السائل والمسؤول وما بينهما…

سلام الكواكبي

اعتاد السوريون والسوريات العاملون في الحقل الإعلامي، أو جرى تعويدهم بالعصا، عقوداً، على ألا يطرحوا في المؤتمرات الصحافية وفي اللقاءات الرسمية إلا أسئلةً تمليها عليهم الأجهزة المختصة في السلطة. لتتحول من ثَمّ هذه اللقاءات إلى جلسات استماع ولا استمتاع بما يهرف به المسؤولون والمسؤولات طوال ساعات من دون مناقشة، أو اعتراض، أو استفسار، أو انتقاد. ولقد وصل الحال إلى أن اعتبرنا القاعدة في الإصغاء وفي التجاوب وفي المحاباة وفي الثناء على الكلام ومديح المتكلم والابتعاد عن إحراجه ولو بلطافة مصطنعة. وفي أخفّ العواقب على تجاوز الصحافي الخط الأحمر المرسوم من أباطرة الاستبداد، فسيكون إقصاؤه عن الحضور في المناسبات المماثلة، وفي أشدّها عقاباً سيكون جهاز الأمن ساهراً بعين واحدة لكي يخفيه ويغمض عيونه إلى الأبد وما بعد الأبد. وامتد التعوّد إلى المتلقّي الذي اعتقد أن الهدف من المؤتمرات الصحافية مع من هم في القيادة أن تحصر نفسها في كيل المديح أو طرح أسئلة غوغائية لا لون لها ولا رائحة ولا طعم. وفي أخبث المواقف، يُطلب من الصحافي المدجّن أن يطرح سؤالاً محرجاً لطرفٍ محدّد في المنصّة مع إذابة أسئلته الموجّهة إلى أصحاب الأمر في مصيره في ماء فاترة حد الغثيان.

لا تعني قدرة الصحافي أو الصحافية في بلدان العالم “الحر” نسبياً في طرح الأسئلة المُحرجة، أو في إعادة تكرارها، أن المسؤول سيتجاوب مع هذه الثنائية

اليوم، يكتشف السوريون، من العامة وحتى من النخبة، المؤتمرات الصحافية التي يواجه خلالها الصحافي الرئيس أو المسؤول بما طاب له من أسئلة، وحيث يمكن له أن يبدي عدم رضاه عن الجواب أو عدم اكتفائه بما ورد على لسان المسؤول، ليعيد صياغة السؤال بطريقةٍ يفهم منها هذا المسؤول بأنه لم يُجب فعلاً عما طُرح عليه، ومن مسؤوليته إجابةُ الصحافي/ة. لقد اعتادا على الطاعة والتمجيد للحاكم بأمره إلى درجةٍ صار من يختلف عنهم في الأسلوب ومن له تجربة أخرى وفي أجواء مختلفة ربما تتمتع بهامشٍ ما من الحرّية في التعبير وفي السؤال، شخصاً مستهجناً أو وقحاً أو مُغرضاً وراءه ما وراءه. ومن جهة أخرى، لا تعني قدرة الصحافي أو الصحافية في بلدان العالم “الحر” نسبياً في طرح الأسئلة المُحرجة، أو في إعادة تكرارها، أن المسؤول سيتجاوب مع هذه الثنائية، بل يمكن له حتى أن يتهرّب من الإجابة بلغة خشبية أفرزتها الخبرة الإعلامية والحنكة السياسية. وفي المحصلة، أدّى الإعلامي دوره، وبدا واضحاً لمتلقٍّ واعٍ أن المسؤول يتهرّب من الجواب وله الحكم في هذه الحالة.

هاج وماج بعضنا عندما قابل صحفيان شابّان الرئيس أحمد الشرع على قناة سوريا، موجّهين إليه أسئلة عادية، فيها بعضٌ قليلٌ من تغييرٍ في النمط الاستلقائي والتمجيدي الذي طاب لنا، غصباً عن عقولنا، أن نعتبره المرجع في خمسة عقود من الترهيب والترغيب. واعتبرنا إذاً أنهما افتقدا اللباقة والاحترام للضيف الكبير بطرح أسئلة تعجيزية أو مكرّرة أو مقاطعاتٍ لا عهد لنا بها. أعدتُ مشاهدة المقابلة مراراً، لأجد أن فيها من اللباقة والكياسة ما يتجاوز الجرعة المحمودة. حينها تأكّد شعوري بأننا، نحن السوريين، ما زلنا في أجواء حكم خيّل لبعضنا أننا ثرنا عليه لأسبابٍ عدة، منها الحصول على حرّية التعبير والتوجّه إلى المسؤول أيّاً كان، وكأنه مسؤولٌ أمامنا فعلاً عن أمورٍ يمكن محاسبته على تحقيقها أو عدمه. وبعد تدجين الإعلاميين في الحقبة البائدة، تبيّن أيضاً أن التدجين أصاب بعضنا، متلقّين ومتابعين، فكيف نفسّر ردات الفعل السلبية التي وصلت إلى درجة البحث عن الكمائن اللفظية وما وراء الأكمة لدى مراسلة تلفزيون العربي في باريس، لأنها طرحت سؤالاً مهنياً بامتياز على الرئيس الشرع في مؤتمره الصحافي الأربعاء الماضي في باريس؟

ما بال الممجّدين من لدننا يبالغون في الانحناء الذي، بعد عمر معيّن، يقصم الظهور؟

سألته عن “المجازر” التي جرت في الساحل، وهي موثّقة من منظمات محلية ودولية، واعترف المسؤولون بوقوعها وشكّلوا لجنة تحقيق للبحث فيها. ومفردة المجزرة تستخدم للدلالة على قتل جماعي وعنيف لأشخاصٍ كثيرين. ولا تحمل عمليات القتل هذه تبريراً، ويعكس عنفها الجانب الوحشي من الإنسان. لهذه العبارة أن تستخدم في سياق تاريخي أو سياسي، وذلك عند الحديث عن أحداث دموية قتل فيها مدنيون أو أسرى او أي فئة من الناس لا تمتلك أدوات الدفاع عن النفس. كما يلجأ إليها عند التطرّق إلى الحديث عن جرائم حرب أو إبادة جماعية. وغالباً ما يقع استخدامها لتوصيف جريمة قتل جماعي لأسبابٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو سياسية. يضاف إلى ذلك كله أن اللجوء إلى استخدام مفردة المجزرة لا يتطلب تحقيق حد أدنى من عدد الضحايا، فمقتلة محدودة لعدد محدود من البشر وبطريقة عنيفة ستتيح لمن سينقل أخبارها ويحلّل أبعادها ويصف نتائجها بأن يسميها مذبحة.

وسألته أيضاً عن وجود مفاوضات مع إسرائيل بخصوص اعتداءاتها الوقحة والإجرامية على الأراضي السورية. وهذا الموضوع يملأ الصحف ويتكرّر تناوله من الصحافة العالمية والعربية والإسرائيلية، فهل علينا أن نمعن في إدخال رؤوسنا في الرمال غير النظيفة حتى نكون واعين ومتحضرين لما تحفظه لنا الأيام المقبلة؟

لقد أجابها الرئيس الشرع بكل ارتياح وثقة، ولم يستشف من نبرته أي انزعاج أو تململ. فما بال الممجّدين من لَدُنّا يبالغون في الانحناء الذي، بعد عمر معيّن، يقصم الظهور؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى