لماذا مبادرة السلام الصينية في أوكرانيا وكيف؟

علي العبدالله

مع دخول العدوان الروسي على أوكرانيا عامه الثاني، جدّدت الولايات المتحدة، على لسان رئيسها، جوزيف بايدن، التزامها منعَ روسيا من تحقيق انتصار. وقد بدا التزامها قوياً وحاسماً من خلال إعلانه من العاصمة الأوكرانية، كييف، التي زارها بايدن يوم الاثنين في الـ20 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، قبيل الذكرى الأولى للعدوان بأيام، وتأكيده هذا الالتزام في اليوم التالي من العاصمة البولندية وارسو.

جاء إعلان الالتزام الأميركي مقروناً بحزمة مساعداتٍ جديدةٍ بحوالي ملياري دولار، وحزمة عقوباتٍ على روسيا، هي العاشرة منذ بدء العدوان على أوكرانيا، وإعلان بدء وصول الدبابات الألمانية والبريطانية إلى الجيش الأوكراني. وكان قد سبقه تحذير من دول مجموعة السبع للدول التي تساعد روسيا بالأسلحة. وقد أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن الصين تستكشف طرق تزويد روسيا بأسلحة فتّاكة، وقد سُلِّم تحذير رسمي بهذا الخصوص لوزير الخارجية الصيني، وانغ يي، خلال حضوره مؤتمر الأمن الدولي في ميونخ، مفاده أنه إذا ساعدتها في الالتفاف على العقوبات، فإنها ستتعرّض لعقوبات شديدة.

قرأت الصين المشهد الدولي وتطورات المواجهة الدامية في أوكرانيا، وما ينطوي عليه استمرارها من أخطار أمنية واقتصادية وتغييرات جيوسياسية، أكّدتها الرسائل والتحذيرات الأميركية والأوروبية، وقدّرت ما يمكن أن يترتّب عن هزيمة روسيا في الحرب الدائرة من تبعاتها وانعكاساتها شديد السلبية على أمنها هي وعلى خططها، إن بخصوص استعادة تايوان، أو بخصوص تعديل النظام الدولي القائم، كي يصبح متعدّد الأقطاب، ورأت ضرورة التحرّك الجاد لمنع هزيمة روسيا، خصوصاً بعد الإعلانات المتواترة عن هجوم الربيع والأسلحة الغربية الذي ستزجّ فيه، عبر طرح مبادرةٍ أساسها الدخول في حوار بين أطراف الصراع والعمل على وقف إطلاق نار يمهّد لمفاوضات سياسية حول حلٍّ نهائي، وبدأت استمزاج آراء دول غربية، حيث زار وزير الخارجية، وانغ يي، إيطاليا وألمانيا وهنغاريا قبل توجّهه إلى موسكو للغرض نفسه.

انطلقت الصين في تحرّكها السلمي من اعتبارات جيوسياسية وجيواستراتيجية، أولها حاجة الصين إلى روسيا قوية، كي تكون سنداً وظهيراً في معركة تعديل النظام الدولي، وإنهاء تفرّد الولايات المتحدة في إدارته وبسط سيطرتها على آليات عمله وجني مكاسب جيوسياسية وجيواستراتيجية وجيواقتصادية كبيرة، تعزّز قدرتها على مواصلة الانفراد بالقيادة الدولية، فهزيمة روسيا مقدّمة لهزيمتها هي، خصوصاً وهي تُعدّ لخوض معركة استعادة تايوان للوطن الأم، معركة سياسية لا يُستبعد منها الضغط العسكري. ثانيها حاجة الصين إلى إبعاد القوات الأميركية عن التمركز في ساحاتٍ يمكن أن تؤثر في خططها الاقتصادية والجيوسياسية، الساحة هنا دول شرق أوروبا وما تتيحه من ربط حلقات الحصار حولها من خلال القواعد المنتشرة في آسيا والخليج العربي، وهذا جعلها تميل إلى تحقيق أهداف الغزو الروسي في وقف زحف حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو الحدود الغربية الروسية وتكديس موارده العسكرية في الجوار، لكن تراجع احتمال نصر روسي دفعها لتبني حل سياسي يقيد تمدّد الحلف نحو الحدود الغربية الروسية، عبر ضمّ دول جديدة إلى الحلف ونشر قواته فيها.

ثالثها حاجة الصين إلى عدم تطوّر المواجهة الراهنة إلى حربٍ عالميةٍ عبر تمدّدها خارج أوكرانيا، أو عبر استخدام روسيا أسلحة نووية تستدرج ردّاً أطلسياً بتدمير الجيش الروسي، كما سبق وأعلن حلف الناتو، فاحتمال استدعاء هزيمة روسية لردّ نووي روسي قائم ومقلق، لأنه سيقود إلى توسيع نطاق المواجهة وأسلحتها وأهدافها، خصوصاً أن تطورات الميدان قد كشفت مدى ضعف الأسلحة الروسية التقليدية في مواجهة الأسلحة الغربية، وأثارت احتمال هزيمة الجيش الروسي أمام العتاد الغربي المتطوّر الذي يتدفق على أوكرانيا، ما جعل الخيار النووي مطروحاً لوقف تداعيات هزيمة روسية محتملة.

رابعها حاجة الصين لروسيا شوكة في خاصرة أوروبا والولايات المتحدة، ما يضعها في موقع المحتاج للصين للجم روسيا، ويعطي الصين ورقة للمساومة والحصول على جوائز ترضية في مجال التجارة والتقنيات الدقيقة، خصوصاً أن الولايات المتحدة قد ركّزت جهودها في مواجهة صعود الصين على هدف استراتيجي رئيس، هو عرقلة تطور الأخيرة، وتحقيقها نجاحاتٍ جوهرية في مجالات التقنية الدقيقة والحساسة، مثل أشباه الموصلات الصغيرة التي تقاس بالنانو متر. ولهذا يمكن قراءة التحرّك السلمي الصيني على أنه محاولة صينية لمنع هزيمة روسيا، تحقيقاً لأهداف صينية بحتة.

يبدو أن التحرّك السلمي الصيني جاء متأخراً، ما يجعل احتمال نجاحه ضعيفاً، فالتصعيد الحاصل في المواقف، وهو ما عكسه خطابا الرئيسين، الأميركي جوزيف بايدن، والروسي فلاديمير بوتين، بمناسبة دخول العدوان الروسي عامه الثاني، بشكلٍ لا يقبل الجدل، وتحوّل المواجهة إلى معركة كسر عظم بين “الناتو” وروسيا، واندفاع الطرفين لجعلها مقياساً للتحالف والصداقة وتخيير الدول الأخرى بين أن تكون معنا أو ضدنا. فالاستقطاب الشديد جعل الغرب يستهجن طرح الصين مبادرتها في الوقت الذي كان عليها إدانة العدوان الروسي أولاً، ومطالبة روسيا بسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية، كي تكون منسجمةً مع ذاتها وإعلاناتها الدائمة لتمسّكها بسيادة الدول ووحدة أراضيها، واحداً من بنود المبادرة الصينية، فحلف الناتو يريد من الصين موقفاً حاسماً ضد الغزو الروسي، لا طرح مبادرةٍ تنطوي على محاولة استرضاء المعتدي، مبادرة تكرّس هزيمة روسيا لا فتح باب لخروجها من مأزقها. وهذا دفع أطراف “الناتو” إلى الضغط على الصين، عبر تسريبات عن تسليم الأخيرة روسيا طائراتٍ من دون طيار مدنية، لكنها تصلح للقيام بالاستطلاع وجمع المعلومات والمراقبة، وإعلان تخطيطها لتزويد روسيا بأسلحة فتّاكة، ربطته تحليلات سياسية بتعزيز قدرة روسيا الميدانية لإبعاد احتمال اللجوء إلى السلاح النووي، لأن نصراً روسياً يسمح للرئيس الصيني، شي جين بينغ، بتنفيذ خطته في تايوان. وقال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، إن تقارير بلاده الاستخباراتية تفيد بأن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أصدر تعليمات لجيش بلاده “بالتأهب لغزو تايوان بحلول عام 2027″، في حين أن درس المواجهة في أوكرانيا، وتماسك التحالف الغربي، وهزيمة روسيا، ستجعله يعيد النظر في قراره. وهذا يفسّر جزئياً الدعم الأميركي الكبير لأوكرانيا، باعتباره رسالة إلى الصين، وما يمكن أن تواجهه إذا ما غزت تايوان. لذا، يمكن تفهم رفض “الناتو” المبادرة الصينية، لأنها لا تلبّي مطلبه الرئيس في دعوة روسيا إلى سحب قواتها إلى حدود 24/2/2022. ويطالب المسؤولون الأوكرانيون بالعودة إلى حدود عام 1991، ما يعني إصرارهم على استعادة شبه جزيرة القرم، ولأنه بقبولها سيمنح الصين صفة وسيط نزيهٍ ولعب دور بنّاء.

الغريب أن إجهاض المبادرة جاء من روسيا، رغم ما فيها من بنودٍ تلبي بعض مطالبها. فبعد تقدير الجهود الصينية لوقف الحرب، طالبت باعتراف أوكرانيا بضمّ أربع مناطق في الدونباس، قبل أن تُجهز على المبادرة عبر إعلان المتحدّث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف: “إننا ننظر في خطة أصدقائنا الصينيين باهتمام كبير. إنها عملية طويلة. في الوقت الراهن، لا نرى الظروف التي من شأنها أن تضع هذه القضية على مسار سلمي. العملية العسكرية الخاصة (في أوكرانيا) مستمرّة”.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى