السوريون وتشابك خيوط السياسة والمشاعر

محمد خالد الرهاوي

في ظل الحرب المستعرة بين إيران وإسرائيل في هذه الأيام، ظهر جليا لكل متابعٍ لتغريدات السوريين ومنشوراتهم كيف تشابكت خيوط السياسة والمشاعر عندهم وكيف برزت في قضية حساسة تتعلق بموقفهم من إيران، وقد حاول بعض الناس من غير السوريين الربط بين موقف السوريين هذا ومواقف أخرى لهم تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية ربطا لا يعكس حقيقة مواقفهم الحالية والتاريخية، فالحقيقة أبعد من هذا التبسيط الذي يدّعيه هؤلاء على السوريين، فليست كراهية السوريين لإيران مجرد شعور عابر أو انحياز أعمى، بل هي نتاج تجربة مريرة وحقائق دامية عاناها السوريون على مدار السنوات الأربع عشرة الماضية، فقد قد رأى الجميع كيف كانت إيران شريكًا أساسيًا وداعمًا رئيسيًا لنظام الطاغية البائد الذي ارتكب فظائع لا حصر لها بحق شعبه، فضلا عن مشاركة إيران العسكرية المباشرة عبر حرسها الثوري ومستشاريها العسكريين وميليشياتها الطائفية المجرمة، ومساهمتها في قمع الثورة وتهجير الملايين وارتكاب جرائم حرب موثقة، فالصور المروعة للمدن المدمرة، وللمدنيين الأبرياء الذين قتلوا، وللملايين الذين هُجّروا من ديارهم، رسخت صورة إيران بوصفها قوة عدوانية متدخلة في الشأن السوري، وفاعلة في إذكاء نيران الصراع الطائفي الذي لم تعرفه سوريا من قبل.

لقد نظر السوريون إلى التغلغل الإيراني، سواء أكان عسكريًا أم ثقافيًا أم اقتصاديًا، على أنه محاولة لفرض نفوذ وهيمنة تتجاوز حدود الدعم التقليدي لتصل إلى تغيير ديموغرافي وجغرافي في بعض المناطق السورية، فولّدت هذه الممارسات شعورًا عميقًا بالمرارة والخيانة، وخلقت كراهية متجذرة لا علاقة لها بأي أبعاد أخرى سوى حجم الظلم والمعاناة التي تسببت بها إيران وحلفاؤها في سوريا، وليست هذه الكراهية مبنية على خلافات مذهبية أو طائفية، فالسوريون أبعد الناس عن الطائفية، وإنما نشأت هذه الكراهية لإيران من تدخلها السافر في شؤون البلاد، ودعمها نظاما طائفيا قمعيا أباد شعبه ودمر بلده. ومن ثَمَّ فإنّ كراهية السوريين لإيران هي تعبير عن رفضهم للظلم وللقتل وللتدمير الذي لحق ببلادهم على يد قوى خارجية وداخلية تآمرت على مستقبلهم.

ولا بد في هذ السياق من بيان أن المغالطات التي يحاول بعض الناس ترويجها عن كره السوريين لإيران بأنه عداء للمقاومة، غير صحيحة، فكراهية السوريين لإيران لا تعني حبًا لإسرائيل أو عداءً للقضية الفلسطينية ولا تخليا عنها، فالقضية الفلسطينية ليست إيران، وليست إيران هي القضية الفلسطينية، كما أن كراهية السوريين إسرائيل لا تعني حبا لإيران ولا اصطفافا في محورها المزعوم. والمنصف يجزم أن تفسير كراهية إيران بأنها عداء للمقاومة ولفلسطين مغالطة كبرى لا تستند إلى أي أساس منطقي أو واقعي، فتاريخ الشعب السوري حافل بدعمه للقضية الفلسطينية، والتضحيات التي قدمها السوريون في سبيلها لا يمكن أن يطمسها أي خلاف مع إيران أو كراهية لها. وإسرائيل تظل في الوعي الجمعي السوري عدوًا أساسيًا ومحتلًا للأراضي العربية والفلسطينية، وهذا العداء ليس مشروطًا بموقف من إيران أو غيرها، بل هو مبدأ راسخ يقوم على حق الفلسطينيين في أرضهم، وفي دولتهم المستقلة، وعودة اللاجئين. وبما أن الجولان السوري المحتل كان شوكة في خاصرة السوريين، ورمزًا للاحتلال والظلم، وسببا وذريعة للنظام البائد لقمعهم وإفقارهم وذبحهم، فكيف يمكن لشعب يرزح جزء من أرضه تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويشعر بالظلم الذي لحق بأشقائه الفلسطينيين، أن يكون محبًا لإسرائيل؟ إنّ النضال السوري ضد الاحتلال الإسرائيلي سابق لوجود نظام الطاغية البائد، واستمراره لا يرتبط بوجود إيران أو عدمها، فقد دعم السوريون المقاومة الفلسطينية تاريخيًا، واستضافوا اللاجئين الفلسطينيين، وقدموا الغالي والنفيس في سبيل قضيتهم، ولا تتغير هذه الحقائق بتغير المواقف تجاه إيران، ولا يغيرها اصطفاف الفصائل الفلسطينية مع نظام الطاغية البائد ومشاركتها له في قتل السوريين وتدمير بلدهم ومحاولة قمع ثورتهم. فالتمييز بين موقف سياسي تجاه دولة معينة وبين موقف مبدئي تجاه قضية عادلة هو أمر بالغ الأهمية، وكراهية السوريين لإيران نابعة من تجربة داخلية مريرة، بينما كرههم لإسرائيل نابع من مبادئ عربية وإنسانية راسخة تتعلق بالاحتلال والظلم.

لقد نظر السوريون إلى التغلغل الإيراني، سواء أكان عسكريًا أم ثقافيًا أم اقتصاديًا، على أنه محاولة لفرض نفوذ وهيمنة تتجاوز حدود الدعم التقليدي لتصل إلى تغيير ديموغرافي وجغرافي في بعض المناطق السورية، فولّدت هذه الممارسات شعورًا عميقًا بالمرارة والخيانة، وخلقت كراهية متجذرة لا علاقة لها بأي أبعاد أخرى سوى حجم الظلم والمعاناة

في المقابل، فإن كراهية السوريين لإسرائيل شعور طبيعي متجذر لكنه لا يوجب بأي حال من الأحوال أن يصطفوا مع إيران بحجة المقاومة أو أي شعارات أخرى خُدعوا بها وأسهمت في ذبحهم وإفقارهم على مدار عقود، فالجميع يعلم أن إيران استغلت شعارات المقاومة والقضية الفلسطينية لتسويغ تدخلاتها الإقليمية، ولتوسيع نفوذها، ولتغطية انتهاكاتها بحق شعوب المنطقة، بما في ذلك الشعب السوري والعراقي واليمني واللبناني، وقد رأى السوريون كيف تحول نظام الأسد الساقط الذي ادعى أنه “قلعة الصمود والتصدي” إلى نظام طائفي قمعي وحشي يقتل شعبه ويدمر مدنه ويجلب المحتلين لأرضهم، وكيف كانت إيران تقدم له الدعم اللامحدود. فهل يمكن لمثل هذا النظام أو لمن يدعمه أن يكون جزءًا من محور مقاومة حقيقي؟ أليست المقاومة الحقيقية تبدأ من مقاومة الظلم داخل الوطن، ومن الوقوف مع الشعوب المظلومة، لا مع الأنظمة القمعية؟

إنّ الاصطفاف وراء شعارات “المقاومة” التي ترفعها إيران يضعنا في مأزق أخلاقي وسياسي، فكيف يمكن لشعوب ترفض الظلم والاحتلال أن تتحالف مع قوة دعمت نظاما يمارس أبشع أنواع الظلم والقتل ضد شعبه؟ أليس هذا تناقضا صارخا لا يمكن تسويغه؟ أليس من الأولى ألا تكون قضية فلسطين -وهي قضية محورية ومركزية للأمة- ذريعة لتحالفات تضر بشعوبنا وتزيد من معاناتها؟ ألم يئن الأوان لندرك أن المقاومة ليست شعارًا يرفع، بل هي فعل يستند إلى مبادئ العدل والحرية والكرامة، وأن أي نظام أو قوة تدعم نظامًا يقتل شعبه، وتنشر الفوضى، وتعمق الانقسامات، لا يمكن أن تكون جزءًا من محور مقاومة حقيقي، حتى لو رفعت راية فلسطين، فضلا عمن يستغل هذه الراية لخدمة مصالحه الخاصة على حساب دماء الشعوب؟

إنّ الموقف الصحيح الذي يتجاوز التناقضات الظاهرية هو الموقف الذي يقوم على مبادئ واضحة وغير قابلة للمساومة: رفض الظلم والاستبداد من أي جهة كانت، ودعم القضايا العادلة دون تسييس أو ابتزاز، والحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة الأراضي، والتمييز بين الأعداء الحقيقيين والخصوم السياسيين، فالسوريون الذين دفعوا ثمنًا باهظًا في سبيل حريتهم وكرامتهم يدركون جيدًا معنى الظلم والاحتلال، وكراهيتهم لإيران ليست ترفًا أو انحيازًا، بل هي حصيلة تجربة مريرة مع نظام دمر بلادهم مسنودا بكل أشكال الدعم الإيراني. وهذه الكراهية لا تعني أبدًا حبًا لإسرائيل، ولا تراجعًا عن دعم القضية الفلسطينية. بل على العكس، فرفض السوريين للظلم من قبل إيران ونظام الطاغية البائد يعمق من إيمانهم بضرورة إنهاء كل أشكال الاحتلال والظلم، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي.

ولا بد أن نتعلم كيف نبني مواقفنا على أسس مبدئية وواقعية، بعيدًا عن التسييس الضيق والمزايدات، ولا شك أن كره السوريين لإيران هو رد فعل طبيعي على دورها التخريبي في بلادهم، وهذا الكره لإيران لا يمكن ألا يمحو تاريخهم من دعم للقضية الفلسطينية، ولا يحولهم إلى محبين لإسرائيل. كما أن كره إسرائيل، وهو موقف مشروع، لا يسوغ الانصياع لأي محور يدعي المقاومة بينما يمارس الظلم والقمع بحق شعوب أخرى. وبناء مستقبل أفضل للسوريين يتطلب منهم أن يكونوا واضحين في مواقفهم ودعمهم للعدل والحرية أينما وجدا، رفضهم للظلم والاستبداد مهما كانت رايتهما أو شعاراتهما. ولا بد من الفصل بين القضايا، وتحديد الأعداء بناءً على الأفعال والممارسات تجاه الشعب السوري ودولته الوليدة لا بناءً على تحالفات زائفة أو شعارات مضللة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى