أصوات المقاومة الفلسطينية

كمال عبداللطيف

يمتلك خيار المقاومة اليوم مبرّرات تحويله خياراً لا رجعة فيه، خياراً متواصلاً ومؤسَّساً على مبادئ قادرة على معانقة ذاكرة وأفق التحرّر والتحرير. ولا يتعلّق الأمر بموقف صارم من جنون الصهيونية وسعيها الرامي إلى إبادة الشعب الفلسطيني، بل إنه يرتبط، أولاً وأخيراً، بمخزون ذاكرة المقاومة الفلسطينية الحافظ لمختلف صور مواجهتها للكيان الصهيوني، سبعة عقود من الاحتلال والمحو، وتركيب السردية الصهيونية بدعم مُقرّر (ومُعلَن) من الغرب الاستعماري، الذي أوكل إلى الصهاينة حراسة مصالحه في المشرق العربي.

من حقّ رافضي المقاومة والغاضبين عليها أن يعبّروا عن مواقفهم جهراً، ضمن حدود ومقتضيات حروب ومعارك التحرير كما حصلت في العالم، من حقّهم احتضان أوهام السلام والتبشير بها، ثمّ التسليم بواقع الحال والمآل، في عالم لا يعترف إلا بلغة القوة وقيمها. كما أن من حقّ أصوات المقاومة القائمة المتواصلة اليوم، والمقاومات التي حصلت طوال سبعة عقود من الاحتلال، أن تواصل رفع راياتها وشعاراتها وأغانيها، بصورةٍ لا تتوقّف، من أجل مواجهة أسلحة مشروع الإبادة الصهيوني كلّها، وهو مشروعٌ يعرف حرّاس المقاومة اليوم أنه بدأ بمعارك 1948، ولم يتوقّف سبعة عقود من الحرق والتدمير والتهجير والحلم بتمدُّد الدولة اليهودية في قلب المحيط العربي، وارتبط بموضوع حلِّ المسألة اليهودية في الغرب الإمبريالي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وقد وُجد هذا الحلم في صيغة الوعد المانح أرضَ فلسطين لقادة المشروع الصهيوني، ما جعل الصهاينة اليوم يتطلّعون إلى مواصلة اقتلاع من تبقّى من الفلسطينيين وتهجيرهم، بل الحلم الأكبر الهادف إلى اختراق الجغرافية العربية من المحيط إلى الخليج.

لا نفصل بهاء (وقوّة) مقاومة فلسطينيّي الداخل (لا تنقطع إلا لتبدأ) عن انتفاضات الآباء والأجداد ومقاوماتهم، نضعها في سياقها ولا نفصلها عن سجلّ ذاكرة المقاومة المتواصلة من أجل استقلال الأرض والإنسان. إنها تعكس جوانبَ من تحوّلات القضية الفلسطينية في التاريخ، وهي تُعدّ بمثابة ردّة فعل أجيال جديدة في فلسطين اليوم، مُستنِدةً إلى معطيات وتراكمات نضالية تمنحها سمات خاصّة. إنها تتّجه إلى مواصلة مقاومة الغطرسة والعنصرية الإسرائيلية. فقد توّهمت إسرائيل أن تداعيات الصراعات القائمة اليوم في المحيط العربي، تسمح لها أكثر (من أيّ وقت مضى) بمزيد من تضييق الخناق على الفلسطينيين، وذلك بمزيد من الضمّ والاستيطان وتوسيع دائرة الأنظمة العربية المُطبِّعة، متناسيةً أن الشعوب العربية لا يمكن أن تطبّع مع الصهيونية وخياراتها المتوحّشة. وقد عملت مع حليفها الأكبر وبعض الأنظمة العربية من أجل تطبيع عربي أوسع، يمنحها مزيداً من توسيع كيانها وترسيخه، وسط ظرفية فلسطينية مهتزّة في الداخل، وشروط واقع عربي لم يعد بإمكانه أن يساهم في تقوية العمل السياسي الداعم للمشروع الوطني الفلسطيني.

