
بنت الهند وباكستان قوتيهما النوويتين لكي تكونا عامل ردعٍ إذا ما فكّرت إحداهما في شنّ حربٍ على الأخرى. كانت تلك معضلة مثيرة للشفقة وموطِّنة للفقر الذي لا يفارق هاتين الدولتين. فمن أجل تحقيق هذا الهدف، أُجبِر الشعب في الدولتين على العيش في ظل مستوى معيشةٍ متدنّ، علاوة على تعطيل قدراتٍ بشرية وعلمية، كان الأَولى توظيفها في مشروعات التنمية التي يحتاجها أبناء الشعب للتخلص من آفتي الفقر والأمية اللتين ما زالتا تلازمانهم، في وقتٍ استطاعت فيه دول أخرى التخلص منهما حين استبعدت خيارات التسلح المكلفة. ومع ذلك تبيَّن أن اكتساب القوة النووية لا يمنع تحفز أي منهما في وجه الأخرى، ولا يقلل من التوترات ولا حتى يمنع اندلاع حرب، وهو ما شهدناه قبل أيام وما زال مستمراً، وتوقع البعض أن يجرّ إلى استخدام النووي إذا ما زادت حماسة الجنرالات.
عندما شرعت باكستان، في خمسينيات القرن الماضي، بتأسيس مشروعها النووي، كان مخصّصاً للاستخدامات السلمية. غير أن توجّه الهند، في سبعينيات القرن الماضي، إلى بناء مشروع نووي عسكري لإنتاج قنبلة نووية، دفع إسلام آباد لكي تنعطف باتجاه فكرة القنبلة النووية، فدخل البلدان في سباق نووي فاق قدرة كل منهما الاقتصادية للإيفاء بتكاليفه. وكان القادة والجنرالات في البلدين على علم بهذه التكاليف الباهظة، غير أن ذلك لم يردعهم أو يدفعهم إلى اعتماد الحوار والتفاوض سبيلاً لتخفيف حالة العداء والتوترات الدائمة بينهما. ومنذ التأسيس، لم تفارق فكرة عسكرة المشروع قادة البلدين؛ إذ نقل عن السياسي الباكستاني، ذو الفقار علي بوتو، الذي كان وزيراً للخارجية، في 1965، جوابه عن سؤال بشأن موقف بلاده إذا قررت الهند إنتاج سلاح نووي: “إذا صنعت الهند قنبلة نووية فإننا سنصنع نحن أيضاً قنبلة نووية حتى لو دفعنا ذلك إلى أكل العشب وأوراق الشجر، لا بديل آخر لدينا”.
أُجبِر الشعب في الهند وباكستان على العيش في ظل مستوى معيشةٍ متدنّ، علاوة على تعطيل قدراتٍ بشرية وعلمية
ثم تعزّز الدافع بعد حرب سنة 1971 بين البلدين، التي هزمت فيها باكستان، وأدّت إلى استقلال بنغلادش عنها، ثم جاءت التجربة النووية الهندية سنة 1974 لتزيد من ذلك الدافع. وقد كانت المغامرة الباكستانية المكلفة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، والتي تقارب ما يمكن اعتبارها ملحمة وطنية بسبب العقبات التي جابهت المشروع، ووصل إلى درجة اقترانه بمسألة الكرامة الوطنية، كانت دافعاً للعميد الباكستاني المتقاعد، فيروز خان، إلى إصدار كتاب شامل بعنوان “أكل العشب، صناعة القنبلة الباكستانية”، (منشورات جامعة ستانفورد، 2012)، يؤرّخ فيه لبرنامج الأسلحة النووية، ويعتبر أن تاريخ القنبلة الباكستانية هو تاريخ باكستان، أي يربطها بمصير البلاد. ويسجل الكتاب الآلام التي رافقت إنتاجها والتضحيات التي تطلبها هذا الأمر، إضافة إلى محاولة الهند والولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي استهداف البرنامج الباكستاني مرّة بالتجسس عليه ومرّات بخطط لضربه عسكرياً عبر استهداف منشأة كاهوتا النووية، على الرغم من السرّية الكبيرة التي أحاطت البرنامج النووي الباكستاني، منعاً لاستهداف كهذا.
قد يكون القادة والجنرالات في الهند وباكستان، قبل غيرهما في الدول الأخرى، أول من فوجئوا بانهيار مفهوم الردع النووي الذي كان دافعاً لباكستان، على الأقل، لبناء قنبلتها النووية، وانضمامها إلى نادي الدول النووية. لذلك لا يُعرف إلى أي مدى ستتطور المواجهة التي اندلعت بين البلدين، في 6 مايو/ أيار الجاري، بعدما هاجمت الهند باكستان بتسعة صواريخ أدّت إلى دمار في عدة مواقع عسكرية ومدنية منها، بينها أحد المساجد وقتل مدنيين، مع العلم أن كلاماً كثيراً قد خرج وتحذيرات كثيرة قد أطلقت حول خطر اللجوء إلى السلاح النووي في لحظة ما من الحرب، إذا ما استمرّت وتحولت إلى حرب شاملة. فإذا ما رفضت الهند الوساطات، وبقيت على قرارها إلغاء معاهدة نهر السند التي نصّت على تقاسم مياه هذا النهر العابر، وصمدت أكثر من ستة عقود، وإذا ما استمرّت في رفض الدعوات الباكستانية إلى التحقيق الشفاف في التفجيرات الإرهابية التي وقعت في كشمير الهندية، في 22 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، واتهمت الهند باكستان بالوقوف خلفها، فإن المواجهة التي ما زالت تقتصر على الضربات الجوية يمكن أن تتطوّر إلى مواجهات برّية، لا يمكن التكهن إلى أي مدى ستصل.
قد يكون القادة والجنرالات في الهند وباكستان، قبل غيرهما في الدول الأخرى، أول من فوجئوا بانهيار مفهوم الردع النووي
إذا افترضنا أن هجوماً هندياً كبيراً أدّى إلى عبور القوات الهندية الحدود واحتلالها أراضي باكستانية، دفع باكستان إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية، فتطلب ردّاً نووياً هندياً، فإن مستقبلاً أسود للبلدين والمنطقة، وربما للكوكب، يكون قد تقرّر لحظتها. وبينما سبّب البرنامج النووي في البلدين فقراً ومجاعات أكثر من نصف قرن، فإن الإشعاع النووي والغبار الأرضي الذي سيغطّي السماء في المنطقة، وينتشر تدريجياً بحسب الرياح، سيؤدّي إلى شتاء نووي في كلا البلدين، ثم في البلدان الأخرى، ما سيقضي على المحاصيل الزراعية وينشر الأوبئة على مستوى العالم، مهدّداً وجود الجنس البشري وبقية الكائنات.
كان من المتوقع من الدول والمنظمات الدولية، انطلاقاً من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، أن تهرع إلى التوسّط لإيجاد السبل لوقف العمليات الحربية وتخفيف التوترات بين البلدين منعاً لاندلاع مواجهة نووية. غير أن ردود فعل الدول الغربية والصين وروسيا كانت مخيبة للآمال. وزاد في الأمر سوءاً وجود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب في السلطة، الذي كان عاملاً في إضعاف جهد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والدول الفاعلة في تطبيق القانون الدولي، لكونه الكفيل في إجبار الدولتين على الامتثال لقواعده، منعاً لتطور الصراع إلى حرب تقليدية شاملة، لن يطول الأمر كثيراً بعدها حتى تتصاعد إلى درجة لا يجد الجنرالات حامو الرؤوس في كلا البلدين بداً من استخدام الأسلحة النووية، انتقاماً لكراماتٍ شخصية مهدورة، وتحطيماً لكوكبٍ تُرك قادة دوله على هواهم لتقرير مصيره.
المصدر: العربي الجديد