاتب المقالة ينفع مخرجَ صناعة أفلام، وليس صحافياً متمرّساً. لكن سنوات عدّة مرّت أثبتت أن ما كتبه ذلك الصحافي كان حقيقياً، خصوصاً بعد أن تلقّى الحزب ضربات مكثّفة في فترة لا تتجاوز الأسبوعَين، أدّت إلى تدمير مجمل قدرته الصاروخية ناهيك عن تصفية قياداته، على منوال ما كتبه صاحب المقالة بالضبط، وها نحن اليوم أمام استهدافات مستمرّة لا تنال من قيادات الصفوف الأول والثاني والثالث فحسب، بل من الصفّ الخامس أو حتّى السادس. والجدير ذكره أن السيناريو نفسه تكرّر في الحرب على إيران، فالضربة التي تلقتها في اليوم الأول أدّت إلى تصفية جزء كبير من العلماء، ومن القيادات العسكرية والأمنية الإيرانية، ومجملها رفيعة المستوى، قبل أن تقضي الولايات المتحدة، بعد أيام عدّة على المنشآت النووية الإيرانية.
حزب الله بعد حرب الإسناد، لم يعد كما كان قبلها، سواء على مستوى صورته أو على مستوى قدراته القتالية
لكن ما يمكن (وما يتوجّب) الكلام عنه اليوم، هو نقد منطق المزايدة في العجز، فإن كان يمكن تفسير الذي جرى في الأشهر الماضية، فلا مهرب من ضرورة وضعه في إطار تأكيد أن المعادلة التي لطالما أراد حزب الله استبعادها، والتهرّب المستمرّ منها، هي المعادلة الواقعية. والقصد هو المعادلة التي تقول إنّ حزب الله ليس قادراً على مواجهة العدو عسكرياً، ولا يمتلك القدرات والتقنيات والأدوات اللازمة لذلك. بما يعني أن محاولات الحزب وبيئته وجمهوره في مهاجمة عجز الدولة اللبنانية لا يهدف إلّا إلى تبرير إبقاء السلاح بأيّ ثمن، على الرغم من أن الأحداث أثبتت تهافت الجدوى المتأتّية من السلاح، إذ باتت تكلفته أكبر بكثير من مردوده، وبأن خطاب التهديد والوعيد الذي لطالما اقترنت غايات (ومبرّرات) هذا السلاح به مجرّد لغو كلامي لا يبغي إلّا المزايدة. أو بأقلّ الأحوال، إن أردنا ترجمة مفاعيله داخلياً، لا يبغي إلّا نيل امتيازات في النظام وعلى مستوى الدولة اللبنانية، وفي مراكز صنع القرار فيها. وكأنّ المعادلة اليوم هي مجرّد مكابرة توضع مفاعيلها في إطار المنافسة التي تهدف إلى إثبات أن عجز الدولة اللبنانية عن حماية أرضها وشعبها أكبر من عجز حزب الله من خارج الدولة.
لكن الشروط الواقعية تكشف ما يخالف هذه المعادلة، فمن دون تبرير عجزها العسكري، تمتلك الدولة اللبنانية إمكانات دبلوماسية قد تفتح ثغرات في جدار التفاوض، بمعزل عن مدى نجاعتها، وبمعزل عن منطق القوة الذي يحكم عالم اليوم وتاريخ العرب الطويل مع عدائية إسرائيل وتفلتها من كلّ الاتفاقات ومن مختلف الالتزامات. لكن يبقى السؤال: ما هو البديل عن إمكانات رئاسة الجمهورية أو الحكومة اللبنانية؟ وما هو الأفق الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير معادلة العجز هذه، وهل يمكن ذلك؟ وهل أن استمرار حزب الله بشكله الحالي قد يغيّر أيَّ شيء في هذه المعادلة؟
سؤال كهذا خارج مجال اهتمام حزب الله، لأنّ مفاعيله ستكون على حساب شكل وجود الحزب نفسه، بعد أن يفتقد كلّ شروط القوة التي كان يتمتع بها، حتى على المستوى الداخلي. لكنّ الحدّ الأدنى من العقلانية يستوجب مقارنة التزام لبنان بمصادرة سلاح الحزب من ناحية، مع استمرار الحزب بشكله العسكري من ناحية ثانية، وسرعان ما سيتبيّن أنه في حين تفتح معادلة الدبلوماسية إمكانات تفاوضية قد تفضي إلى أيّ شيء، تفتح معادلة السلاح أبواب جحيم الحرب على مصراعيه. الأولى قد تستثمرها الدولة اللبنانية لتحقيق بعض النتائج التي قد تصل إلى كبح جماع العدو، وإن من دون ضمانات، بينما تطيح الثانية الإمكانات والضمانات والتفاوض والنتائج والطاولة وتطيح ما تبقّى من دولة.
المصدر: العربي الجديد