يواصل الأحرار التغنّي بعدالة القضية الفلسطينية، وبقدرة الفلسطينيين على استرجاع حقوقهم والعودة إلى ديارهم

يستعين حملة مشروع المقاومة اليوم بذاكرة مشحونة بكثير من الصّور العاكسة أوجه مواجهة كلّ الأصوات المُشكّكة أو الخائنة، الأصوات التي لم يعد أصحابها يتردّدون في وصف المقاومات الحاصلة بنعوت غريبة، إنهم يستعينون بسجلّ الخيانات والأخطاء والأوهام، وهم يحملون في تلافيف جلدهم وثناياه تاريخ صور المقاومات التي حملت أحلامَ (وأغاني) المقاومين في الأرض المحتلّة وفي المحيط العربي الكبير، بل في العالم أجمع، إذ يواصل الأحرار التغنّي بعدالة القضية الفلسطينية، وبقدرة الفلسطينيين على استرجاع حقوقهم والعودة إلى ديارهم. صحيح أن أصوات المقاومة الفلسطينية اليوم، تنظر بكثير من الأسى إلى الصمت الذي أصبح سمةً ملازمةً للحاضر العربي ولمؤسّسات المجتمع الدولي، لكن جرائم الكيان الصهيوني المتواصلة تستدعي مواصلة الجهد وإبداع طرائق جديدة في المقاومة، قادرة على الحدّ من جبروت الصهاينة وعنفهم، وعنف من يقف معهم. وهذا الأمر يُعدّ من الممكنات بلغة الحرب والمقاومة والتحرير.

تَتعزّز إرادة المقاومة بذاكرة تحضر فيها صور شراء الأرض وسرقتها، صور تزوير التاريخ والثقافة بلغة الأساطير والمرويات الدينية المركّبة، والموجّهة اليوم نحو مزيد من احتلال الأرض، ثمّ امتلاكها بعد طرد أهلها وتهجيرهم أو إبادتهم. ويحصل دعم ما سبق بذاكرة الأهازيج الممتزجة ببكاء الأطفال والنساء والشيوخ فوق الدمار وتحت الأنقاض. بكائهم في الصباح والمساء والليل. ونتصوّر أن خيار المقاومة يتقوّى بأمرَين: الوعي التاريخي الذي يقرّ بصعوبة التحرير، والصبر المقاوم الذي يدرك أن جنون الصهيونية وهمجيتها لا يمكن مواجهتهما إلا بلغة تجارب التاريخ، أي بمواصلة رفع رايات المقاومة وتنويع آلياتها ووسائلها. وهو يتقوّى أيضاً، لأنه يُرتّب شعاراته وهو يراجع أخطاء الوطنيين الفلسطينيين، وأخطاء الحركات القومية العربية، وهي أخطاء تنعش خياراته الجديدة وتمنحها الآفاق المناسبة لمشاريعها في تطوير آلياتها وتنويع أساليبها، الأمر الذي يسمح بتبلور خيارات في المقاومة يكون بإمكانها تجاوز مبادئ السلام واتفاقياته المُعادِلة للهوان، ومواجهة سياسة الضمّ المتواصلة والاستيطان المتنكّرة لكلّ اتفاقيات مبادئ السلام الكاذبة.

لا يمكن أن تطبّع الشعوب العربية مع الصهيونية وخياراتها المتوحّشة

يجب ألّا نتردّد أو نخجل من الحديث عن إمكانية المقاومة بالصمت والجفاء، المقاومة بالصمت الغاضب، فعندما نكون أمام جبروت سياسات لا نستطيع اليوم والآن مجابهتها ومغالبة صور اختراقها للمجتمعات العربية، لن يمنعنا أحد من لبس حال المقاومة الصامتة بالمزايا كلّها التي تَستبطِن والآفاق التي تَفتح أمامنا. المقاومة بالصمت هنا خيار مؤقّت، يُفضي (آجلاً أو عاجلاً) إلى طريق لا يستطيع أحد أن يتكهن الآن بمزاياه أو نواقصه. ولنواصل تضميد جراحنا ولا نتوقّف عن المقاومة.

لا أحد يستطيع التنبّؤ اليوم بنهاية الحرب. خلية الحرب الصهيونية لا تخجل من تقمّص دور الضحية، فهي تضرب اليوم بصورة عشوائية وتدّعي أنها تدافع عن نفسها. تقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتهدم وتحرق الأرض والإنسان، متطلّعةً إلى تحقيق الإبادة الجماعية. ووسط المجازر والحرائق المشتعلة لا نتردّد في الإقرار بأن زغاريد المقاومة، التي فجّرها فعل “طوفان الأقصى” وملأت أرض فلسطين، تُعدّ بمعايير الحرب والتاريخ خطوةً أولى في درب طويل، خطوة تقطع مع أوهام الكيان الصهيوني الذي استباحت مخابراته اليوم كثيراً من الفضاءات في المحيط العربي، في زمن التراجعات الكبرى و”صفقة القرن”. نحن أمام خطوة أولى في طريق القطع مع مختلف تجلّيات الشرّ المُطلق التي تعـلنها الحرب الأميركية الصهيونية المتواصلة. المقاومة خطوة أولى ضرورية في طريق التحرير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى