قراءة في رواية: أبناء المطر

أحمد العربي

محمد بدرخان مخرج وكاتب سيناريو تلفزيوني وسينمائي سوري، له العديد من الأعمال الدرامية، حاصل على الكثير من الجوائز عن اعماله، متميز، هذه الرواية الأولى التي أقرأها له.

أبناء المطر، رواية تتحدث عن سورية في الخمسينات من القرن الماضي ما بعد الاستعمار الفرنسي، وتغطي زمنيا عقدا من السنين تقريبا، أبطالها يتحركون في حيز محدود قرية في وادي نهر العاصي السوري، على تخوم بادية الشام، قرية تعتمد على الزراعة، حاجتها للأمطار دائمة وأساسية، يتحدث الراوي عن شخوصها تباعا ، ويرصد حياتهم وتطوراتها. لحياة أشخاص الرواية تنوع في الظروف الاجتماعية، والعلمية والآفاق المستقبلية. الرواية تغطي الظروف العامة التي مرت على سورية في ذلك الوقت، الافكار السياسية بتنوعها، الإسلامي والقومي السوري ،القومي العربي، الشيوعي، الماسوني،  كلها مجسدة باشخاص لهم حضورهم في قريتهم وفي سياق الرواية، فيها تتجسد التطورات الاقليمية في ذلك الوقت، الحكم الهاشمي في العراق والأردن، والحكم في سورية وتذبذبه بين مصر عبد الناصر وبين حلف بغداد المدعوم من العراق والأردن والغرب، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، بريطانيا وفرنسا و(اسرائيل)، هزيمتهم بالتدخل الروسي والصمت الأمريكي، وانتصار عبد الناصر الذي أدى إلى تقارب سوري مصري تتوج بالوحدة السورية المصرية، الجمهورية العربية المتحدة، التي امتدت لثلاث سنوات. ومعرفة واقع حزب البعث والجنة العسكرية به، الحزب الذي سكت عن الانفصال ووقع عليه، ثم خطط لحركة آذار ١٩٦٣، ومن ثم سيطرته على الحكم في سورية، وتصفية الجناح العسكري، للجناح المدني، وبداية تشكيل معالم سورية الحديثة. في الرواية خوض في التاريخ السوري والمصري القديم، وربطه بتاريخ الأديان، وربطه بنصوص من القرآن والتوراة والإنجيل… الخ، في الرواية طبقات من المعرفة والمواقف المرتبطة بزمان الرواية والأزمنة السابقة، إعادة فتح ملف الأديان المسيحية والاسلام، واختلاف الفهم والتفسير الذي يجعل الأطراف حاملة ذات الدين، تختلف، واحيانا تتصارع، إلى درجة الحروب الاستئصالية.

تبدأ الرواية من قرية ديرفول الواقعة في وادي العاصي، محازية للصحراء، ناسها فلاحون يعيشون على الزراعة، الإمام عبد الواحد الشيخ الأزهري ، الذي حصل على أهليته الدينية من دراسته بالجامع الأزهر في مصر، يذهب لزراعة أرضه هو وعبد الغفار الرجل المختلف على توصيفه بين الناس، البعض يعتبره مجنونا، والبعض يعتبره مبروكا،  تحت رعاية الله، والبعض يعتبره (مخاوي) يعني على علاقة مع الجن، المهم كان شخصا له تصرفات غريبة، يتصرف وفق هواه ،بمعزل عن الآخرين ولا يتفاعل معهم، كان يرتاح للامام عبد الواحد، وذهب معه لزراعة أرض عبد الواحد، هو يبذر وعبد الواحد يحرث  الأرض طامرا الحبوب، ينتظر المطر لينبت الزرع ويعطي موسما جيدا. الكل في قرية ديرفول يعتمد على ما تجود به السماء، المطر معبرهم لحياة مقبولة وخيره، وانقطاعه يحول حياتهم لجحيم، ويجعل الشباب يرحلون الى المدن، أو ينتقلون للبنان للعمل وتأمين لقمة العيش. أهل القرية يعتمدون على الزرع والحصاد  في قريتهم والقرى المجاورة في الصيف، وفي أشهر أخرى ينتقلون إلى قرى أخرى لجني محاصيل الأشجار من الزيتون وغيره. في القرية تعيش أمينة وامها، وهي وافدة إلى القرية من قرية اخرى، حيث هرب والدها بها وامها واخوتها، من قرية اخرى، بعد أن هدر دم والدها، كبير تلك القرية وأكبر ملاكها، حيث كان والدها يخدم عنده، ولأنه لم يرضى أن يرضى سلخ الخنزير البري الذي اصطاده المالك بوجود الجنرال الفرنسي ديغول، لأن الخنزير كريه ولحمه محرم أكله. تنقل بين البلدان هاربا واستقر في ديرفول، وكبرت أمينة وصارت تعمل في الحصاد، تعرفت أثناءها على شاب يعمل مثلها بالحصاد، و احبته واحبها، هو من قرية اخرى، لديه طفلين وزوجته توفيت حديثا، نامت معه، وعدها أن يذهب ليحضر أولاده ويتزوجا، للان لم يعد، أمينة جميلة، يهواها أغلب شباب القرية، والقرى المجاورة، الكل يحلم بوصالها، يقال أنها تختار من تهوى وتنام معه، وأصبحت سيرتها في القرية سيئة، واخوتها يفكرون بقتلها، امها تحميها منهم. في القرية الصديقين المخلصين يوشع وزكريا، زكريا يهوى الصيد، يعيش حياة شبه بطالة، وصديقه يوشع له أخت يعيلها هي كوثر تعمل في الخياطة، يوشع يذهب للعمل في لبنان والعودة محملا ببعض المال الذي يعيش به مع اخته كوثر، علم يوشع ان اخته كانت تلتقي بصديقه زكريا، وأعتقد أن بينهم علاقة جنسية حرام، خطط لقتل صديقه، ذهبا للصيد ، قتل يوشع زكريا وترك رسالة يعترف بها بقتل صديقه غسلا للعار عن اخته، يهرب ويترك اخته في جحيم : قتل من تحب ، وبراءتها من التهمة وهروب أخيها،  وفضيحتها بأنها زانية. في القرية الشيخ عبد الله، رجل الدين المسن القيّم على الأمور المجتمعية، مرجع الحلال والحرام، رجل متسلط يخافه الناس، فهمه للدين يعتمد على التطبيق الحرفي لما يعتقد أنه الإسلام وصحيح، يختلف الامام عبد الواحد معه فهو يحاول الغوص دوما في جوهر الإسلام، والاعتماد على القرآن بجوهره العام الخير والعدل والحياة الأفضل للبشر، يعتمد العقل إلى جوار النقل في فهم الإسلام ونصوصه، يرفض كثير من الأحاديث المدسوسة على الإسلام والتي تعتبر دخيلة عليه وتناقض جوهره، الإمام والشيخ مختلفين، رغم أن الإمام تتلمذ على يد الشيخ، لكن الإمام تابع علمه بالأزهر وبقي على تواصل مع البحث والتقصي، فهو دائما ما يقرأ ويطلع، تابع مقارنة بين الإسلام والمسيحية بقراءة تاريخ الأديان الثلاثة اليهودية والإنجيل والقرآن، العهد القديم والعهد الجديد ما صاحبه من تفاسير والقرآن، عاد للتاريخ ولكون بلاد الشام بلاد الأمطار، أما مصر فهي هبة نهر النيل، وتحدث عن الصراع بين اله السماء الواحد في الاديان، و الاله الشمس في وادي النيل، وتطورات الدين منذ نوح ومرورا لإبراهيم وموسى والذهاب لمصر والعودة إلى فلسطين أرض كنعان ، الصراعات التاريخية بين الروم والفرس، صراع العقائد وكيف أصبحت المسيحية مهيمنة في روما، لكنها مسيحية مختلفة عن مسيحية المشرق والأقباط، الاختلاف حول الأب والابن والروح القدس، حول الابن هل هو اله، من طبيعة واحدة إلهية ام طبيعتين، لاهوت وناسوت، والصراع حول ذلك، وقبل ذلك قتل حواري المسيح ثم صلبه هو، والقتال بعد ذلك على الاعتقاد الصحيح حول ماهية الإله واقانيمه الثلاث، ماذا يقول القرآن حول ذلك، كان الإمام يتبحر حول هذه الموضاعات، ويزداد شغفا بالبحث عن الحق، والبحث عن راحة البال. في القرية المبروك عبد الغفار الذي يعتقد أن له جنية تعشقه، كان قد أحب إحدى الفتيات التي تزوجت وتركته، يتصارع مع زوج الجنية، ويعيش معه معارك، يدخل في صراعات نفسية وواقعية، يعتكف في منزله يمرض، يتوعك  يصاب، كل ذلك يحصل في  صراعه مع الجن، وأخيرا تتفق الجنية مع زوجها، ويوحدا  قواهما عليه، ويحرقونه ويصبح رمادا ، لقد كان الإمام عبد الواحد شاهدا على ذلك. في القرية أيضا الأستاذ بدر المدرس القومي السوري المؤمن بسوريا الطبيعية والذي يناضل لتوحيدها، يدافع عن الحزب القومي السوري، يذكر مؤسس الحزب أنطون سعادة وكيف إعدمه النظام السوري بعد الاستقلال مباشرة، وهناك الأستاذ الياس المسيحي القومي العربي الذي يرى بعبد الناصر نموذجا للقائد القومي العربي، الذي يعول عليه بوحدة العرب وتقدمهم، وهناك ياسر الشيوعي الذي يرى أن التقدم مرتهن بالشيوعية والتبعية للاتحاد السوفييتي قائد العالم الجديد، هناك البعثي، وهناك الإسلامي الذي يرى تقدم الأمة مرهون بالعودة للاسلام، وهناك الماسوني، الذي يرى التقدم أساسه العلم، وأن العلم يقوده الغرب والغرب قائدنا وعلينا اتباعه. كان الكل يلتقي عند أحدهم ويتابع المستجدات، ويتناقشون يتصارعون وكل ينتصر من أجل معتقده، لكن الواقع يسير بشكل مختلف، بغض النظر عن رأي الكل، تنتهي مناقشاتهم وكل يذهب إلى بيته كأن شيئا لم يكن. في القرية يوشع يقتل صديقة زكريا ويهرب إلى العراق ويعمل في باديتها  مع الشيخ يورانس،  نتعرف على عوالم من أجواء التهريب وعلاقات الدول ومصالحها. في القرية الشيخ عبد الله يحرض على قتل الزانتين كوثر وأمينة، أما الإمام عبد الواحد، يدافع عنهما ، سواء من خلال تفسير النصوص بأن لا رجم في الاسلام، أو أنه لا يوجد دليل كافي على إدانتهم، ويساعد أمينة لتصل إلى مرحلة الاعتماد على ذاتها كيف وقع الأستاذ الياس في حبها، ويقرر اعتناق الإسلام ليتزوجها، ويتزوجها، لكن شباب القرية يهاجموهم في بيتهما ويقتلوا  أمينة الخاطئة، أما كوثر فقد حماها الامام، وساعدها وأعاد احترامها في القرية ، واحبها أحد الشباب واتفقا على الزواج. القرية لم تكن بعيدة عمّا يجري في سوريا عموما، الصراع بين حلف بغداد وعبد الناصر، وتأميم قناة السويس وانتصار عبد الناصر وتحوله لقائد قومي، الوحدة المصرية السورية، وكيفية تطور الدولة في سورية، الأجواء الأمنية، سيطرة المخابرات، الاعتقالات التي طالت الإسلاميين والشيوعيين، احضار المصريين إلى سورية ليقودوا الدوائر والمدارس وهم أقل كفاءة، انقلاب الإحساس تجاه الوحدة، الناس يعيشون مظلومية جديدة جعلت الكثير يهرب من سوريا إلى البلاد المجاورة. تواطؤ مجموعة من الضباط على الانقلاب، وحصول الانفصال ١٩٦١، الذي لم يستمر أكثر من سنتين، وقامت حركة آذار ١٩٦٣، التي سيطر فيها ضباط ناصريين وبعثيين ومستقلين، تحت دعوى إعادة الوحدة، وكان البعثيين منظمين ولهم لجنتهم  العسكرية، اقصي الناصريين من الحكم اولا. ثم المستقلين، ثم الجناح المدني للحزب بقيادة ميشيل عفاف وصلاح البيطار، وسيطرت اللجنة العسكرية التي كانت قيادتها محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وغيرهم، وتوسعت لاحقا، سيقصي  قادة اللجنة العسكرية بعضهم بعضا، ليرتفع على حكم سوريا حافظ الأسد، منذ ١٩٧٠، وهذا ما لم تصل له الرواية.

تنتهي الرواية وأمينة يقتلها اخوتها مع شباب الحي رغم توبتها وزواج الياس الذي أسلم لأجل ذلك منها، الشيخ عبد الله مات، والإمام عبد الواحد مازال يبحث في القرآن والكتب السماوية والتاريخ ولم يصل الى يقين تستقر نفسه عليه.

في تحليل الرواية نقول: نحن بحاجة لهكذا نوع من الروايات  تعيد تأريخ الحياة الريفية في الخمسينات بكل تفاصيلها الواقعية والمعرفية والاعتقادية، بأفكارها وعاداتها وتقاليدها، وخرافاتها، الرواية نجحت بذلك. نجحت الرواية بإعادة فتح ملف التعامل مع الإسلام، وأن هناك رؤى تقليدية قد تكون خاطئة وقد تكون مناقضة لجوهر الإسلام، وأن هناك رؤى أكثر عمقا وأكثر تعبيرا عن جوهر الدين ورسالته الخيّرة للبشر، للحرية والعدل والانسانية، الرواية تفتح آفاقا رحبة على معلومات في التاريخ الديني، وفي نصوص الدين ، وفي التاريخ الحقيقي، سواء لبلاد الشام المطرية ، أو مصر هبة النيل والصحراء والاله الغير مرئي، الرواية تعيد دفعنا للتفكير في المسلمات، وأن لا جواب نهائي في قضايا الغيب، وباب العقل مفتوح للبحث في كل شيء، كل الوقت. الرواية تقول رأيها بحذر حول الأحداث التاريخية، قد نختلف مع بعض الاستنتاجات، وقد نتفق، لكنها تقدم رأيها بمرونة ودون الحاح أو اجبار. الرواية تؤسس لما سيأتي في سورية الحديثة بعد عصر البعث الأول، أنها تؤسس لعمل روائي آخر يجب أن يكتب عن سورية بعد ١٩٧٠. الرواية تحدثت ان أبناء المطر وأن أهل بلاد الشام مهتمون بالسماء وما تقدمه من عطاءات للطبيعة. لكن سورية بعد ١٩٧٠، أصبحت مرهونة لسياسات تبعد كثيرا عن السماء والطبيعة والله والأديان والتاريخ، لتدخل في تاريخ الدولة السلطانية المستبدة المستعبدة لشعبها، والتي تعيد صياغة حياتهم احياء وامواتا لأجل السلطان الاعظم، المستبد الاله. ولابد من عمل روائي آخر يعيد تأريخ خروج العبيد عن حكم السلطان الإله ، وانتصار إنسانيتهم في الربيع السوري منذ ٢٠١١ إلى الآن بغض النظر عن ما حصل معهم من هزائم وفجائع أو انتصارات.

المصدر: الأيام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى