تضغط عوامل كثيرة على ساحة الجدال السياسي الثقافي، مؤدية إلى تراجع القراءات العقلانية للمواقف والسياسات الإقليمية والدولية. وبدلًا منها تحضر الاستقطابات المعيقة التي ترسم حدودًا حادّة وفاصلة بين الرؤى المختلفة، وتقسم أصحابها إلى معسكرات سياسية ثقافية متعادية، ولا شك في أن للخلافات والتنافسات بين الدول، عربيًا وإقليميًا، تأثيرٌ واضحٌ في إنتاج الاستقطابات هذه وديمومتها، لكنه -بالطبع- ليس السبب الوحيد. فمن الواضح نمو حالة انقسام بين مثقفين/سياسيين، مرتبطة بالصراع بين دول عربية وإقليمية، إلى درجة أصبحت فيها إعادة آرائهم ومواقفهم إلى مواقف وسياسات الدول التي يعيشون فيها، أو إلى المؤسسات التي يعملون فيها، أمرًا طبيعيًا ومستسهلًا.
مع ذلك، ينبغي للعلاقات الزبائنية هذه، الموجودة بقدرٍ ما، ألّا تمنع النقاشات العقلانية للقضايا الراهنة، وألّا تشكِّل الاتهامات المتداولة رهابًا لأي فرد، يمنعه من إبداء رأيه في أي قضية أو يمنعه من تسجيل موقفه إزاء أي حدث سياسي. وفي سياق الاهتمام بهذا النوع من النقاش، أختار في مقالتي هذه بعض الأفكار ذات العلاقة بمسألة التطبيع مع “إسرائيل”، على أمل أن يؤدي نقاشها إلى تعزيز مساحة الحوار الديمقراطي المضاد للاستقطابات العربية والإقليمية.
1- فلسطين: قضية استثمارية للاستبداد والمقاومات المذهبية؛ استخدمت قوى الاستبداد “الممانعة” والتنظيمات المذهبية “المقاومة” القضيةَ الفلسطينية لتغطية قمع الشعوب واستمرار هيمنتها وتعظيم نفوذها ومصالحها، ما ولد شعورًا بالاشمئزاز عند الكثيرين، خصوصًا بعد الربيع العربي، إزاء هذه القضية وكل ما يمتّ إليها بصلة؛ شعورًا يمكن فهمه وتفسيره، لكن لا يمكن أن نبني عليه تصورًا أو موقفًا سياسيًا عقلانيًا.
كانت القضية الفلسطينية إحدى الركائز الرئيسة التي بنت عليها الأنظمة الاستبدادية شرعيتها، لكن دفاعها عن فلسطين وشعبها، في مواجهة أميركا و”إسرائيل”، ظل في الإطار الخطابي، ولم ترغب في، أو لم تستطع، أو عجزت عن، التقدم خطوة ذات قيمة في هذا الاتجاه، بل إنها نزلت بفلسطين وقضيتها إلى الحضيض، وفي الآن نفسه أوصلت شعوبها إلى الدرك الأسفل على المستويات كافة. وبنتيجة ذلك، سادت رؤية عامة ترتكز على إدارة الظهر للأنظمة الاستبدادية، وعلى ضرورة التخلص من محمولاتها السياسية جملة وتفصيلًا، بما فيها القضية الفلسطينية، وهي في الحقيقة رؤية انفعالية وسطحية؛ لأن الضرورة العقلانية تقتضي رمي الأنظمة وتصوراتها للقضية، لا رمي القضية ذاتها التي لا يمكن إنكار وجودها وتأثيرها، ما يعني أهمية بناء رؤية جديدة مغايرة لها، تُعيد تأسيسها في الوعي العربي العام على أسس جديدة تأخذها إلى ساحة الفعل ضد الاستثمار، وإلى ميدان التفكير ضد القداسة، وإلى ساحة السياسة في مواجهة الأيديولوجيات، الدينية والقومية واليسارية.
2- فلسطين: قضية سابقة للخلاف الخليجي؛ من المعروف أن القضية الفلسطينية سابقة للخلاف الخليجي البيني، وأنها لم تكن، إلى سنوات قريبة، قضية إماراتية أو قطرية حيوية؛ فموقعها كان، ولا يزال، أكثر حيوية بالنسبة إلى دول الطوق والعراق، والسعودية نسبيًا، بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة وأدائها تجاهها، وهذا أمر طبيعي ومفهوم. ومن ثمّ، فإن أي موقف تجاه القضية الفلسطينية وما يتعلق بها، يُفترض أن يأتي، أو يُفهم، انطلاقًا من وعي القضية ذاتها، وحاجاتها وضروراتها، لا أن يصبّ، أو يُفهم أنه يصبّ، في محاباة دولة، ولا في العداء لأي دولة.
يكاد وعينا البائس اليوم، أن يقسم الجميع، مثقفين وسياسيين وبشرًا عاديين، استنادًا إلى الخلاف الخليجي البيني أو التنافس التركي الخليجي الإيراني، مستنكرًا أي رأي أو موقف مستقل ينطلق من تصورات واعية واستراتيجية محدّدة حول القضايا الحيوية. الموقف الرافض للتطبيع مع “إسرائيل” مثلًا، يُراد وضعه في سياق الخلافات والاصطفافات بين الدول الخليجية وغيرها أو في ميدان الخلافات الدينية المذهبية، على الرغم من كونه موقفًا شائعًا وقديمًا قبل الخلافات كلها التي يحفل بها الواقع؛ إنه موقف رافض للتطبيع أساسًا، سواء أكان المطبِّع سوريًا أو مصريًا أو قطريًا أو إماراتيًا أو سعوديًا، ومرجعيته القضية الوطنية الفلسطينية أو القضية الوطنية السورية، قبل أي شيء آخر … إلخ.
لا بدّ أيضًا من التمييز بين الموقف السياسي والتحليل السياسي؛ يمكن تفسير، وليس تبرير، الموقف الإماراتي الذاهب في اتجاه التطبيع بجملة من العوامل، أبرزها سعي دولة الإمارات لإعطاء الرئيس الأميركي ترامب ورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، دعمًا لموقفه الحاد تجاه إيران التي يخشاها الخليجيون عمومًا، وهم محقون في هذا بالطبع. لكن تفسيرنا للموقف الإماراتي لا ينبغي أن يحول دون معارضته انطلاقًا من المصلحة الوطنية الفلسطينية أو السورية؛ لأن المطلوب من الوطنيين الديمقراطيين، السوريين والفلسطينيين، بناء نقاط تقاطع وخطوط مصالح مع الدول، لا تتعارض مع الوطنية السورية أو الوطنية الفلسطينية، وليس المطلوب حكمًا التدخل في السياسات الإماراتية أو القطرية أو السعودية أو التركية، أو غيرها، ولا السير وفق إيقاعاتها وتصوراتها أيضًا. وفي المقابل، من المهم أيضًا أن يسأل الوطنيون في البلدان العربية كافة، وفي دول الخليج خاصة، عن مصالحهم الوطنية فعلًا في التطبيع مع “إسرائيل”.
مع ذلك، فإن فهمنا للمعالجة الإماراتية للمخاوف تجاه إيران بهذه الطريقة، لا يعني الإقرار بأنها الطريقة العقلانية أو الوحيدة التي يمكن من خلالها استبعاد المخاوف تلك. من جانب آخر، لا يفيد ادعاء الحكمة في اعتبار التطبيع طريقًا عقلانيًا لحلّ القضية الفلسطينية والظفر بحقوق الشعب الفلسطيني؛ فكثيرًا ما يدعي المهزوم والضعيف الحكمةَ في سياق تبرير ذهابه في الطريق الذي يريده الخصم.
تتجلى الحكمة فعلًا في محاولة بناء مرتكزات القوة الداخلية، وفي تقليل المساحات الاضطرارية في السياسة، وفي بناء التحالفات الاستراتيجية الحقيقية، وهذه كلها غائبة عن السياسات العربية، ومنها الخليجية. باستثناء علاقتها الاستراتيجية بأميركا، لأسباب معروفة، لم تبنِ دول الخليج تحالفات جادة في المنطقة، وسمحت بنمو أدوار لدول إقليمية على حسابها، وحساب العرب كلهم، ما اضطرها إلى الدخول في خصومات عديدة، بما فيها الخصومة فيما بينها، وخضوعها للابتزاز الأميركي بصورة دائمة.
دول الخليج مشكلتها الرئيسة مع نفسها أولًا، مثل سائر العرب، قبل أن تكون مع الآخرين، وهي لا تعير انتباهًا فعليًا إلى مشكلاتها الجوهرية، خاصة المشكلة الديموغرافية التي تمنعها من أداء دور فاعل وحماية نفسها، على الرغم من مخزون الثروة الكبير لديها، ما اضطرها دائمًا إلى ربط نفسها وأمنها بالسياسات الأميركية. من يتحمل، بصورة أساسية، ترك الساحات العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية واليمنية لإيران؟ أليس العرب وفي مقدّمهم الخليجيون هم المسؤولون؟ إلى أن أصبحت إيران مشكلة حقيقية تضطرهم إلى ما لا يرغبون فيه، وإلى الدخول في سياسات ومحاور غير منتجة.
3- هل يمكن بناء وطنية سورية ضدّ القضية الفلسطينية؟ بدأ صوت الوطنية السورية يرتفع مع انطلاق الثورة السورية، لكن البعض -للأسف- وضعها أو فهمها، في ظل غيابها تاريخيًا، وافتقارها إلى التنظير الفكري السياسي، في سياق الانتقام من الماضي وقضاياه ومقولاته. سورية أولًا؛ توجه صحيح من حيث أولوية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوجه خاطئ إن لم يأخذ في الحسبان إعادة بناء دور سورية في المنطقة على أسس جديدة، ومصالحها المتقاطعة بالضرورة مع الشعوب الأخرى، أقلّها لجهة احتلال جزء من أرضها منذ عام 1967 من “إسرائيل”، ما يحتِّم وجود مصالح مشتركة لها مع الشعب الفلسطيني الذي احتلّت أرضه على مراحل، وأصبحت رهينة البازار الدولي وموازين القوى في المنطقة.
إذا لم تمتلك الوطنية السورية رؤية جيوسياسية جديدة وبعيدة النظر للمنطقة، تنطلق من حقائق التاريخ والجغرافيا ووحدة المصالح، ومن فهم “إسرائيل” كيانًا ودورًا في المنطقة، فإنها ستحمل بذور خسارتها وفنائها، لأن من يبني رؤيته على أساس ردّة الفعل تجاه الماضي، ويسير في طريق الانتقام منه، لن ينتج إلا الهذر.
كتب أحد القياديين السوريين الكرد “نحن كرد سورية، لا المعارضة ولا النظام يعترف بحقوقنا، ما مصلحتي في أن أموت في الجولان. علينا ككرد تشجيع سورية للمصالحة مع إسرائيل”. على ما يبدو، ينظر القيادي الكردي إلى سورية بعين ضيقة لا ترى إلا ما يحقق مصلحة كردية سريعة وقصيرة النظر وواهمة، بدلًا من العكس؛ النظر إلى القضية الكردية، وغيرها من القضايا، بعين الوطنية السورية. من جانب آخر، لماذا العتب على السوريين العاديين من حيث جهلهم بمعاناة السوريين الكرد، إذا كان القيادي السوري الكردي نفسه لا يملك رصيدًا معقولًا من المعرفة بقضية الجولان وأهلها.
أيضًا، ينظر اليوم سوريون كثيرون باستخفاف تجاه قضية الجولان السوري على الرغم من أن معاناة أهله كانت مضاعفة، من “إسرائيل”، ومن النظام السوري أيضًا، وما زالت مستمرة منذ عام 1967 إلى اليوم؛ قضية الجولان إحدى قضايا الوطنية السورية، وتلامس مشكلة نحو مليون مواطن سوري اليوم بصورة مباشرة، عانوا من احتلال أرضهم، ومن التشرد والفقر، وأخيرًا من القتل والتهجير.
أخيرًا، ينبغي لنا إخراج القضية الفلسطينية من دائرة الاستثمار الإيراني، والتخلص من استخدامها ورقة في أيدي الأنظمة الاستبدادية، ومن النظر إليها بوصفها قضية إسلامية سنية، ما يعني إعادتها إلى ساحتها الفعلية، ساحة السياسة؛ فلسطين قضية سياسية، ليست سنية ولا شيعية، وليست قضية يسار أو يمين، ولا قضية نحدِّد مواقفنا إزاءها في ضوء الخلافات الخليجية. إنها قضية وطنية فلسطينية بدرجة أولى، لكنها ترتبط بصورة وثيقة بقضايا العرب كلها، أحبوا ذلك أم كرهوه.
المصدر: المدن