
السياسة كما يقال تكمن في ” التحليل الملموس للواقع الملموس ” , بكلام آخر هي فهم الواقع كما هو عليه بجميع عناصره والبناء على ذلك الفهم .
أي شعار يرفع لايمكن فهمه بعيدا عن شروط الواقع , والفدرالية هي شعار يرفع اليوم في سورية فكيف يمكن فهمه ضمن شروط الواقع الراهن ؟
يتم تقديم الشعار كبناء افتراضي يشبه المخططات النموذجية لمنزل مريح , حديث , بواجهة جميلة وحديقة مزروعة بالأشجار والزهور .
يقول المخطط :
دعونا نبني دولة لامركزية يتمتع كل كيان اجتماعي متميز فيها باستقلالية تامة بما في ذلك جيشها الخاص وادارتها المحلية التي تشرف على استثمار مواردها الطبيعية لصالح مجتمعها المحلي .
حسنا ماذا يبقى للدولة الفدرالية إذن ؟
يبقى لها ما تتسامح تلك الكيانات ببقائه , والمثال في ذلك كردستان العراق حيث يعيش الاقليم بصورة مستقلة شبه تامة عن المركز , ومع ذلك فهناك العلم العراقي إلى جانب علم الاقليم فوق الادارات الحكومية , وهناك التمثيل في برلمان لاقيمة حقيقية له في السياسة الداخلية والخارجية , وهناك توزيع الرئاسات الثلاث , وأشياء قليلة أخرى .
وبعبارة أكثرصراحة , فلدينا في العراق دولة كاملة الأوصاف ضمن الدولة , ويمكن في أي لحظة أن تدعو السكان لاستفتاء الانفصال باعتبار ذلك من حقها وحسب الدستور الفدرالي الذي ينص على الحق في تقرير مصير الاقليم .
لنترك الآن الفكرة الفدرالية المجردة ونموذج العراق ولنضع شروط الواقع السوري الراهن على الطاولة وننظر ماذا سوف يعني تطبيق الفدرالية سوريا .
بالنسبة لاقليم الجزيرة السورية الذي تفرض فيه قسد سيطرتها العسكرية وتقدم نفسها باعتبارها تمثل كيان الاقليم بدون شرعية ديمقراطية بل كسلطة أمر واقع أشبه ماتكون باحتلال عسكري يرتكز على قوة عسكرية جزء هام منها أجنبي ( حوالي عشرة آلاف مقاتل غير سوري من حزب العمال الكردستاني ) وقاعدة اجتماعية ضيقة للغاية نسبة لسكان الاقليم , هذه السلطة غير الشرعية وغير الديمقراطية ستصبح ضمن الفدرالية كيانا شرعيا وحكومة فدرالية معترفا بها , ولايعود لدى الدولة السورية والسوريين الحق في النظر إلى الجزيرة السورية سوى من خلال تلك السلطة , كما أن أي مواجهة من قبل العشائر العربية لهذا الاحتلال المقنع ستصبح تمردا غير شرعي ضد فدرالية مستقلة .
نأتي للساحل , فماذا تعني الفدرالية ضمن شروط الواقع في الساحل اليوم .
ضمن اقليم الساحل هناك انقسام كبير , فالطائفة العلوية التي تضم تيارا يطالب بالفدرالية لاتشكل سوى 50% من السكان في أفضل الأحوال , وضمن الطائفة العلوية ذاتها هناك تيار لايريد الفدرالية لأسباب متعددة , أما القسم الثاني من السكان ضمن اقليم الساحل من السنة العرب والمسيحيين والتركمان والأكراد فهم في أغلبيتهم الساحقة يرون في الفدرالية خطرا عليهم أكثرمن كونها خلاصا لهم .
فكيف يمكن حل تلك المعضلة ؟ في الحقيقة لايمكن حلها بأي طريقة عقلانية سلمية .
أخيرا لننظر لوضع الدروز في السويداء .
فالسويداء جغرافيا أسوأ مكان يمكن التفكير فيه بفدرالية , فمساحتها التي تزيد قليلا عن خمسة آلاف كم2 وطبيعتها الصخرية البركانية لاتتيح أية موارد اقتصادية ذات دلالة , وهناك قسم هام من الدروز استقروا منذ وقت طويل خارج السويداء ضمن مجتمع سوري متنوع في جرمانا وصحنايا ودمشق فبماذا ستفيدهم الفدرالية ؟
السويداء مرتبطة اقتصاديا بدمشق ارتباطا عضويا وتاريخيا , والفدرالية سوف يكون لها تأثير مباشر سيء على علاقة السويداء بكل جوارها , لماذا ؟ لأنها سوف تؤسس على أساس واحد وهو التعصب المذهبي .
فهل من مصلحة السويداء في شيء أن تضرإلى حد القطيعة بروابطها الاجتماعية والاقتصادية وهويتها العربية وتراثها الوطني ؟ ومن أجل ماذا ؟
أضف إلى كل ماسبق أن كل فدرالية من الفدراليات الثلاث سوف ترتبط بجهة خارجية مختلفة , فقسد ترتبط عضويا بكردستان العراق وأكراد تركيا من خلال حزب العمال الكردستاني , والعلويون في الساحل سيرتبطون بروسيا أو ايران او كليهما , أما الدروز فهناك خطر ربطهم عبر التيار الانعزالي الذي يدعو للفدرالية باسرائيل , وهكذا سوف يصبح الحديث عن دولة سورية غير ذي معنى سوى كقشرة رقيقة بدون قيمة حقيقية .
أخيرا : يهمل دعاة الفدرالية أهم عنصر واقعي في الموضوع وهو رغبة وارادة الأغلبية العربية السنية في كل سورية بما في ذلك الجزيرة والساحل وحتى السويداء , فهل يمكن التوصل إلى الفدرالية ضد ارادة تلك الأغلبية ؟
باختصار : من يرفع شعار الفدرالية واحد من اثنين : إما أن يكون جاهلا لما يعني تطبيقه على سورية في شروطها الواقعية الراهنة .
أو أنه يعني الانفصال نهائيا عن سورية والالتحاق بكيان آخروالاستعداد لصراع طويل لن ينتهي بخير له أولا ولسورية ثانيا .
الدول الخارجية قد تساعد الانفصاليين في طرحهم لهكذا حل .
لكن من يقرأ وضع الولايات المتحدة والغرب عموما وحتى اسرائيل سيعرف أنهم ليسوا بوارد الانخراط في حرب أهلية في سورية أبدا , حرب سوف يشعلها الاصرارعلى شعار الفدرالية وسوف تستمر طويلا , نعم هم مستعدون فقط لرمي الأسلحة للفرقاء المتحاربين حتى يحترق آخر منزل بقي في سورية سليما حتى الآن .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي