
بعد عدة سنوات من التمرد استعاد نظام الاسد سلطته على المناطق التي سبق أن خرجت عليه وتحررت في حلب وريف حماة وحمص وفي مناطق عديدة من ريف دمشق , وأخيرا من درعا . وربما يستعيد غدا أجزاء ومناطق أخرى مستفيدا من خدمات حليفيه الايراني والروسي العسكرية .
هذه حقيقة لا خلاف عليها , ولكنها تظل ناقصة ولا تصف سوى الجزء الظاهر من الواقع , وينبغي استكمالها لنرى الحقيقة كاملة بوجهيها , الظاهر والباطن . وللأسف لا يرى للعالم الخارجي سوى الوجه الاصطناعي للنظام السوري ويعجز عن رؤية وفهم طبيعته وحشوته وكنهه وأساليبه , بينما ينفرد المواطن السوري بقدرته على ادراك حقيقة هذا النظام الملعون كاملة بعد خمسين سنة مريرة من التسلط والاستبداد .
النظام العائد الى المناطق التي تمردت ليس هو نفس النظام الذي كان قائما قبل الثورة . إنه مختلف في العمق , وأسوأ من سابقه بدرجة كبيرة .
النظام القديم سقط بالفعل منذ بداية الانتفاضة وهتاف الجماهير ( الشعب يريد اسقاط النظام ) .. أما العائد فهو نظام آخر , لا يشبه الأول إلا بالشكل وبكون بشار الاسد وجهه البارز .
كان النظام القديم استبداديا شموليا , توتاليتاريا .لا يدرك مدى عنفه ووحشيته سوى فئتين من رعاياه وأقنانه :
تتألف الأولى من الذين خدموا في الجيش أو انتسبوا له , لمدة طويلة أو قصيرة .
والثانية تتألف من الذين عاشوا تجربة الاعتقال في زنازين الموت وأقبية الاستخبارات بتهمة أو بلا تهمة .
هاتان الفئتان فقط كان بإمكانهما رؤية حشوة النظام الطائفية الدموية , ومعرفة الوجه الحقيقي للسلطة التي تحكمه والتي نجحت في إنشاء نظام قمع دائم وشامل للسوريين بعامة, وللمكون السني بخاصة .
ففي داخل الجيش , وفي أقبية الاستخبارت حصرا يخلع نظام الاسد اقنعته وشعاراته , ويقف امام ضحيته سافرا الوجه . الضابط العلوي وهو يسحق الآخر السني يمارس عليه سلطة غير مقننة لا في الدستور ولا في القانون الجزائي , ولكنها تعكس ثقافة أو عقيدة باطنية عدائية كارهة لا يعرف الضحية مصدرها , ولا يدري لها سببا . يكتشف المواطن السوري أن الضابط العلوي يتعامل معه بعدائية مطلقة كما لو أنه من شعب آخر , أو جنس آخر .
وعندما كان الشباب الناشىء يتحدث عن وحدة السوريين واحلامهم في المستقبل وعن الأمل بتحقيق الوحدة العربية كان مواطنوهم الاكبر سنا وخاصة الذين خدموا في الجيش يردون : هل خدمتم العسكرية ..؟ .. لا .. فيردون إذا أنتم أغرار لا تعرفون شيئا , عندما تخدمون الجيش ستدركون حقائق الامور في هذا البلد ..وستغيرون حتما نظرتكم ومفاهيمكم !!.
كان هذا الحديث يتكرر باستمرار في الماضي , ولذلك كانت ( الثورة ) ضربا من المستحيل في نظر من يدركون طبيعة النظام القائم . وعندما قامت شعر هؤلاء أن زلزالا يهز نواميس الكون , وأن الفرصة لا يمكن تبديدها لأنها خارقة للواقع . وبالنسبة لهؤلاء ظل احتمال فشل الثورة واستعادة النظام سيطرته احتمالا ممكنا , وقد كتب الروائي مصطفى خليفة في عام 2012 مقالا عنوانه : ماذا لو انتصر الاسد ؟ في ذلك الوقت لم يكن احد من جمهور الثورة يمكنه تصور هذا الاحتمال ولو من باب الافتراض الذهني , ولكن الروائي والمناضل المجرب مصطفى خليفة أمكنه ذلك بفضل تجربة اعتقاله في تدمر لمدة اربع عشر سنة , كان الموت خلالها حلما رومانسيا عذبا لكل من عاش تلك التجربة الرهيبة .
النظام العائد سيكون بلا اقنعة , بلا رتوش البعث , ولا مساحيق العروبة , ولا اقنعة المقاومة والممانعة , سيكون نظام استعمار واستعباد سافرا يمارس ” حقه ” في تعذيب ضحاياه بعد أن تغلب عليهم في مصارعة دموية حرة تستعيد المشاهد الاصلية لهذا النوع من المصارعة التي كان الاباطرة والجمهور في روما القديمة يستمتعون بها , وعلى المهزوم أن يتقبل النتيجة الوحيدة لهزيمته بيد خصمه وسط تصفيق المتفرجين على الحفل الدموي بينما يرفع الامبراطور كأس النبيذ الاحمر للمتفوق ! .
النظام العائد لن يكون مستبدا , ولا سوريا , بل نظام علوي استعماري عنصري كنظام جنوب افريقيا العنصري في تعامله مع الاسود , أو النظام الاسرائيلي في علاقته بالفلسطيني الذي بقي في الخط الاخضر عام 1948 ولم ينزح مع الغالبية الى دول الشتات .
وسيجد النظام العلوي الاسدي في الباسيج الفارسي وفي المرتزقة الذين جندهم للدفاع عنه سندا ودعما ومعينا بشريا يغنيه عن الاعتماد على الرعايا السابقين , ويعوضه عن السكان الذين هجروا بطريقة ممنهجة ومخططة خارج وطنهم ووطن اسلافهم , باستيراد شعب بديل من الشيعة أو العلويين أو أي لون مشابه من هذا القبيل ليكون منهم طبقة انكشارية تمسك بأجهزة الجيش والامن والشرطة , وتسيطر على مفاصل الدولة , ومواردها الاقتصادية . وسوف يجد من بقي من السنة في سورية المفيدة نفسه تحت رحمة نظام حكم ونظام اجتماعي يراه ( نعمة من الله هيأها له لتخدمه ) ! كما يقول كثيرون من العلويين صراحة !
اقرأوا واسمعوا شهادات من اعتقلوا في زنازين الاستخبارات ثم اتيح لهم بالصدفة النجاة من أشداق الوحوش , أو شهادات العسكريين الذين انشقوا عن النظام متأخرين ..إلخ وتأملوا ما سمعوه من جلاديهم وقادتهم العلويين , وفكروا أي ثقافة أو عقيدة يحملها هؤلاء المستعمرون , وقارنوهم بصهاينة فلسطين ومستوطني جنوب افريقيا البيض في علاقتهم برعاياهم .. الآخرين .. وأعيدوا التفكير باقوال الاسد عن : من هو السوري .. ومن هو شعبه المختار لكي تتلمسوا مستقبل هذا البلد في ظل نظام الاسد الفارسي – العلوي .
===============================================
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية , العدد 358 الصادر في 13 – 1 – 2017 , ولذا وجب التنويه .