كرامة الإنسان في قلب العدالة.. هكذا تُختبر الدولة لا المجرم

بشار الحاج علي

في كل نقاش عام يخص الجريمة والعدالة، تُرفع الشعارات، وتُختصر القيم، وتُستنهض الغرائز، كأن العدالة لا تكتمل إلا بإذلال الجاني، وكأن احترام الحقوق يعني خيانة للضحايا، بل خيانة للمجتمع بأسره، وهذا المزاج الشعبي، الذي لا يمكن إنكار قوته، بات يُشكّل ضغطًا هائلًا على الخطاب القانوني نفسه، بل ويتسلل إلى قرارات ومواقف، كان يُفترض بها أن تمثل روح الدولة لا وجدان الشارع الغاضب.

هذا ليس دفاعًا عن المجرمين، بل هو دفاع عن الدولة، عن القانون، عن المعايير التي تضمن للجميع – وليس للبعض فقط – العدالة والكرامة، فالعدالة الحقة لا تقاس حين يكون المتهم شريفًا أو محبوبًا، بل حين يكون منبوذًا، مرفوضًا، مَن لا يكترث أحد لمصيره، وإذا احترمت الدولة حقوقه رغم كل شيء، فهي تكرّس بذلك مبدأ العدالة، لا لأنها توافق على ما فعل، بل لأنها ترفض أن تنحدر هي إلى مستوى الفعل الذي تدينه.

نحن هنا لا نتحدث في فراغ أخلاقي، ولا نطرح ترفًا حقوقيًا أكاديميًا، بل ننطلق من تجربة سياسية ودبلوماسية وحقوقية، اختبرت عن قرب كيف تُقاس الدول، لا بخطابها، بل بسلوكها حين يتعلق الأمر بالمحكومين، بالمعتقلين، بالمجرمين، أولئك الذين لا يملك أحد مصلحة سياسية في الدفاع عنهم، ولكنهم يظلون حجر الزاوية في كل منظومة قانونية محترمة، فالحق الذي يُصان لمن لا يملك نفوذًا، هو الحق الذي يمكن الوثوق به حين نحتاجه لأنفسنا.

لسنا بحاجة إلى أن نستعيد تلك العبارة المضللة التي تقول إن الحقوق تُمنح لمن يستحقها، فهي تختزل الإنسان في موقفه من القانون، وتُنكر عليه صفة الكرامة حين يزل، وكأن الحق امتياز لا ضمان، هذه النظرة، الخطيرة في عمقها، لا تمثل فقط خطرًا على حقوق المجرمين – إن صح التعبير – بل تهدد البنية الأخلاقية للمجتمع بأكمله، لأنها تُعيد تعريف الإنسان وفقًا لموقفه من القانون، لا بصفته الوجودية التي تضمن له حدًا أدنى من الكرامة لا يُصادر.

إن من يريد بناء دولة، لا يمكنه أن يقبل بثقافة تُلغي الإنسان حين يخطئ، لأن الدولة التي تتأسس على القطيعة مع الكرامة، ستتحول عاجلًا إلى جهاز عقاب أعمى، وتفقد تدريجيًا مشروعيتها، إن لم يكن أمام القانون، فعلى الأقل أمام الأجيال القادمة.

أعلم أن هذا الخطاب لا يروق لمن اعتادوا استخدام القضايا العامة لبناء شعبية سريعة، أو لمن اختزلوا العدالة في “القصاص” وحده، لكن من واجبنا، نحن الذين نؤمن أن للسياسة وظيفة أخلاقية، أن نعيد التأكيد على أن احترام حقوق الجناة ليس عداءً للضحايا، بل هو احترام للضحايا أنفسهم، لأننا نرفض أن يتحول مطلبهم بالعدالة إلى وسيلة للانتقام، ونرفض أن تكون كرامتهم مبنية على سحق كرامة الآخرين.

ما تزال مجتمعاتنا تنظر إلى الجريمة من زاوية واحدة، تُلخّص الجاني في فعله، وتُلحق به جماعته أو منطقته أو خلفيته، وتحوّل الجريمة الفردية إلى “وصمة جماعية”، فتبدأ حملة لا تنتهي من الاتهام والازدراء والتشهير، وتُطمس كل إمكانية للفهم، أو الإصلاح، أو حتى التمييز بين الجريمة وسياقها، بين الفعل ومن قام به، بين الفرد والجماعة.

ولعل المثال الأشهر والأكثر تداولًا، ما قامت به النرويج مع أندرس بريفيك، مرتكب مجزرة أوتويا، الذي قتل عمدًا 77 شخصًا، أغلبهم من المراهقين، ورغم ذلك، لم تُنتهك حقوقه، بل حصل على محاكمة عادلة، وعلى ظروف اعتقال تضمن له الحد الأدنى من الحياة الكريمة، بل سُمح له برفع دعوى على الحكومة بسبب ما وصفه بـ”المعاملة القاسية”، وقد رُفضت دعواه لاحقًا، ولكن مجرد سماح الدولة له بمقاضاتها، يُظهر عمق الفلسفة التي تحكم سلوكها: نحن لا نُكرمك لأنك تستحق، بل لأننا نرفض أن نُهين أنفسنا في تعاملنا معك.

في المقابل، ما تزال مجتمعاتنا تنظر إلى الجريمة من زاوية واحدة، تُلخّص الجاني في فعله، وتُلحق به جماعته أو منطقته أو خلفيته، وتحوّل الجريمة الفردية إلى “وصمة جماعية”، فتبدأ حملة لا تنتهي من الاتهام والازدراء والتشهير، وتُطمس كل إمكانية للفهم، أو الإصلاح، أو حتى التمييز بين الجريمة وسياقها، بين الفعل ومن قام به، بين الفرد والجماعة.

وهنا يكمن الخطر الأكبر، أن يتحول القانون إلى أداة في يد الثقافة، بدل أن يكون هو الموجّه لها، فإذا استسلمت الدولة لمزاج الشارع، وبدأت تصيغ سياساتها العدلية استنادًا إلى ما يريده الناس لا ما تقتضيه المبادئ، فقدنا البوصلة، وانهارت أهم وظيفة للدولة: ضبط القوة، وتحييد الانفعال، وتكريس الموضوعية.

نحن لا ننكر أن المجتمعات تُعاني من الجريمة، وأن الضحايا يستحقون إنصافًا وعدالة، لكن العدالة لا تكتمل إلا حين تُمارس بإنسانية، وحين يكون هدفها هو الردع لا التنكيل، إعادة التوازن لا إشباع الرغبة في العقوبة، وإن لم نميز بين هذه المستويات، فإننا نُنتج بيئة تُعيد إنتاج الجريمة ذاتها، لأننا نُفرغ السجون من إصلاحها، ونملؤها بالكراهية والنبذ والإقصاء.

ثم إننا، دون أن ندري، نُكرّس منطقًا خطيرًا في اللاوعي الجمعي، مفاده أن احترام القانون يرتبط بموقع الإنسان، لا بكونه إنسانًا، وهذا يتناقض تمامًا مع مبدأ المواطنة، ويُمهّد لما هو أخطر: أن تسقط الحماية عن كل من يختلف، لا عن كل من يُجرّم.

في النهاية، لا أحد يطلب أن نُحب المذنب، ولا أن نغفر له، بل أن نحميه من تجاوز الدولة عليه، لأن الدولة التي تتجاوز حقوق أسوأ أبنائها، لن تتردد في قمع أفضلهم إذا تغير المزاج، وكل من يدافع عن حقوق المجرمين، لا يفعل ذلك لأنه يبرر الجريمة، بل لأنه يريد أن يبني منظومة تحمي الجميع من عبث اللحظة، وطيش الحشود.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى