عن استد خال العدو إلى النسيج السوري

محمود الريماوي

لم يكن السوريون بحاجة إلى تذكيرهم بالعدو التاريخي لبلدهم وشعبهم، وبمن يستهين بسيادة البلاد وسلامة العباد، وبمن يهدّد بحرمانهم من الاستقرار ومن السّلام الداخلي، ومن فرصة التعافي وإعادة بناء ما هدمه النظام السابق في حربه على شعبه، وصولاً إلى استعادة الجولان المحتل، الذي تقطنه اليوم غالبية سورية تنتمي إلى الطائفة الدرزية، رفضت الهُويَّة الإسرائيلية، هُويَّة المحتل، وظلّت جيلاً بعد جيل على انتمائها إلى الوطن السوري وإلى العروبة. مع ذلك، لم تتوان العصابة الحاكمة في تل أبيب منذ اليوم الأول للتغيير في سورية عن استهداف المواقع والمراكز العسكرية، وقد واصلت تلك الحكومة اعتداءاتها من دون توقّف على الأراضي السورية منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024)، وواكب اعتداءاتها العملُ على اختراق النسيج الوطني الاجتماعي، بمحاولة استمالة بعض ضعفاء النفوس والادّعاء بحمايتهم، في واحدة من مساخر الزمان، حين يلعب المعتدي دور الحامي، وحين يؤدّي اللص دور الأمين على مقدّرات الآخرين. وبينما ترتكب حكومة نتنياهو مجازر بشعة لا تتوقف في غزّة، فإنها تتقدّم في سورية منتحلة صفة المنقذ. غير أن تسلسل الأحداث في جنوبي البلاد يثبت أن الأيدي الإسرائيلية قد عبثت (وما زالت) علناً بالنسيج الاجتماعي، والأمن الوطني، وتقوّي من شوكة الخارجين عن إجماع شعبهم، بما في ذلك في السويداء الجريحة، حتى وصلت إلى استهداف العاصمة دمشق والمراكز السيادية فيها ومحاولة دفع البلاد إلى دائرة الفوضى، وتعطيل الحياة الطبيعية، وشلّ الاقتصاد. وليس هناك ما هو أعزّ وأحبّ على العقل الصهيوني من إشاعة الخراب والدمار حول دولته، وهو ما يفعله أركان هذه الدولة في لبنان وسورية، إضافة إلى غزّة والضفة الغربية.

وللمرء أن يلاحظ أن الجمهور السوري العريض (رغم مؤاخذاتٍ وجيهة)، في سائر المناطق ولدى مختلف المكوّنات، أبدى روحاً إيجابية في الحكم على مسار السلطة الجديدة، وجرى التوافق على دعمها ومنحها فرصةً كافيةً للتعامل مع التحدّيات الداهمة، ذات الطابع الأمني، التي مثّلتها على الخصوص فلول النظام السابق، ومنحها كذلك الفرصة لتوسيع دائرة تمثيلها وتصحيح الأخطاء المقترنة بحداثة العهد والتجربة السياسية. ومع التطوّرات الخطيرة المتسارعة، يلتقي السوريون مجدّداً على ضرورة التماسك الوطني في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، وسدّ الثغرات التي يتسلّل منها هذا العدو، وكشف المتواطئين معه الذين لا يتوانون عن محاولة استدخال المحتلّين إلى المعادلات الاجتماعية، وإلى مفاصل الحياة الوطنية وإلى عقر الدار، ما يشكّل خطراً داهماً على سيادة البلاد ووحدة أراضيها، وعلى سلامة النسيج الوطني والاجتماعي. وعلى حاضر الوطن ومستقبله.

وبعبارات أوضح، يسعى المحتلّ الإسرائيلي إلى محاولة تكرار إلحاق مكوّن اجتماعي بعينه به، كما نجح في ذلك داخل المجتمع الفلسطيني للعام 1948، فيتجنّد أبناء ذلك المكوّن في صفوف جيشه وتحت رايته لخدمة المشروع الصهيوني، وفي عداء صريح مع شعبهم المتشبث بأرضه وجذوره وهُويَّته الوطنية (والعربية)، ومع أبناء شعبهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزّة، الرازحَين تحت الاحتلال، اللذَين يتعرّضان لأقسى درجات التنكيل من الاحتلال، ومن جنوده وضباطه، وبعضهم ينتمون بكلّ أسف إلى ذلك المكوّن العربي الطائفي، وبينهم من شارك في حرب الإبادة ضدّ غزّة وسقط صريعاً هناك، فيما تتفاخر زعامتهم “الدينية” والاجتماعية هناك بما يسمونه “حلف الدم” مع الصهاينة في وجه أبناء شعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية، ومن أجل تمكين الاحتلال من تصفية الوجود العربي والفلسطيني في أرض فلسطين التاريخية.

تثير التهديدات الإسرائيلية الحاجة إلى دعم عربي وإقليمي لسورية، وتعزيز الوحدة الوطنية أساساً لمنع الفوضى الدموية

ومن الجلّي أن تكرار تلك السابقة الشاذّة في سورية، يقع في صُلب المشروع الإسرائيلي الراهن تجاه هذا البلد العربي وشعبه العزيز، بالسعي إلى اجتذاب شرائح منه للانسلاخ عن شعبها وأمتها، والالتحاق بالمشروع الصهيوني تحت عناوين بسط الحماية والأخوة المزعومة بين الحمل والذئب، بين أبناء البلاد والغزاة. وهو ما تطرّق إليه مراراً وتكراراً الزعيم الوطني اللبناني وليد جنبلاط، الذي استشعر وجود هذه المخاطر قبل وقوع الأحداث الدامية أخيراً، محذّراً من محاولة سلخ أبناء طائفة الموحّدين عن شعبهم وعن هُويَّتهم الوطنية والقومية، ومن بثّ الادّعاءات الجوفاء عن قومية مزعومة وكيان قومي درزي، بالتضادّ مع تاريخ طائفة الموحّدين، طائفة سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط، في الانتماء إلى وطنهم وشعبهم وعروبتهم والوقوف في وجه الغزاة والمحتلّين، وهو ما تنبهت إليه مبكّراً الغالبية من أبناء محافظة السويداء، الذين تلاقوا في الالتفاف حول الدولة وقواها العسكرية، وإدانة الاحتراب الأهلي، وقطع الطريق على مَن يستدرجون التدخّل الأجنبي، وبالذات الاحتلال الغاشم، ويتاجرون بالدم السوري تحقيقاً لمطامح ضيقة وهزيلة تقامر بمصير سورية والسوريين، وليس بمنطقة بعينها، أو بمكوّن اجتماعي واحد فحسب. وهو ما عبّر عنه دروز الأردن (42 ألف نسمة وفق بعض المصادر) في بيان أصدروه تعليقاً على التطوّرات الدامية والانتهاكات الإسرائيلية، وقد ورد في البيان رفضهم كلّ أشكال التطبيع والتقسيم والارتهان للأجنبي، ووجّهوا “نداءً صادقاً ومخلصاً إلى الأهل في جبل العرب”، يحذّرونهم من استغلال صمودهم وتضحياتهم ذريعةً لتدخل الاحتلال الإسرائيلي في جنوب سورية “فهو لا يريد خيراً، وإنما يسعى لتنفيذ مخطّطات تقسيمية تستهدف كلّ سورية وليس السويداء”.

وبينما تثير التهديدات الإسرائيلية الحاجة إلى دعم عربي وإقليمي لسورية، يشكّل تعزيز الوحدة الوطنية الأساس لمنع تكرار هذه الفوضى الدموية، ما يتطلّب احتضان مبادرات اجتماعية وسياسية لتعزيز هذه الوحدة، عبر تكريس مبدأ المواطنة وإعلاء سيادة القانون، والقيام بمحاسبة حازمة وعادلة لمرتكبي الانتهاكات إلى أيّ طرف انتموا، ونشر نتائج هذه المحاسبة على الملأ، من قبيل توقيف من أقدموا على قصّ شوارب رجال، ونشر أسماء المرتكبين وصورهم والعقوبات التي أوقِعَت بهم، من أجل بناء الثقة والبرهنة على الجدّية، والتشارك مع المجتمع المدني والقوى السياسية في جبر الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بمحافظة السويداء، وذلك جنباً إلى جنب مع نشر تقرير لجنة تقصّي الحقائق في أحداث الساحل في مارس/ آذار الماضي، الذي تأخر صدوره على نحوٍ غير مبرّر.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى