“لو كانت هذه الثورة باسمي لأوقفتها بنفس اليوم وبنفس اللحظة، والثوار كانوا يستحقون جرة أذن”، ملوّحا بإعادة الفتنة الطائفية.. هكذا صرح الزعيم العراقي، مقتدى الصدر، قبل أيام، من قناة الشرقية، ليكون كلامه هذا اعترافا بمسؤوليته ومسؤولية أتباعه عن قتل متظاهرين سلميين في ساحات مدن العراق، وتهديدا متعجرفا جديدا يريد منه إرساء سلطته قائدا للمقاومة، خلفا للجنرال الإيراني، قاسم سليماني، بعد الاتفاق الذي تم مع الولي الفقيه خامنئي في قم. بهذا التصريح، رسميا، لا يقف مقتدى الصدر مع العملية السياسية في العراق وأحزابها الطائفية التي لطالما خدع أتباعه بادعاء محاربة الفساد فيها فحسب، ولكنه أيضا يصرّح، من دون أدنى تحفظ، وبكلمات احتقار فجة، بأنه سيكون القامع للثورة، وهو من ينهيها. وخاطب محمد توفيق علاوي المكلف بتشكيل الوزارة، أياما قبل انسحابه، العراقيين بقوله “إنكم خضتم معركة تاريخية من أجل الوطن، والدماء الغالية التي أريقت لن تذهب سدى، وستباشر الحكومة بالتحقيق والكشف عن العناصر المتهمة وتقديمها للعدالة”، لكنه لم يتخذ أي بادرة أو إجراء لوقف قتل المتظاهرين السلميين، ولم يُبد أي إدانة للعنف المستمر، على الأقل مبادرة منه لإظهار استجابة، ولو بسيطة، لمطالبهم، وتعبير عن حسن النيات واحترام المتظاهرين. بدلا من ذلك، استمر القتل بالرصاص الحي وإلقاء الدخانيات، بل أضيفت إليها طلقات الصيد التي ملأت إطلاقاتها صدور الشباب المنتفض في التحرير، ليثبت أن ما كان يقوم به رئيس الوزراء
المكلف (المنسحب لاحقا) ليس استجابة لمطالب الشعب وثورته كما ادّعى، بل إنه يستعجل الوقت، لتشكيل حكومةٍ تقضي على الثورة، على يد مقتدى الصدر وأتباعه.
وإذ أراد الصدر، في تصريحه لإنهاء الثورة، هذا الإعلان عن ولائه ووفائه للمرشد في طهران، خامنئي، للحفاظ على الوجود الإيراني في العراق بكل الوسائل، ومحاربة من تسوّل له نفسه ترديد “إيران برّة برّة بغداد تبقى حرة”، وتوكيل مهمة الحكومة أحد أتباع الولي الفقيه، فإن مهمة الصدر هذه لن تكلل إلا بالفشل والخذلان، كما محاولاته السابقة اختراق التظاهرات ووضع اليد عليها. ولن تتمكن أي حكومة مقبلة، أيا كانت آلتها القمعية، أن تنتصر على هذه الثورة، ولا أن تكسر شوكة التحدي والوطنية العراقية التي ولدت من رحم الأوجاع والظلم والقهر والطغيان الجاثم على العراق منذ 17 عاما. كيف سينهي مقتدى الصدر شعبا تبيع عائلةٌ منه بيتها، ومكان سكنها، لكي تتمكن من تغذية شباب التظاهرات، وتأتي العائلة بأكملها من الأم والبنات والشبان، ليقوموا بالطبخ في إحدى خيام ميدان التحرير، ويساندوا المتظاهرين؟
هذه الأم هي من اتخذ قرار بيع البيت. تضحّي بكل شيء، لإنجاح ثورة الشعب العراقي، بينما يبيع ساسة المنطقة الخضراء في بغداد العراق وشعبه مقابل السلطة والمليارات. ليست هذه المرأة الوحيدة من الأمثلة التي عجّت بها الساحات من التحرير إلى الحبوبي، ومن البصرة إلى
الشطرة والنجف وكربلاء والحلة، فقد قرّرت عراقيات مسيحيات إنشاء مطعم في الطابق السفلي لبناية المطعم التركي، البناية الاستراتيجية للثورة، والمطلة على الجسر المؤدّي إلى المنطقة الحكومية الخضراء، والمسماة جبل أحد، لتغذية الشباب الموجود بكثرة في هذه البناية. ويقوم الشباب بحماية النساء وحراستهن، منذ وصولهن إلى المطعم حتى مغادرتهن له ليلا، بدعاء وعرفان “نفديكن بأرواحنا وانتن على الراس”. أما المشهد الرائع، فكان لامرأة في العقد الخامس، تحمل قطعة كبيرة وعريضة من المعدن، تركض بها لإنشاء جدارٍ يحمي الثوار في شارع سريع محمد القاسم في بغداد. وامرأة أخرى صاحبة فكرة نصب أول خيمة في التحرير، والبقاء ومسك الأرض، وأخذ جميع المتظاهرين بالفكرة، ونصبوا خيامهم. هذه المرأة هي التي بادرت إلى نصب أول خيمة في التحرير لعمل الخبز، وقرّرت أنها لن تترك الساحة أبدا وستبقى مع المتظاهرين. يوجد في خيمتها عراقيون من كل المحافظات، وفي وقت فراغها تخرج من الخيمة، لتطمئن على الشباب. وثمّة أم البنات التي تحدّت دعايات السلطة لتشويه التظاهرات، بادّعاء وجود دعارة ومخدّرات ومثلية، تقدّمت إلى الصف الأمامي للمواجهة مع القوات الحكومية، بعد أن كانت في الخلف، هي وبناتها الجامعيات وابنها، وتروي ما حدث له مع فتاة مرسلة من الحكومة، تعرض عليه خدماتها، لتثبت أكاذيب الدعاية التي تستهدف التظاهرات والنساء لردع العراقيين من إرسال بناتهم إليها. تقدّمت الأم مع بناتها إلى الصفوف الأمامية متحدّية تصريح الحكومة، وآلتها العسكرية والإعلامية، لتقول بنفسها للشعب العراقي إن هذه
الحكومة تكذب وتنشر الدعايات لتثبيط عزمنا “أنا هنا مع بناتي بحراسة الشباب، ولا توجد أي إساءة للنساء”. ووالدة شاب قتلته القوات الحكومية، جاءت إلى ساحة التحرير، لتقضي مع المتظاهرين مناسبة اليوم السابع الذي اعتاد العراقيون على إقامته لموتاهم، تقول إنها تشم رائحة ابنها فيهم، وإنها لن تترك الساحة، بل ستكمل الطريق الذي اختاره ابنها. وهذا شاب بسيط أصيب بطلقات الصيد يرتجل شعرا وهو يضحك، ويهزأ من عدم الرجولة في قنص المتظاهرين ببنادق الصيد، يقول: أمرك يا شعب فوضته لله .. إذا تسكت عليهم حقك يضيع .. مرمر صير لا تصدق المناشير .. ودكهم يا شعب خليهم ينطوك ضعف كل المخاسير (ما خسرته).
هذه بعض أمثلة من آلاف أمثلة التحدي في ساحات العراق منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ساحات تمتلئ بالتحدّي والوطنية والكرامة لدى عظماء وعظيمات من البسطاء والوطنيين، لم يبارحها كثيرون منهم منذ خمسة أشهر، ولم يعودوا إلى بيوتهم، على الرغم من كل الرهانات الحكومية على التعب وبرودة الطقس والدعايات السوقية المسيئة. نساء ورجال غالبيتهم من الشباب لم يخفهم الرصاص الحي، بل فتحوا له صدورهم عارية يتلقون الموت بهامات مرفوعة، يضحكون ويستهزئون من إطلاقات الصيد، لأنها للطيور وليست للرجال، لم يتراجعوا أمام الدخانيات الإيرانية المميتة التي تخترق الرأس. نصبوا خياما جديدة، بعد أن حرقت خيامهم غير عابئين، مصرّين على إكمال الثورة والقضاء على الطغيان. جرّبت ضدهم الاغتيالات اليومية والاختطاف بالآلاف، فزادت تظاهرات الجامعات بالآلاف، تهتف بالروح بالدم نفديك يا عراق. يا مقتدى، يا من تريد إنهاء الثورة، لقد جئت متأخرا ومتأخر جدا، أنت وكل من ورائك، فهناك جيل من أبناء سيد الحضارات يقول لكم: سنبحث عن شهيد في قماط نبايعه أمير الثائرينا/ ونحمله على هام الرزايا لدهر نشتهيه ويشتهينا.
لم يخلق لمثل هذا التحدّي المنتصر بعد من ينهيه من أمثالكم، فاحملوا أشياءكم وانصرفوا.
المصدر: العربي الجديد